تعبير فنّي جديد مبتكر
الأمثال القرآنية
___ الشيخ جعفر السبحاني*___
دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن مشتمل على الأمثال، وأنّه سبحانه ضرب بها مثلاً للناس للتفكير والعبرة، قال سبحانه: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الحشر:21. إلى غير ذلك من الآيات التي تدلّ على وجود الأمثال في القرآن، وأنّ الروح الأمين نزل بها، وكانت مثلاً حين النزول على قلب سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ومن جانب آخر إنّ المثل عبارة عن كلام ألقي في واقعة لمناسبة اقتضت إلقاء ذلك الكلام، ثمّ تداولت عبر الزمان في الوقائع التي هي على غرارها، كما هو الحال في عامّة الأمثال العالمية. والمثل بهذا المعنى غير موجود في القرآن الكريم، كيف وقد أسماه سبحانه مثلاً عند النزول قبل أن يعيها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويقرأها للناس، ويدور على الألسن، فلا مناص من تفسير المثل في القرآن بمعنى آخر، وهو التمثيل القياسي الذي تعرّض إليه علماء البلاغة في علم البيان، وهو قائم بالتشبيه، والاستعارة، والكناية، والمجاز.
قال صاحب (الصورة الفنية في المثل القرآني):«وقد امتازت صيغة المثل القرآني بأنّها لم تُنقل عن حادثة معينة، أو واقعة متخيّلة أعيدت مكرورة تمثيلاً، وضُرب موردها تنظيراً، وإنّما ابتُدع المثل القرآني ابتداعاً دون حذو احتذاه، وبلا مورد سبقه، فهو تعبير فنّي جديد ابتكره القرآن حتى عاد صبغة متفرّدة في الأداء، والتركيب، والإشارة».
أقسام التمثيل
إنّ التمثيل عبارة عن إعطاء منزلة شيء لشيء عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو المجاز أو غير ذلك، فهو على أقسام:
1. التمثيل الرمزي: وهو ما يُنقل عن لسان الطيور والنباتات والأحجار بصورة الرمز والتعمية ويكون كناية عن معاني دقيقة، وهذا النوع من التمثيل يعجّ به كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفّع. وهناك محاولة تروم إلى أنّ القصص القرآنية كلّها من هذا القبيل، أي رمز لحقائق عُلوية دون أن يكون لها واقعية وراء الذهن، وبذلك يفسّرون قصّة آدم مع الشيطان، وغلبة الشيطان عليه، أو قصّة هابيل وقابيل وقتل قابيل أخاه، أو تكلّم النملة مع سليمان عليه السلام، وغيرها من القصص. وهذه المحاولة تُضادّ صريح القرآن الكريم، فإنّه يصرّح بأنها قصص تحكي عن حقائق غيبية لم يكن يعرفها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا غيره، قال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يوسف:111. إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن بأجمعه هو الحقّ الذي لا يدانيه الباطل.
2. التمثيل القصصي: وهو بيان أحوال الأمم الماضية بُغية أخذ العبر للتشابه الموجود. يقول سبحانه: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ التحريم:10. والقصص الواردة في أحوال الأمم الغابرة التي يعبَّر عنها بـ«قصص القرآن»، هي تشبيه مصرّح وتشبيه كامن، والغاية هي أخذ العبرة.
3. التمثيل الطبيعي: وهو عبارة عن تشبيه غير الملموس بالملموس، والمتوهّم بالمشاهد، شريطة أن يكون المشبّه به من الأمور التكوينية، قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ يونس:24.
والأمثال القرآنية تدور بين كونها تمثيلاً قصصياً، أو تمثيلاً طبيعياً كونياً. وأمّا التمثيل الرمزي فإنّما يقول به أهل التأويل.
تقسيم الأمثال القرآنية إلى الصريح والكامن
يمكن تفسير المثَل الكامن بالتمثيلات التي وردت في الذكر الحكيم من دون أن يقترن بكلمة «مَثَل» أو «كاف التشبيه»، ولكنّه في الواقع تمثيل رائع لحقيقة عقلية بعيدة عن الحسّ المجسّد بما في التمثيل من الأمر المحسوس، ومن هذا الباب قوله سبحانه:
1. ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَالله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ التوبة:109.
إنّه سبحانه شبّه بنيانهم على نار جهنم بالبناء على جانب نهر هذه صفته، فكما أنّ من بنى على جانب هذا النهر فإنّه ينهار بناءه في الماء ولا يثبت، فكذلك بناء هؤلاء ينهار ويسقط في نار جهنّم، فالآية تدلّ على أنّه لا يستوي عمل المتّقي وعمل المنافق، فإنّ عمل المؤمن المتّقي ثابت مستقيم مبنيّ على أصل صحيح ثابت، وعمل المنافق ليس بثابت وهو واهٍ ساقط.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ الأعراف:40.
كانت العرب تمثّل للشيء البعيد المنال، بقولهم: «لا أفعل كذا حتّى يشيب الغراب»، إلى غير ذلك من الأمثال. ولكنّه سبحانه مثّل لاستحالة دخول الكافر الجنّة بأنّهم يدخلون لو دخل الجمل في ثقب الإبرة، معبّراً عن كونهم لا يدخلون الجنّة أبداً.
ففي الآية تمثيل، وليس لها من لفظ المَثَل وحرف التشبيه أثر.
3. ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ الأعراف:58.
إنّ هذا مثَل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فأخبر بأنّ الأرض كلّها جنس واحد، إلّا أنّ منها طيّبة تلين بالمطر، ويحسُن نباتها ويكثر ريعها، ومنها سبخة لا تُنبت شيئاً، فإنْ أنبتت فممّا لا منفعة فيه، وكذلك القلوب كلّها لحم ودم، ثمّ منها ليّن يقبل الوعظ، ومنها قاسٍ جافٍّ لا يقبل الوعظ، فليشكر الله تعالى مَن لان قلبه بذكره. وفي ذيل الآية ﴿كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ﴾ إلمامٌ إلى كونه تمثيلاً.
المراد من ضرب المثل
قد استعمل الذكر الحكيم كلّاً من لفظَي «المِثْل» و«المَثَل» في غير واحد من سوره وآياته حتى ناهز استعمالهما ثمانين مرّة. و«الأمثال» جمعٌ لكليهما، ويميَّزان بالقرائن، قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ.. ﴾ الأعراف:194، وهو في المقام جمع المِثْل لشهادة أنّه يحكم على آلهتهم بأنّها مثلُهم في الحاجة والإمكان.
وقال سبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الحشر:21. فاقتران الأمثال بلفظ الضرب، دليل على أنه جمع مَثَل. إلّا أنّ المهمّ هو دراسة معنى «الضرب» في هذا المورد ونظائره، فكثيراً ما يقارِن لفظ المَثَل لفظ الضرب، يقول سبحانه: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلًا.. ﴾ النحل:75. وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ الزمر:27.
وقد اختلفت كلمتهم في تفسير لفظ «الضرب» في هذا المقام، بعد اتّفاقهم على أنّه في اللغة بمعنى إيقاع شيء على شيء، ويتعدّى باليد أو بالعصي أو بغيرهما من آلات الضرب، قال سبحانه: ﴿..أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ.. ﴾ الأعراف:160، وقد ذكروا وجوهاً:
الأوّل: أنّ الضرب في هذه الموارد بمعنى المثَل، والمراد هو التمثيل، وهو خيرة ابن منظور واستشهد بقوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ يس:13، أي مَثِّلْ لهم مثلاً، وهو حال أصحاب القرية، وقال: ﴿..يَضْرِبُ الله الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ.. ﴾ الرعد:17، أي يُمثّل الله الحقّ والباطل. وهذا خيرة صاحب (القاموس [المحيط]) أيضاً.
الثاني: أنّ الضرب بمعنى الوصف والبيان، وقد حُكي عن مقاتل بن سليمان، وفسّر به قوله سبحانه: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ.. ﴾ النحل:75.
الثالث: أنّ الضرب بمعنى الاعتماد والتثبيت، وهو خِيرة الشيخ الطوسي، والزمخشري، والآلوسي، فقد فسّروا به قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ.. ﴾ الحج:73.
الرابع: أنّ الضرب في المقام من باب الضرب في الأرض وقطع المسير، وضرْب المثَل عبارة عن جعله سائراً في البلاد كقولك: ضرب في الأرض إذا سار فيها، ومنه سمّي الضارب مضارباً. فإذا كان الضرب بمعنى قطع الأرض وطيّها، فضرْب المثل عبارة عن جعله شيئاً سائراً بين الأقوام والشعوب يمشي ويسير حتى يستوعب القلوب.
* مختصر عن كتابه (الأمثال في القرآن الكريم)