الوَساطة
حركة مثلَّثة الأضلاع بين مُحايِد ومُتَخاصِمَين
إعداد: خضر إبراهيم
أَوْلَت اللُّغة العربيّة مكانةً رفيعةً للوَساطة، فمَنَحتْها الشُّمول والعُمق، في مدلولها اللُّغوي، وفي البُعد الأخلاقي- الإنساني على الصَّعيدَيْن الإجتماعي والسِّياسي.
والوَساطة في اللّسان العربي هي المصدر، وهي عمل الوَسيط، أي المُتوسِّط بين مُتخاصمَين، الذي هو أيضاً الشَّريف الحسيب في بني قومه.
يُقال: هو في واسِطة قَوْمه، أيْ خِيارهم. ثمَّ إنَّ الوَساطة هي العِلَّة التي بسببها يَنبثِق الفأل الحَسَنُ من عتمة الشُّؤم. ويَصف بعض اللُّغويّين «الواسطة» بالجوهرة التي في وَسَط العقْد، وهي أجْوَد جواهره.
إكتَسَبت الوَساطة معناها السِّياسي الإجتماعي مِن اعتبارها المَسعى الذي تَقوم به دولة ما، أو منظَّمة دوليّة بغيَة التَّوفيق بين دولتَين متنازِعتَين، وإيجاد تسوية للخلاف القائم بينهما، وذلك إمّا بواسطة دولة أجنبية، أو بواسطة شخصيّة مرموقة تَعمل بِوَحْيٍ منها، أو بناءً على طَلَب أحد الطَّرفَين، أو تكليف إحدى المنظَّمات الدُّوليّة أو القاريّة أو الإقليميّة.
ولِلوَساطة مواصفات وشروط ينبغي على الجهة المعنيّة أنْ توفِّرها لأجل النّجاح في مهمتها. وأبرزها ما يلي:
- أن تكون الجهة المُتواسطة حياديّة بين الطَّرفَين المُتنازعَين، وأن تكون مقبولة منهما.
- أن تَتوفَّر الرّغبة لدى الطَّرفَين المُتنازعَين بإجراء الوساطة من جانب طَرَفٍ مُتوافَقٍ عليه.
- أنَّ الدَّولة الوَسيطة تقدِّم وساطتها بملء إرادتها دون أن تكون مُرغَمة على ذلك.
- أنَّ الدَّولة المتنازِعة حرّة في قبول الوَساطة أو رفضها، لأنَّ الوَسيط ليس قاضياً يَفرض الحلَّ الذي يؤمِن بعدالته.
- أنَّ نتيجة الوساطة ليست إلزاميّة، ولا يُمكن فرضها على الطَّرفَين المُتنازعَين كما هو الأمر في التَّحكيم.
- أنَّ الوسيط يَسعى لتهدئة الأمور، أو يَشترك مباشرةً في المفاوضات ويَسعى لِتَقريب وجهات نَظَر الطَّرفَين المُتبانية، وادِّعاءاتها المُتضاربة، والتَّقدّم بِحُلول قد يَقبل بها الطَّرفان دون ضغط أو إكراه، تاركاً لهما ملء الحرِّيّة في الموافقة عليها.
ولقد حاولت إتِّفاقيّات لاهاي لعام 1899م وعام 1907م تنظيم الوَساطة واعتبارها مجرَّد مَشُورة غير إلزاميّة، سواء تمَّت بصورةٍ عفويّة، أم بناءً على طلب إحدى الدُّول المُتنازِعة، ونصَّت الإتفاقيات على أنَّ الوساطة لا تُعتبر عملاً غير ودِّيّ، وأنّه يَحقّ للدُّول إعادة عَرْض وساطتها رغم رفضها في المرّة الأُولى.
ولقد اكتَسبَ مفهوم الوَساطة في لبنان معنىً خاصّاً ومتعدِّد الأَوْجُه، بحيث شَمل: الوَساطة الشَّخصيّة والوَساطة الحزبيّة، وتلك التي قامت بها أجهزة الدَّولة بين الأطراف المُتحاربة إبّان الحرب الأهليّة، ناهيك عن الأطراف الدُّوليّة، والشَّخصيّات المُنتَدَبة من منظَّمات عالميّة، أو تابعة للأُمم المتَّحدة. ولعلَّ مزيّة الوساطة في حروب لبنان، أنّها أَنتجت هُدَناً أمنيّة وسياسيّة ولم تُنتِج حلّاً ثابتاً ودائماً.
ومِن أغرب «الوَساطات» التي شهدها لبنان، «وَساطة» المبعوث الأمريكي فيليب حبيب عام 1982م، الذي بَدا مُنحازاً بالكامل للجانب الصُّهيوني، حيث طَرَح خمسة شروط تعجيزيّة لِتحقيق إنسحاب جيش الإحتلال «الإسرائيلي».
وفي السَّنوات اللّاحقة، شَهِد لبنان عدّة وَساطات دوليّة وعربيّة بين الأطراف المُتحارِبة، منها المبادرة الجزائريّة بوساطة الأخضر الإبراهيمي إبّان ما عُرف بحرب الجنرال ميشال عون سنة 1989م.
وإلى الوَساطة التَّقليديّة، هناك ما سُمِّي بالمَساعي الحميدة، وهذا النّوع جرى في لبنان في حالات كثيرة. وقد حصلت المساعي الحميدة بِصُورة سرِّيّة، واقتصَرت على تيسير المفاوضات وتذليل العقبات بين المعنيِّين، لكنّها لم تُسْفِر يوماً عن تسوياتٍ أو حُلولٍ جدِّيّة.