موسم وداع الدنيا والخلْق
موجز في التعريف بأشهُر «الحجّ» وأصنافه
* رُوي عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام في بيان أسرار الحجّ و دقائقه، قولُه صلوات الله عليه من ضمن حديثٍ طويل: «اذا أردتَ الحجّ، فجرّدْ قلبَك للهِ عزّ و جلّ... من كلّ شُغْلٍ شاغِل... وفوِّض أمورَك كلّها إلى خالقِك، وتوكّلْ عليه... وسلّم لقضائه وحُكمه وقَدَره، وودِّعِ الدنيا والراحةَ والخَلق..».
تتضمّن هذه المقالة تعريفاً موجزاً بمعنى «الحجّ» شرعاً، وبيان أصنافه وأشهُره التي لا يجوز الإحرام في ما عداها، نقلاً مختصراً عن كتابَي (تذكرة الفقهاء)، و(قواعد الأحكام) للعلامة الحلّي، الحسن بن يوسف بن المطهّر، المتوفّى سنة 726 هجرية.
«شعائر»
* «الحجّ» لغةً القصد، وشرعاً القصدُ إلى بيت الله تعالى بمكّة مع أداء مناسك مخصوصة عنده؛ وهو من أعظم أركان الإسلام. وهو واجبٌ وندب:
* فالواجب: إمّا بأصل الشرع، وهو «حجّة الإسلام» مرّة واحدة في العمر على الفور، وإمّا بسببٍ: كالنّذر وشبهه، أو بالإفساد، أو بالاستئجار؛ ويتكرّر بتكرّر السبب.
* والمندوب: ما عداه، كفاقد الشروط، والمتبرَّعِ به.
* وإنما يجب بشروط، وهي خمسة في حِجّة الإسلام: التكليف، والحرية، والاستطاعة، ومؤونة عياله، وإمكان المسير.
* وشرائط النذر وشِبهه أربعة: التكليف، والحرية، والإسلام، وإذن الزوج.
* وشرائط النيابة ثلاثة: الإسلام، والتكليف، وأن لا يكون عليه حجّ واجب بالأصالة أو بالنذر المضيّق، أو الإفساد، أو الاستئجار المضيّق. ولو عجز -مَن استقرّ عليه وجوب الحجّ- عنه ولو مشياً، صحّت نيابته.
* وشرط المندوب ألا يكون عليه حجّ واجب، وإذنُ الوالي على مَن له عليه ولاية؛ كالزوج والمولى والأب.
(القواعد: 1/397)
بيان أشهُر الحجّ
أشهر الحجّ: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجّة عند أكثر علمائنا:
1) لقوله تعالى ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ...﴾ [البقرة:197] وأقلّ الجمع ثلاثة.
2) وما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام في تفسير الآية: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ...﴾، قال عليه السلام: «شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، ليس لأحدٍ أن يُحرِمَ بالحجّ في سواهنّ، وليس لأحدٍ أن يُحرِمَ قبلَ الوقتِ الذي وقّتَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنّما مثَلُ ذلك مثَلُ مَن صلّى أربعاً في السّفر وتركَ الثّنتين».
2) ولأنّه يصح أن يقع في باقي ذي الحجّة شيء من أفعال الحجّ، كالطواف، والسّعي، وذبْح الهدي.
* وقال بعض علمائنا هي: شوّال، وذو القعدة، وإلى قبل الفجر من عاشر ذي الحجّة:
1) لقوله تعالى ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ...﴾ [البقرة: 197] ولا يمكن فرضُه بعد طلوع الفجر من يوم النحر.
2) ولقوله تعالى ﴿...فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ...﴾ [ البقرة: 197 ] وهو سائغٌ يوم النحر، لأنّه يمكنه التحلّل في أوّله.
* وقال بعض علمائنا: هي شوّال، وذو القعدة، وإلى طلوع الفجر من ليلة النحر.
واعلم: أنّه لا فائدة كثيرة في هذا النزاع، للإجماع على أنّه لو فاته الموقفان فقد فاته الحجّ، وأنّه يصحّ كثير من أفعال الحجّ يوم العاشر، وما بعده.
(التّذكِرة: 7/183)
أنواع الحجّ
أنواع الحجّ ثلاثة: تمتّع، وقِران، وإفراد، بلا خلافٍ بين العلماء.
ونحن نقول: العُمرة إنْ تقدّمت على الحجّ، كان تمتّعاً، وإن تأخّرتْ؛ فإن انضمّ إليه «سياقُ هَدْي» فهو قِران، وإلاّ فإفراد، لما رواه معاوية بن عمّار -في الحسن- عن الصادق عليه السلام: «الحجّ ثلاثةُ أصناف: حجٌّ مفرد، وقِران، وتمتّعٌ بالعمرة إلى الحجّ، وبها أمرَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والفضلُ فيها، ولا نأمرُ الناسَ إلاّ بها».
* وصورة التمتّع: أن يُحرِم من الميقات بالعمرة المتمتّع بها إلى الحجّ.
- ثمّ يدخل مكّة، فيطوف سبعة أشواط بالبيت، ويصلّي ركعتَيه بالمقام.
- ثم يسعى بين الصّفا والمروة سبعة أشواط.
- ثم يقصّر، وقد أحلّ من كلّ شيء أحرم منه إلاّ الصيد، لكونه في الحرم، فإنْ خرج منه، جاز له الصيد أيضاً.
- فإذا كان يوم التروية، أحرم للحجّ، ولا يتعيّن هذا اليوم، بل يستحبّ، والواجب ما يعلم أنّه يدرك الوقوف معه.
- ثم يمضي إلى «عرفات»، فيقف بها إلى الغروب من يوم عرفة.
- ثم يفيض إلى «المِشعر» فيقف به بعد طلوع فجر العيد.
- ثم يفيض إلى «مِنى» [ بعد طلوع شمس العيد ] فيحلق بها يوم النّحر، ويذبح هَدْيَه، ويرمي جمرة العقبة.
- ثم يأتي مكّة ليومه إن شاء، وإلاّ فمن غده، فيطوف طواف الحجّ، ويصلّي ركعتَيه، ويسعى سعيَ الحجّ، ويطوف طواف النساء، ويصلّي ركعتَيه.
- ثم يعود إلى مِنى فيرمي ما تخلّف عليه من الجمار الثلاث يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وإن شاء أقام بمنى حتّى يرمي جماره الثلاث يوم الحادي عشر والثاني عشر. ثم إن اتّقى [ الصيد والنساء ] جاز له أن ينفر بعد الزوال إلى مكّة للطوافين والسعي، وإلاّ أقام إلى الثالث عشر.
* وصورة الإفراد: أن يحرم من الميقات أو من حيث يصحّ له الإحرام منه بالحجّ.
- ثم يمضي إلى «عرفات» فيقف بها.
- ثم يمضي إلى «المشعر» فيقف به.
- ثم يأتي «مِنى» فيقضي مناسكه بها.
- ثم يطوف بالبيت ويصلّي ركعتيه، ويسعى بين الصفا والمروة، ويطوف طواف النساء ويصلّي ركعتيه.
- ثم يأتي بعمرة مفردة بعد الحجّ والإحلال منه، يأتي بها من أدنى الحلّ. [ أي أقرب مكان إلى الحرَم، وفي أيامنا هو ميقات التنعيم على قول ]
* وصورة القِران كالإفراد: إلاّ أنّه يضيف إلى إحرامه سياقَ الهدي. هذا مذهب علماء أهل البيت عليهم السلام.
(التّذكِرة: 7/167)
أفضلية حجّ التمتّع
قال علماؤنا: حجّ التمتّع أفضل الأنواع:
1) لقوله تعالى ﴿...ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...﴾ [البقرة: 196] وهو يدلّ على أنّه فرضُهم، فلا يجزئهم غيره.
وروى المسلمون السنّة عن ابن عباس وعائشة وغيرهما، أنّ النبي صلى الله عليه وآله أمر أصحابه لمّا طافوا بالبيت أن يحلّوا ويجعلوها عمرة، فنقلهم من الإفراد والقِران إلى المتعة، ولا ينقلهم إلاّ إلى الأفضل.
ولم يختلف عندهم الرواية عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه لمّا قدم مكّة أمر أصحابه أن يحلّوا إلاّ مَن ساق هَدْياً، وثبت على إحرامه. فقام إليه سراقة بن مالك بن جشعم المدلجيّ، فقال: يا رسول الله، هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟
فقال: (لا، للأبد إلى يوم القيامة)، وشبّك أصابعه، وأنزل الله في ذلك قرآناً: ﴿...فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ...﴾ [البقرة: 196]
2) ولأنّ التمتّع منصوصٌ عليه في كتاب الله تعالى، لقوله ﴿...فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ...﴾ دون سائر الأنساك.
3) ولأنّ المتمتّع يجتمع له الحجّ والعمرة في أشهر الحجّ، مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه اليسر والسهولة.
قال ابن قدامة، صاحب (المغني: 3/239) من الحنابلة: «قال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون. أقول: قال النبيّ، ويقول: نهى عنها أبو بكر وعمر!
وسُئل ابن عمر عن متعة الحجّ فأمر بها، فقالوا: إنّك تخالف أباك، فقال: عمر لم يقل الذي يقولون، فلمّا أكثروا عليه قال: أفكتاب اللهِ أحقّ أن تتّبعوا أم عمر؟».
(التّذكِرة: 7/170)