عيد الغدير
يوم العهد المعهود والميثاق المأخوذ
«غدير خُمّ» من المواضع الإسلاميّة التي شهدت غير موقفٍ من مواقف النّبيّ صلّى الله عليه وآله، فهو يقع في طريق الهجرة النبويّة، وفي طريق عودة النبيّ صلّى الله عليه وآله من حجّة الوداع. واشتهر الموقع بحادثة الولاية للإمام أمير المؤمنين عليه السلام، أكثر من شهرته موقعاً أو منزلاً من معالم طريق الهجرة النبويّة، أو من طريق العودة من حجّة الوداع.
ومن هنا اكتسب موضع «غدير خُمّ» أهميته الجغرافيّة، ومنزلته التكريميّة كمَعْلَمة خطيرة من معالم التاريخ الإسلامي.
يتناول هذا التحقيق المقتبس من عدة مصادر -في مقدّمتها كتاب (الغدير) للعلامة الشيخ عبد الحسين الأميني، وبحث ميداني للشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي رحمهما الله- وصفَ مشهد النصّ النبويّ بالولاية لأمير المؤمنين عليه السلام، والوصف التاريخيّ لموقع «غدير خمّ»، مع الإشارة إلـى الأعمال المندوب إليها شرعاً فيه.
جاء في الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: «يومُ غديرِ خُمّ أفضلُ أعيادِ أُمّتِي، وهو اليومُ الذي أَمَرَني اللهُ عزّ وجلّ بِنَصبِ أخي عليّ بن أبي طالبٍ عَلَماً لِأمّتي يَهتدونَ بِهِ مِن بَعدي، وهو اليومُ الذي أَكمَلَ فيه الدِّين، وأَتَمّ على أمّتي فيه النّعمة، ورَضِيَ لهُم الإسلامَ دِيناً».
ورُوي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: «إنّ يومَ الغديرِ عيدُ اللهِ الأكبرُ، وما بعثَ اللهُ عزّ وجلّ نبيّاً إلا عرّفه حُرمَتَه، وإنّه عيدٌ في السّماء والأرض، واسمُه في السّماء: يومُ العهدِ المعهود، وفي الأرض: يومُ الميثاقِ المأخوذ والجَمعِ المشهود».
ويُستفاد من مراجعة المصادر التاريخية أنّ يوم الثامن عشر من شهر ذي الحِجّة الحرام، كان معروفاً بين المسلمين بيوم «عيد الغدير»، وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة؛ إلى درجة أنّ ابن خلّكان، الذي تحدّث عن مبايعة الخليفة العباسي المستعلي ابن المستنصر، يقول: «بُويع في يوم عيد غدير خمّ، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحِجّة..».
والغديرُ -لغةً: هو «المنخفض الطبيعيّ من الأرض، يجتمع فيه ماء المطر أو ماء السّيل، ولا يبقى إلى القَيظ».
وعلّلوا تسمية المنخفض الذي يجتمع فيه الماء «غديراً» بــأنّه اسمُ مفعول لمغادرة السّيل له؛ أي أنّ السّيل عندما يملأ المنخفض بالماء يغادره؛ بمعنى يتركه بمائه.
أمّا خُمّ: «فاسمُ رجلٍ صبّاغ، أُضيف إليه الغدير الّذي بين مكّة والمدينة بالجُحفة».
وقيل: «إنّ خُمّاً اسمُ غيضةٍ هناك، وبها غديرٌ نُسِبَ إليها».
تسميات الموقع
1) اشتهر الموضع باسم: «غدير خُمّ»، ففي حديث السّيرة لابن كثير، بسنده عن جابر الأنصاريّ، قال: «كنّا بالجُحفة بغدير خُمّ، فخرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وآله من خباء أو فسطاط...».
2) كما أنّه يُسمّى بـ «وادي خُمّ»؛ أخذاً من واقع الموضع: «خُمّ: وادٍ بين مكّة والمدينة عند الجُحفَة، به غدير...».
3)وقد يُطلق عليه «خُمّ» اختصاراً.
4) وأُطلق عليه في بعض الحديث اسم: «الجُحْفَة»؛ من باب تسمية الجزء باسم الكلّ، لأنّ «خُمّ» جزء من وادي الجحفة الكبير.
5) ويقال له: «الخرّار».
6) ويختصر ناسُنا اليوم الاسم فيُطلقون عليه: «الغَدير».
7) وقد يُطلق عليه: «غدير الجُحْفة». ويعنون بقولهم: «في الجُحفة» أو «بالجحفة» وادي الجحفة، لا القرية الّتي هي الميقات.
8) الغُرَبَة، وهو الاسم الراهن الذي يُسمّيه به أبناء المنطقة في أيّامنا هذه. يقول المؤرّخ الحجازي المعاصر عاتق بن غيث البلادي في كتابه (معجم معالم الحجاز): «ويعرف غدير خُمّ اليوم باسم (الغُرَبَة)؛ وهو غديرٌ عليه نخلٌ قليل... وكانت عين الجحفة تنبع من قرب الغدير... وتركبُ الغديرَ من الغرب والشّمال الغربي آثارُ بلدة كان لها سُور حَجَري لا زال ظاهراً، وأنقاضُ الآثار تدلّ على أنّ بعضها كان قصوراً أو قلاعاً، وربّما كان هذا حيّاً من أحياء مدينة الجُحْفَة...».
وثمّة طريقان تُؤدّيان إلى موقع غدير خُمّ.
1) طريق الجحفة: طولها 8 كيلومترات، تبدأ من مفرق الجُحفة عند مطار رابغ.
2) طريق رابغ: وتبدأ من مفرق طريق مكّة - المدينة العامّ، الداخل إلى مدينة رابغ، والمسافة من إلى الغدير 26 كيلواً تقريباً.
المعالم الطبيعية في «غَدير خُمّ»
احتفظ لنا التاريخ بصورةٍ تكاد تكون كاملة المعالم، متكاملة الأبعاد، لموضع غدير خُمّ، فذكر أنّه يضمّ -فضلاً عن «العين» و«الغدير» المشار إليهما آنفاً- المعالم التالية:
1) الشّجر: في حديث الطّبراني: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله خطب بغدير خُمّ تحت شجرات».
وفي حديث الحاكم: «لَمّا رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله من حجّة الوداع، ونزل غدير خُمّ، أمر بدَوحات فقُمِمن».
والشّجر المشار إليه هنا من نوع «السَّمُر»، واحده «سَمُرَة»، وهو من شجر الطَّلَح؛ وهو شجرٌ عظيم، ولذا عُبِّر عنه بـ «الدّوح» كما في الأحاديث والأشعار، واحدُه «دَوحة»؛ وهي الشّجرة العظيمة المتشعّبة ذات الفروع الممتدّة، وهو غير «الغيضة» الآتي ذكرها؛ لأنّه متفرّقٌ في الوادي هنا وهناك.
2) الغَيْضة: وهي الموضع الّذي يكثر فيه الشّجر ويلتفّ، وموقعها حول الغدير.
3)النّبت البَرّي: «المَرْخ، والثُّمام، والأراك»، كما في (بلدان) ياقوت الحَموي. [الأول نبت سريع الاشتعال، والثاني يُخلط مع الطين للبناء، والثالث معروف]
4) المسجد: وذكروا أنّ فيه مسجداً شُيِّد على المكان الّذي وقف فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله، وصلّى وخطبَ ونصبَ عليّاً صلوات الله عليه للمسلمين خليفة ووليّاً. وعَيّنوا موقعه بين الغدير والعَين، قال البكريّ في (معجمه): «وبين الغدير والعين مسجدُ النّبيّ صلّى الله عليه وآله».
ويبدو أنّ هذا المسجد قد تَداعى ولم يبقَ منه في زمن الشّهيد الأوّل (استُشهد: 786 للهجرة) إلّا جدرانه، كما أشار إليه «صاحب الجواهر»، نقلاً عن (الدّروس) للشّهيد الأوّل، قال: «وفي الدّروس: والمسجدُ باقٍ إلى الآن جدرانُه..».
وعن أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام، قال: «يُستَحَبُّ الصّلاةُ فِي مسجدِ الغدير؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلّى اللهُ عليه وآلِه أقامَ فيه أميرَ المؤمنين عليهِ السلام، وهو مَوْضِعٌ أظهرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ فيه الحَقَّ».
وقد ذكر استحباب الصلاة في موضع مسجد الغدير غيرُ واحد من فقهائنا الإماميّة، منهم: الشيخ الطّوسي في (النّهاية)، والشيخ النّجفي في (الجواهر)، والسيّد محسن الحكيم في (منهاج النّاسكين)، قال: «وكذا يُستَحبّ الصلاة في مسجد غدير خُمّ، والإكثار من الابتهال والدّعاء فيه».
5) «هذا الوادي موصوفٌ بكثرة الوخامة»، أي أنه غير ملائم للسّكنى فيه. مع ذلك استوطنه «أناسٌ من خُزاعة وكِنانة غير كثير».
مشهد النصّ بالولاية
ويُنسَق على ما تقدّم مِن وصف الموضع تاريخيّاً، وصفُ حادثة الولاية بخطواتها المتسلسلة، والمترتّب بعضُها على بعض؛ لتكتمل الصورة للحادثة التي أعطت هذا الموضع الشريف أهميته كمَعْلم مهمّ من معالم السيرة النبوية المقدّسة، وتتلخّص بالتالي:
1) وصول الركب النّبويّ بعد منصرَفه من حجّة الوداع إلى موضع غدير خُمّ، ضُحى نهار الثامن عشر من شهر ذي الحجّة الحرام من السنة الحادية عشرة للهجرة.
2) ولأنّ هذا الموضع كان مفترَق الطُّرق المؤدّية إلى المدينة المنوّرة، والعراق، والشّام، ومصر، تفرّق النّاس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله متّجهين وجهةَ أوطانهم، فأمر صلّى الله عليه وآله عليّاً عليه السلام أن يجمعَهم بردّ المتقدِّم وانتظار المتأخِّر. ففي حديث جابر بن عبد الله الأنصاريّ: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله نزل بخُمّ، فتنحّى النّاسُ عنه.. فأمر عليّاً فجمعَهم».
3) ونزل الرسول قريباً من خمس سَمُرات دوحات متقاربات، ونهى أن يُجلَس تحتهنّ.
4) ثمَّ أمر صلّى الله عليه وآله أن يُقَمَّ [يُكنَس] ما تحت تلكم السّمرات من شَوك، وأن تُشذّب فروعهنّ المتدلّية، وأنْ تُرشّ الأرض تحتهنّ.
5) وبعد أن نزلت الجموع منازلها وأخذت أماكنها، أمر صلّى الله عليه وآله مناديه أن ينادي: «الصّلاةَ جامعة».
6) وبعد أن تكاملت الصفوف للصّلاة جماعة، قام صلّى الله عليه وآله إماماً بين شجرتَين من تلكم السّمرات الخمس.
7) وظُلِّلَ لرسول الله صلّى الله عليه وآله عن الشّمس أثناء صلاته، بثوبٍ عُلّق على إحدى الشّجرتَين.
8) وكان ذلك اليوم هاجراً شديد الحرّ.
9) وبعد أن انصرف صلّى الله عليه وآله من صلاته، أمر أن يُصنَع له منبرٌ من أقتاب الإبل.
10) ثمَّ صعد صلّى الله عليه وآله المنبر متوسّداً يدَ عليّ عليه السلام.
11) وخطب صلّى الله عليه وآله خطبته.
12) «ثمَّ طفقَ القومُ يهنّئون أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وممّن هنّأه في مقدّم الصحابة: أبو بكر وعمر، كلٌّ يقول: بخٍ بخٍ لك يا ابنَ أبي طالب! أصبحتَ وأمسيتَ مولايَ ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة».
13) وقال ابن عبّاس: «وَجَبَتْ -واللهِ- في أعناق القوم»؛ يعني بذلك البيعة بالولاية والإمرة والخلافة.
14) ثمَّ استأذن الرسولَ شاعرُه حسّانُ بن ثابت في أن يقول شعراً في المناسبة، فقال صلّى الله عليه وآله: قلْ على بركة الله، فأنشد حسّان قصيدته المشهورة، ومطلعها:
يُناديهم يومَ الغديرِ نبيُّهم
|
بخمٍّ، وأسْمِعْ بالرّسول مُناديا
|
وروى شيخ الحنابلة أحمد بن حنبل في (مسنده) حديث الغدير وهذا لفظه: «..عن البراء بن عازب، قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في سفر، فنزلنا بغدير خمّ، فنُودي فينا: الصّلاة جامعة، وكُسح لرسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم تحت شجرتين، فصلّى الظّهر، وأخذ بيد عليٍّ [عليه السلام]، فقال: ألستُم تعلمونَ أنّي أَولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: بلى، قال: ألستُم تعلمون أنّي أَولى بكلّ مؤمنٍ من نفسه؟
قالوا: بلى، فأخذ بيد عليٍّ [عليه السلام]، فقال: مَن كنتُ مولاه، فَعَلِيٌّ مولاه، اللّهُمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه.
فلقيه عمرُ بعدَ ذلك، فقال له: هنيئاً يا ابنَ أبي طالب، أصبحتَ وأمسيتَ مَولى كلٍّ مؤمنٍ ومؤمنة».
***
هذا مجمل القول في واقعة الغدير، وقد أصفقت الأمّة على هذا. وليست في العالم كلّه وعلى مستوى البسيطة واقعة إسلاميّة غديريّة غيره، ولو أُطلق يومه فلا ينصرف إلّا إليه، وإن قيل محلّه، فهو هذا المحلّ المعروف على أَمَمٍ من الجُحفة.