الاستقامة: أن تُسلّم لله بالربوبية في كلّ حالاتك
لقاءُ أنسٍ مع السيّد عباس الموسوي رضوان الله تعالى عليه
ـــــــــــ إعداد: سليمان بيضون ـــــــــــ
«ببالغ الأسف والألم العميق، تلقّينا نبأ استشهاد المظلوم العلّامة المجاهد الذي لا يعرف الكَلَلَ والملل، والقائد المضحّي لحزب الله لبنان حجّة الإسلام السيد عباس الموسوي وزوجه ونجله. رحمةُ الله على هذا العالم الربّاني الشجاع، والمخلص والواعي، ولعنةُ الله وعباده على جميع الصهاينة المجرمين.
هذا السيّد العالي المقام، الذي مزج العلم بالعمل وتكلّل بالصدق والتضحية والفداء، هذا العظيم نال الشهادة في هذا الطريق وحصل على السعادة الأبدية..».
كان ذلك بعض ما جاء في بيان النعي الذي أصدره الإمام الخامنئي دام ظلّه إثر واقعة استشهاد أمين عامّ حزب الله السيد عباس الموسوي على يدي الصهاينة أثناء عودته من بلدة جبشيت في جنوب لبنان حيث كان يشارك في مراسم إحياء الذكرى الثامنة لاستشهاد رفيق دربه في العلم والجهاد الشيخ راغب حرب رضوان الله تعالى عليهما.
ووفاء لهذا الشهيد العظيم اخترنا في هذا العدد من «شعائر» أن نطلّ على بعض الرؤى الإيمانية والاجتماعية لسيّد شهداء المقاومة الإسلامية في لبنان من خلال كلماته المبثوثة في خطبه وأحاديثه ومقابلاته الصحفية، والتي وفّرتها مشكورة «جمعية إحياء التراث المقاوم»، في إصدارها «الكلمات القصار، منتخبات من كلام سيد شهداء المقاومة السيد عباس الموسوي قدس سره»، حيث عرضنا تلك الرؤى بأسلوب السؤال والجواب.
س: كيف كانت بداية التحاقكم بالحوزة العلمية الدينية؟
ج: المحطّة الأساسية في توجيهي نحو طلب العلوم الدينية، كانت عام 1968 م في لقاء مع السيد موسى الصدر في أحد البيوت في منطقة الأوزاعي. يومها سألته عن الحوزة في مدينة صور التي كانت تسمّى «معهد الدراسات الإسلامية» طالباً منه النصيحة حول التحاقي بالدراسة فيها. وقد أشار عليّ بالتحاق بالمعهد. وبالفعل، وبعد أيّام التحقت به، وباشرت طلب العلوم الدينية فيه. تابعت دراستي في الحوزة في صور إلى ما بعد انتقالها من المدينة إلى «المؤسّسة» في البرج الشمالي، وكنّا أوّل من دشّن بناءها الحديث، حيث تابعنا الدراسة فيها لأكثر من سنة ونصف السنة.
بعد ذلك انتقلتُ إلى النجف الأشرف متابعاً الدراسة العلمية على أيدي المراجع الأعلام، وتركّزت دراستي بشكل أساسي على الإمام الشهيد السيد محمّد باقر الصدر قدّس سرّه.
س: كم بقيتم في النجف الأشرف؟
ج: قضيت في النجف الأشرف تسعة أعوام، اضطررت بعدها بسبب الضغوط التي مورست على الطلاب اللبنانيين خصوصاً، والطلاب عموماً، إلى الانتقال إلى بيروت، وعملت بالتعاون مع العلماء الأساسيّين في لبنان على تأسيس الحوزة العلمية في مدينة بعلبك.. وقد اعتُبرتْ هذه الحوزة من الحوزات النموذجية، وكان لها دور في التبليغ في منطقة البقاع والمناطق الأخرى كبيروت والجنوب.
س: من موقعكم كمبلّغ للإسلام، ماذا تقولون لمن يريد أن يكون مستقيماً في مسيرته الإيمانية؟
ج: أقول له: الاستقامة تعني أن تُسلّم لله بالربوبية في كل حالاتك، فلا يجوز أن تكون مؤمناً بربّك ومراعيا لأوامره في حال، بينما لا علاقة لك به في حالات أخرى، بل لا بدّ من الإلتزام المطلق.
والمهمّ هو أن تربّي نفسك على حبّ الآخرة، وعلى التعلّق بالله عزّ وجلّ. فعندما تصل بتربية نفسك إلى هذا المستوى لا يستطيع الشيطان أن يخترقك مهما كانت أساليبه وممارساته قوية. المهمّ أن تحمل في قلبك الإيمان، وأن تعاهد الله على حبّك له، فإذا حفظت هذه العلاقة معه فهو الذي يتعهّدك بالحفظ.
س: القرآن الكريم عهدُ الله تعالى إلى خلقه كما في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام، كيف تنصحون أن تكون علاقتنا بهذا العهد الإلهي لنا؟
ج: القرآن الكريم على الرغم من أنّه صالح لهداية البشرية جمعاء، إلّا أنّ الذين يستفيدون منه فعلاً هم خصوص المتّقين، فانطلاقاً من ذلك خصّصهم الله، وجعل هدايتهم الغاية من التوجيه القرآني في قوله ﴿..هُدًى لِلْمُتَّقينَ﴾ البقرة:2.
إنّ مشكلة أبناء الأمّة الإسلامية، وحتى على مستوى المؤمنين الذين يتوافدون إلى المساجد أفواجاً أفواجاً، هي أنّهم يُصلّون ولكنّ تعاملهم مع القرآن ضعيف بكلّ أسف، وهذا هو حال التزامهم بمبادئه وأخلاقيّاته.
إنّ حاجتنا في هذه المرحلة إلى قراءة القرآن وتطبيقه ووعيه هي أشدّ إلحاحاً علينا من أيّ وقت مضى، إن على مستوى الأفراد، أو على مستوى الأمّة الإسلاميّة التي تحاول النهوض والقيام من جديد بعد طول رقود أو موت.
ولا شكّ في أنّ للقرآن تلاوة خاصة بنظر عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فمرّة تقرأه كما تقرأ نصّاً أدبياً في المدرسة، وهذه قراءة لا تنفع، ومرة ثانية تقرأه لكي تتعلّم من معطياته، فهذا ينفعك في ميدان العلم لا العمل، ومرّة ثالثة تقرأه وفي قلبك الحزن، وفي عينيك الدمعة ...
س: القرآن الكريم أمرنا بالتأسّي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ.. ﴾ الأحزاب:21، فبأي شيء استحقّ صلّى الله عليه وآله هذه المنزلة الرفيعة؟
ج: استحقّ رسول الله صلّى الله عليه وآله هذه المرتبة؛ لأنّه كان يجسّد الأخلاق الكاملة، فحتّى عندما كان الناس على جاهليّتهم – قبل أن يُبعث نبياً- كان لا يُوصف إلّا بالأخلاق الحميدة، وكان يقال عنه «الصادق الأمين»، وقد رافقتْه هذه الأخلاق في كلّ فترات حياته. وقد كان يُعبّر في كلّ مناسبة بالقول «إنّما بُعثت لِأتمّم مكارمَ الأخلاق».
وإنّنا عندما نتأمّل مقولة رسول الله صلّى الله عليه واله: «واللهِ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري»، فإنّنا نجد قوة هائلة لا تخاف من شيء.
إذا أردتم أيّها المسلمون أن تجدوا حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فاجعلوا منه قدوتكم وأسوتكم في حياتكم، وإلاّ ليصبحنّ الرسول غريباً بيننا، وإذا أصبح كذلك في الحياة الدنيا لن يكون شفيعنا في يوم القيامة.
س: الإمام الخميني قدّس سرهّ عبّر في كلمة موجزة له عن سرّ الانتصار الكبير الذي تحقّق على يدي الشعب الإيراني بقوله: «إنّ كلّ ما لدينا هو من عاشوراء»، كيف توضحون مقولة الإمام هذه؟
ج: عندما تتوجّه بقلبك إلى الحسين عليه السلام وتعشقه، فمعنى ذلك أنّك عاشق للثورة والشهادة، وتريد أن تثبّت كلمة «لا إله إلا الله» في الأرض.
إنّ ثورة الامام الحسين عليه السلام قد شكّلت شعلة مضيئة في قلوب الثائرين على امتداد التاريخ، وستبقى كذلك حتّى قيام الساعة.
من خلال نهضة الإمام الحسين عليه السلام يستطيع الإنسان المؤمن أن يحدّد مسار عمله، فهي عبارة عن مدرسة، إذا دخلتَ إليها وفهمتها تستطيع أن تفهم كلّ المبدأ والمسار، عندئذ تعرف كيف تأخذ الموقف، وتضحّي من أجل الموقف.
عندما يقف الإنسان بإرادته وعزمه، فيتوجّه إلى الله وحده لا شريك له، فإنّه يرفض الظلم بكلّ أشكاله، والعبودية لغير الله بكلّ أشكالها، ثمّ يقف مصرّاً على عبادة الواحد القهّار، هذا ما فعله الحسين في كربلاء.
س: هاجس المؤمن الحقيقي في كلّ زمن أن يكون من الممهّدين لدولة الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف، ومن المنتظرين الحقيقيين لظهوره المبارك، فكيف يتأتّى له أن يصبح كذلك؟
ج: إنّ أعظم ما يمكن أن يكون طريقاً ممهّداً للإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف هو أن نتربّى على روحية العطاء بدون ثمن، لنتوجّه بأعمالنا كلّها إلى الله، ونقدّمها ابتغاء وجهه.
الذين خرجوا من بيوتهم، واستعدوا لمواجهة الباطل في كلّ الميادين من دون تردّد أو تخوّف أو وجل، هؤلاء هم المنتظرون بحقّ.
إذا أردت أن تُمهّد لبيعة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يجب عليك أن تتحمّل مسؤولياتك ميدانياً، وأن تهيّئ نفسك على كلّ المستويات؛ تربوياً، وروحياً، ومادّياً، وهكذا ...
س: أوصى الإسلام كثيراً برعاية حسن الجوار، بأيّ صورة يمكن تجسيد ذلك؟
ج: آداب الإسلام في الجيرة، أن يلتفت الإنسان إلى جاره في سرّائه وضرّائه، إذا مرض له مريض يعوده، إذا حصلت له مصيبة يعزّيه، إذا جاع يطعمه، هذا الإنسان له حق عليّ كامل، من منطلق الجيرة والجوار، ومن عجز عن هذه الحقوق، عجز عن إدراك آداب الإسلام الكبرى.
س: مع الأسف الشديد تكثر المنازعات والأحقاد بين الناس ولأسباب تافهة غالباً، فما هو السبيل لمنع حدوث هذه التشنجات ولإزالتها إن وجدت؟
ج: انزع الحقد من قلوب الآخرين بنـزعه من قلبك، أي: تقدّم على الآخرين، عاملهم بمحبّة ومودّة، ثمَّ اترك أحقادك وثاراتك الشخصية، وعندما تنـزع هذا الحقد من قلبك، سيرى الآخرون فيك قدوة حسنة وصالحة، وبالتالي سيعملون على انتـزاع الحقد من قلوبهم.
عندما يتّهم كل واحد منّا نفسه، عندئذٍ نتوجّه للإصلاح ولمعالجة تقصيرنا، وأمّا إذا اتّهمنا الآخرين وبرّأنا أنفسنا، فعندئذٍ لن يكون هناك علاج، لأنّ مسؤولية المعالجة هي فرع الاتّهام لأنفسنا.
س: أين يكمن الدور الأساس للمرأة المؤمنة الرسالية حسب فهمكم له على ضوء الإسلام؟
ج: نحن نعتبر أنّ دور المرأة المسلمة الحقيقي والكبير هو في أن تكون أمّاً تمارس دور الأمومة في بيتها، وتمارس دور التربية والتزكية لنفوس أجيالنا، لتشكّل بذلك مصنعاً حقيقياً للرجال.
عندما توجد مصانع الأمهات اللواتي يتولّين تربية أطفالهنّ وتزكيتهنّ باسم الإسلام، وضمن مفاهيم التربية الإسلامية، فمعنى ذلك أنّنا سنخرّج جيلاً من أفضل الأجيال.
س: كيف تُعرّفون رفيق دربكم في مراحل الدراسة وفي مرحلة تأسيس العمل الجهادي الشيخ راغب حرب رضوان الله تعالى عليه؟
ج: ماذا أُحدّث عن شيخ الشهداء رضوان الله عليه؟ هل أحدّث عن طلبه للعلم في سبيل الله؟ أم عن عمله بما علِم؟ أم عن زهده وبساطة حياته؟ أم عن احتضانه لليتامى؟ أم عن تلك الجلسات المتواضعة مع العجزة والكبار في السنّ؟ ثمّ هل أتكلّم عن جهاده؟ أم عن تلك الخاتمة السعيدة التي اختارها بملء إرادته وهي الشهادة في سبيل الله؟
شيخ الشهداء رضوان الله عليه عالمٌ رباني، استفاد من فقه أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، وتعلّم في مدرسة عليّ بن أبي طالب والحسين وسائر أهل البيت عليهم السلام ثمّ انطلق إلى الحياة يجاهد ويعمل.
س: ما هي وصيّتكم وكلمتكم الأخيرة التي توجّهونها إلى المسلمين في العالم؟
ج: أقول لهم: كلما تقدّمتم -أيّها المسلمون- بالتزامكم بالإسلام، واستعدّيتم لتضحية أكبر في سبيل الله كلّما كان التوفيق والنصر الإلهييّن أكبر.
لا تركنوا إلى الحياة الدنيا، ولا تستسلموا لها، ولا تكن رغبتكم فيها أكثر من رغبتكم في الآخرة، ولا تفضّلوا رضى الجبابرة على رضى الله عزّ وجل، كونوا مع الله يكن الله معكم، اشحذوا أسلحتكم وقوموا لله بكلّ ما أوتيتم من طاقة وقدرة، وجّهوا سلاحكم إلى عدوكم.
نسألك اللهمَّ أن تجعلنا رحماء فيما بيننا، يحبّ بعضنا بعضاً، وأن تجعلنا صفاً واحداً، وتوفّقنا لمرضاتك، يا أرحم الراحمين.
اللَّهم اجعلني جندياً خادماً لرسالتك، ووفقنا لطاعتك وطاعة أوليائك، اللَّهم سدِّدنا وانصرنا على القوم الظالمين.