إذا قام القائم سار إليها..
الكوفة محطّ الأنبياء ومستقرّ الأولياء
_____ إعداد: «شعائر» _____
يغفل التاريخ عن التمصير الإلهي لمنطقة الكوفة ومسجدها؛ فقد كانت بقعةً مقدّسة منذ أن سجدت الملائكة لآدم عليه السلام فيها، كما في المرويّ عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أولُ بقعةٍ عُبد الله عليها ظهرُ الكوفة، لمّا أمر اللهُ الملائكةَ أنْ يسجدوا لآدم، سَجدوا على ظهر الكوفة». رواه العياشي في (تفسيره)، وعنه في (البحار).
ومدينة الكوفة بعدُ -وفقاً لعددٍ من التواريخ والتفاسير:
* مرسى سفينة النبيّ نوح: ﴿..واسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ..﴾، وهو جبلٌ بنجف الكوفة.
* وهي الجبل الذي كلّم الله عليه النبيّ موسى، والمقصودة في قوله تعالى: ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾.
* والكوفة موضعُ ولادة النبيّ عيسى ﴿..وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾، على نبيّنا وآله وعليهم السلام.
ولا يسع هذا المختصر الكلامُ على الكوفة بما يفيها حقّها. لذا، اكتفينا في هذا التحقيق بتسليط الضوء على الكوفة الحاضرة الإسلامية الأبرز بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله، ومسجدها الذي اتّخذه أمير المؤمنين دار أمارة وحُكم إبان خلافته الظاهرية. ومن المصادر المعتمدة في إنجازه، كتاب (في محراب كربلاء - حوادث الكوفة)، للشيخ حسين كوراني، متناً ومستندات.
اتُّخذت الكوفة بلداً ومصراً عام 17 للهجرة بعد أن خاضتْ الجيوش الإسلاميّة جولات حامية الوطيس، أحرزت فيها انتصارات تاريخيّة على القطبين اللّذين كانا القوّتين الأعظم على المستوى العالميّ آنذاك، وهما الروم والفرس.
وقد أسّست هذه الانتصارات لجولات الحَسم النهائي لمعادلة القوّة، لا في هذه المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم كلّه. وكان تحصين هذه الانتصارات والاستعداد لما يليها يحتّم إقامة الجيش في موقعٍ يمكّنه التعاملَ مع هذين الهدفين بيُسر؛ فكانت الكوفة.
ورغم وجود أعداد كبيرة من الجيوش الإسلاميّة في كلّ من البصرة والشام، إلاّ أنّ الثّقل العسكري الأبرز كان للكوفة بلا منازع، فهي الثكنة العسكريّة الأولى التي تشكّل الاحتياط والمدَد لمختلف المناطق حين يستدعي الأمر.
وقد نزلت الكوفة أعداد كبيرة من القبائل العربيّة المختلفة، عدا من التحق فيهم من الفرس والنّبط، ومن النصارى واليهود.
المِصْر الأعظم
يُدرك المتَتبّع، وبمُنتهى اليُسر، أنّ الكوفة تُشكِّل في التاريخ الإسلامي، بدءاً من تمصيرها، المركز السياسي والعسكري الأول؛ فهي بحكم موقعها الجغرافي، المحور بين المدينة المنوّرة والبصرة، والشام وخراسان وما والاهُما، ما جعلها -بالإضافة إلى المدة التي اتخذها فيها أمير المؤمنين عاصمة دولة الإسلام- في موقع العاصمة الحقيقية على الدوام، فهي أول مدينة اختطها المسلمون في العراق، وكان لها ولايات كثيرة وتوابع عظيمة. ويظهر هذا الموقع المتقدم جداً للكوفة، على سائر الحواضر الإسلامية، من خلال المحاور التالية:
- كانت تمدّ كلّ المناطق التي تحتاج إلى المجاهدين بأعداد كبيرة.
- والي الكوفة يبسط نفوذه على كل ما يعرف الآن بالعراق، ما عدا البصرة، بل كان يتجاوز نفوذه ليبلغ مناطق شاسعة في ما يعرف اليوم باسم إيران...
- الكوفة كانت مفصلاً رئيساً في بسط النفوذ -عادةً- على العالم الإسلامي كلّه، وقد بقيَ حكم الأمويين وحكم ابن الزبير مؤرجحاً إلى أن حُسم الموقف في الكوفة لصالح الأمويين..
- كان معاوية يحمل همّها في وصيته ليزيد: «وانظر أهل العراق، فإنْ سألوك أن تعزل عنهم كلّ يوم عاملاً فافعل، فإنّ عزْل عامل أحبّ إليّ من أن تُشهر مائة ألف سيف».
وربما كان هذا الموقع الاستراتيجي للكوفة في بعدَيه الجغرافي والسياسي، في طليعة الأسباب التي جعلت أمير المؤمنين يتّخذ الكوفة عاصمة له. قال عليه السلام: «إنّ الأموال والرجال بالعراق، ولأهل الشام وثبة أحبّ أن اكون قريباً منها».
الكوفة مركز الخلافة
دخل الامام عليّ عليه السلام الكوفة بعد الانتهاء من حرب الجمل في البصرة عام 36 هجرية، وجعلها عاصمة خلافته حتى يوم استشهاده سنة 40.
وفي الكوفة كان كثير من قبائلها من اليمن، وكانت لهم صِلة طيبة بعليّ عليه السلام منذ أرسله اليهم النبيّ صلّى الله عليه وآله سنة 9 من الهجرة، فبثّ فيهم الإسلام من دون قتال، فأحبّوه ووالوه من ذلك الوقت.
أعطى قدوم الإمام صلوات الله عليه ثقلاً ودعماً لمكانة الكوفة في الإسلام، فاستوطنها جماعة من أشراف العرب، وصارت متزعّمة للجانب الجهادي في الفتوح، وللجانب الفكري في المعارف الإسلامية، فتحوّلت «كوفة الجُند» إلى «كوفة القبائل»، ومن بعدها إلى «كوفة العلم والأدب»، لأن عدداً كبيراً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله، والتابعين الحاملين للأحاديث النبوية الشريفة، قد انتقلوا من المدينة إلى الكوفة. فازداد عدد سكّانها، وأصبحت مصراً عظيماً ذات كثافة سكانية، وتنوّع في الأعراق، يقطنه أناس من مختلف الأمصار والبقاع، وفيها من الموالي والعرب على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية والمهنية والثقافية، كلّ ذلك مصحوباً بازدهار اقتصاديّ ورغدٍ من العيش، حتى قال أمير المؤمنين عليه السلام: »ما أصبحَ بالكوفة أحدٌ إلا ناعماً؛ إنّ أدناهم منزلةً لَيأكلُ البرّ، ويجلس في الظلّ، ويشرب من ماء الفرات».
ولا تفوت الإشارة إلى أن أمير المؤمنين عليه السلام قد عانى كثيراً مع أهل الكوفة. ظهر ذلك في كثير من خطبه وكلماته. منها قوله عليه السلام : «ولقد أصحبتِ الأممُ تخافُ ظلْمَ رُعاتها، وأصبحتُ أخافُ ظلمَ رعيّتي . . . أيها القومُ الشاهدةُ أبدانُهم، الغائبةُ عنهم عقولُهم، المختلفةُ أهواؤهم، المبتلى بهم أُمراؤهم، صاحبُكم يطيعُ اللهَ وأنتم تعصونه، وصاحبُ أهل الشام يَعصي الله وهم يُطيعونه، لوَددتُ -واللهِ- أن معاوية صارفني بكم صرْفَ الدينار بالدرهم، فأخذ منّي عشرةً منكم، وأعطاني رجلاً منهم».
مسجدها مركز العلم والأدب
مسجد الكوفة هو أقدم من كلّ المساجد، عدا بيت الله الحرام، فهو مهبط الملائكة من قبل خلْق آدم، والبقعة المباركة التي بارك الله فيها، و مسجد أبينا آدم وما بعده من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، ومصلّى ابراهيم، والمسجد الذي حنّ إليه قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله حين مرّ على البراق ومعه جبرئيل ليلة الإسراء والمعراج، وهو مسجد الأولياء والصدّيقين.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: «النافلة في هذا المسجد تعدِل عُمرةً مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم... وقد صلّى فيه ألفُ نبيٍّ وألفُ وصيّ».
ومع مرور الأيام، أصبحت الكوفة مركزاً للأدب والعلم، وفي مسجدها دُرست علوم القرآن، ففيه كانت أوّل مدرسة لإقراء القرآن الكريم، والحديث، والفقه، والنحو، والخطّ، والبلاغة، وغير ذلك من العلوم... وأصبح المسجد مركز الدولة، ومكان اللقاء بالوفود القادمة من الأمصار، ومركز القضاء، ومِن على منبر مسجد الكوفة ألقى أمير المؤمنين عليه السلام عدداً غير قليل من خطبه العظيمة المدوّنة في (نهج البلاغة)... وما تزال آثاره صلوات الله عليه شامخةً في محرابه ومنبره، وفي جنباته بالرغم من تعاقب الدهور.
القائم عليه السلام في الكوفة
في روايات أهل البيت عليهم السلام ما يسلّط الضوء على دور الكوفة ومسجدها عند ظهور الإمام المهديّ عجل الله فرجه الشريف. من هذه الروايات:
- عن الأصبغ بن نباتة، قال: «بينما نحن ذات يوم حولَ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في مسجد الكوفة، إذ قال: يا أهلَ الكوفة، لقد حَبَاكم اللهُ عزّ وجلّ بما لم يحبُ به أحداً من فضل. مصلّاكم بيتُ آدم، وبيت نوح، وبيت إدريس، ومصلّى إبراهيم الخليل، ومصلّى أخي الخضر عليهم السلام، ومصلّاي ... وليأتينّ عليه زمان يكون مصلّى المهدّي من وُلدي، ومصلّى كّل مؤمن، ولا يبقى على الأرض مؤمنٌ إلا كان به، أو حنّ قلبه إليه..».
- وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: «إذا دخلَ القائمُ عليه السلام الكوفةَ، لم يَبقَ مؤمنٌ إلاّ وهو بها، أو يَجيءُ إليها».
- وعنه عليه السلام من ضمن حديثِ طويل: «إذا قام القائمُ عليه السلام سار إلى الكوفة... ووسّع الطريق الأعظم...فلا يترُك بدْعةً إلاّ أزالها، ولا سُنّةً إلا أَقامَها».