كيف نفّذ الاستعمار خطته في صناعة «الإسلام البريطانيّ»، الذي صار «الإسلام الأميركيّ»؟
هكذا تأسّس الإسلام البريطانيّ - 2 (برواية جون فيلبي)
- بقلم: الشيخ حسين كَوْراني
في كتابه (تاريخ نجد، ودعوة الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب السلفيّة، تعريب عمر الديراوي، مكتبة مدبولي، القاهرة 1994) (ص 409، فما بعدها)، تحدّث «جون فيلبي» مطوّلاً بلسان «عبد العزيز» عمّا كانت تفكّر به بريطانيا لضمان استمرار حُكم المساحات الشاسعة من نجد التي ثبّتت بريطانيا سلطة «آل سعود» عليها، وضمان اتّساع هذه المساحات وتعاظم السلطة بحيث تكون مؤهّلة لحمل مشروع الإسلام البريطانيّ البديل عن الإسلام الأصيل، الذي يصرّ «فيلبي» على اعتباره مشروع «عبد العزيز»، وقد تركتُ النصّ كما هو لم أتدخل خلاله، مكتفياً بعناوين فرعيّة للفقرات.
***
* حول تفكير بريطانيا بحاجة الدول إلى جيشٍ عقائديّ لضمان استمرارها، قال «فيلبي» عمّا كان يفكّر به «عبد العزيز آل سعود»!:
«ولا بدّ أنّ ابن سعود أمضى ساعاتٍ وساعات خلال سنوات الكفاح السابقة وهو يفكّر في الوسائل الكفيلة بمجابهة أهواء القدَر وتقلّباته، هذا القدر الذي أذلّ أسلافه بين الحين والآخر خلال تاريخ الحركة الوهّابيّة التي بوّأت البيت السعوديّ مكان السيادة في الجزيرة العربيّة. وقد شاهد هو بنفسه انهيار دولة محمّد بن رشيد (ولعب دوراً بارزاً في هذا السبيل) حالما توفّي صاحب اليد القويّة وزالت قبضته عن دفّة السفينة.
وحتّى الإمبراطوريّة العربية في أيّام الإسلام الأولى تبدّدت بفعل القيادة الضعيفة والانحطاط الذي ولّدته ثروة الأقاليم التي فتحها المسلمون...».
* تأسيس بريطانيا جيش «الإخوان» ونسبة التأسيس إلى عبد العزيز
قال فيلبي: «ومع ذلك، يُمكن الافتراض أنّ فكرة نهضةٍ وهّابيّةٍ أخرى كانت تختمر في رأس ابن سعود كعاملٍ سياسيّ يستفيد منه...
لقد تأثر بفكرة جديدة من النوع العاديّ لهذه النّهضات، وقد ركّز جهود دعاته وحاملي رسالته بين البَدْو، تلك الجهود التي بدأت ثمارها في الظهور سنة 1912.
فَفي تلك السنة اجتمعت جماعة مختلفة من قبائل (حرب) و(مطير) في حرما بالقرب من المجمعة متأثّرة بتحذيرات الدعاة من العقاب الأبديّ، وأخذت تبحث عن معلومات أوفى حول هذا الموضوع ومن مصادر أوثق، وقد ساعدهم في هذا الأمر المتحمّسون من السكّان المحليّين. إلا أن تعصّبهم وشدّة تمسكّهم وتزمّتهم لمظاهر التقوى الشخصيّة سرعان ما أسخطتْ عليهم السكّان الآخرين».
* ابتداع بريطانيا «دار الهجرة»، تشبّهاً بالمدينة المنوّرة! وقرار الهجرة إلى المهجر الأول «أرطاويّة»
«وقد قرّرت هذه الجماعة التي عُرفت باسم (الإخوان)، البالغ عددها خمسين شخصاً وعائلاتهم، الهجرةَ إلى بيئة يكونون فيها أقلّ تعرّضاً للخطر. فوقع اختيارهم على آبار أرطاوية الواقعة على طريق القوافل بين الكويت والقصيم، لتكون بمثابة مستعمرة نُسّاك، وسرعان ما أصبح هذا المهجَر نموذجاً للتجمّعات العسكريّة الدينيّة التي ظهرتْ تباعاً بسرعة مدهشة في جميع أنحاء البلاد التي تتوفّر فيها الأحوال الملائمة للحياة الاجتماعيّة في هذه المهاجر التعاونيّة».
* تكتُّم «فيلبي» على مصدر التّمويل
«أما ابن سعود الذي بدأ عمليّة التجديد بين البَدْو بواسطة دُعاته ومرشديه، فقد وضع جميع التسهيلات الضروريّة تحت تصرّفهم: المال والحبوب والأدوات الزراعيّة وعلماء الدين، وكلّ ما هو ضروريّ لبناء الجوامع والمدارس والمساكن. وأخيراً زوّدها بالذخيرة والسلاح اللازم للدفاع عن مذهبٍ كان أهمّ مبادئة نبْذ جميع العادات الوثنية والتقاليد القَبَليّة الموروثة. فالأُخوّة القائمة بين جميع الناس الذين اعتنقوا المذهبَ الجديد، بغضّ النظر عن أنسابهم القبليّة ومراكزهم الاجتماعيّة، وجّهتْ شوق العرب للحرب، إلى خدمة الله ووكيله على الأرض. وأصبحت الغارات المتبادَلة والسرقة على قارعة الطريق، والتدخين وترَف الحياة وطراوتها محرّمة. وتركّز جُلّ الاهتمام في هذه التعاونيّات (المستعمرات) في التفكير والعمل لحياةٍ أخرى».
* نشاط الخمسين رجلاً؟
«أمّا نشاط الخمسين رجلاً من الإخوان وأعمالهم، فقد كانتْ مدار بحثٍ واسعٍ في القبائل التي هجروها، فوفدَ المتطوّعون من كلّ ناحية لينضمّوا إليهم. وسرعان ما أصبحتْ أرطاويّة مدينة مزدهرة تضمّ عشرة آلاف من السكّان. وتبعَتْها (غطغط) في مقاطعة ضرما فتأسّست فيها نواة من عتيبة، اعتنقوا المذهب الجديد. ومع مرور الزمن أصبحتْ في المرتبة الثانية بعد أرطاويّة في حماسها وأهمّيتها. ثم أُنشئتِ القُرى في كلّ مركز بسرعة مدهشة، فنالت كلٌّ منها جزاءها في الدنيا والآخرة.
هذا مع العلم أنّ حماسهم البالغ مبلغ التعصّب في القضاء على الوثنيّين المشركين (كلمة ضمّنوها غير المسلمين، والمسلمين الذين لم يعتنقوا مذهبهم في الدين القويم) كان يستلزم الضبط والتقيّد في ساعة النصر والسِّلم على السواء. ولهذا كان جيش ابن سعود يضمّ أيضاً قوّةً من الإخوان، يسيرون تحت أعلامهم الخاصّة يرافقهم البَدو الذين لم يعتنقوا المذهب بعد، والحضَر من الجيش الوطنيّ القديم. فكلّ فصيلة لها مهمّتها الخاصّة التي تقوم بها في العمليّات الحربيّة الآنيّة. وكان الإخوان هم خميرة المجموعة كلّها بحكم شراستهم واندفاعهم العظيم الذي كثيراً ما أفاد ابن سعود في التغلّب على أعدائه.
* ازدياد عدد الهجر (دور الهجرة!)، ومعرفة «فيلبي» المريبة!
«وفي السنوات التالية ازداد عدد هجر الإخوان مع انتشار الحركة إلى أقصى نواحي ديار البَدو. غير أنّ المنزلة الرفيعة في سجّل الشرف يجب أن تكون من حظّ الهجر الأولى التي اتُّخذت نموذجاً للأخرى. فاعتنقوا المذهب من قبيلة مطير واستقرّوا في أرطاوية، عاصمة المذهب الجديد، وامتدّت فروعهم الى مبيض، وبوضا، وفريتان Furaithan ومليح، والقريتان The two Quariyas. أما بطن برقة من قبيلة عتيبة فكان صاحب غطغط ذات الصّيت البعيد، والروضة، وسنام، بينما أسّس بطن رقة هُجَراً له في داهنة، وسوح، وساجر، وعسيلة، وكبشان، ونيفي. أما هجر حرب فكانت دخنة، والدليميّة، وقرين، وساقية، وحليفا، وحنيظل، وبارود، وخصيبا، وقبا، وفوارة. ونزل المهتدون من شُمّر في بنوان، وفطيم، وقصير، وحفيرة، وبلازية، وخبة، واليتم، والأجفر، وكهفا، وبيضة نائل. أما عناصر عنيزة فاستوطنت في شعبيه، والقلبان، وشفيق، بينما قصدت قبيلة هنيم المتواضعة الى خريفات، والمسعى، ومرير. وأما قحطان فهي صاحبة هياثم، وجعفر، وحصاة alHasat (حفيرية) في حين أن أهل وادي الدواسر استوطنوا مشيرفة، ووسيطة من جملة أماكن أخرى. وسكن العجمان في صرار Sarar، وحنينا Hanina، وصحاف Sahaf، والعقير، وعريرة، ونطاع Nata. أما العوازم فاستوطنوا الحاسي، وتج، والحنات، وعتيق. وكان هناك مستعمرات مختلطة في شباك، وأبيرق، وعين دار: أما الإخوان من سبيع، والسهول فاستوطنوا ظبيع، وبظع (بدع)، وسنيسف، وأخضر، وطسم، والرويضة».
* معسكرات تدريب، سمّيت «مهاجر»
«وهكذا كانت القبائل ومهاجرها... وهي التي كوّنت الناموس الجديد. وسرعان ما وضعها ابن سعود موضع العمل في حملات المرحلة الثانية من مراحل زحْفه لقيادة الجزيرة العربية وسيادتها. وقد بدا أنّ حملات تلك المرحلة قد تعدّت بصورة ما، نوعية الحروب الضيّقة المحدودة إلى مستوى أعلى في الصراع الدوليّ، لتواجه مجازفات خطيرة أعظم من أيّ مجازفة واجهتها من قبل».
* انتصارات بريطانيا بهم، وانقلابهم عليها
«وقد نجح ابن سعود في حروبه هذه، وكان مديناً بهذا النجاح الى قوات الإخوان على الخصوص، غير أنّهم ما لبثوا أن وضعوا سياسته في مأزقٍ حَرِج، عندما أصبحت مسؤوليّاته الدوليّة تصطدم مع المعتقدات الدينيّة لرعاياه، فالمؤرّخ النجديّ -الذي كتب بعد الحادثة- يوضح كيف أنّ ابن سعود الكريم اختصّ المستعمرات ومكّنها من الوقوف على أقدامها؛ فعيّن أميراً وكل إليه تطبيق العدالة بين الضعيف والقويّ من أبنائها،كما زوّد كلّ واحدةٍ منها بفقيه يعرّف أهلها بحدود الشرع ويهديهم إلى ما فيه منجاتهم في الدنيا والآخرة.
هذا علاوة على أنّه وفّر للمهاجر الطعام بسخاء، ويسّر لهم الآلات الزراعيّة والسلاح والذخيرة.
ويقول المؤرّخ: ظلت هذه الهجر ثابتة الإيمان مدّة خمسة أعوام حتّى ملأتهم الثروة والرخاء بالكبرياء وجعلتهم يفاخرون بقولهم: إنّ انتصارات ابن سعود كانت ثمرة بسالتهم وشِيَمهم الكريمة.
ويضيف قائلاً: هذا ما كانوا يعتقدونه.. وسأفصّل فيما بعد ما ترتب على مسلَكهم هذا من نتائج».
* وللبحث صلات.