جمال السالكين البكّائين
الفقيه العارف السيد أحمد الموسوي الكربلائي
إعداد: أحمد الكاظمي
* هو العالم الربّاني والفقيه الأصوليّ، السيد أحمد بن إبراهيم الموسوي الطهراني الكربلائي النجفي، أحد أعلام الإماميّة في القرن الرابع عشر الهجري.
* وُلِدَ في كربلاء المقدّسة، وقرأ على بعض أساتذتها مقدّمات العلوم الدينيّة.
* هاجر إلى سامراء المقدّسة بعد سنة 1300 للهجرة، وحضر بحث المجدّد السيد محمّد حسن الشيرازي لسنين عديدة.
* رجع إلى النجف الأشرف وحضر أبحاث كبار الفقهاء، منهم: الشيخ ميرزا حبيب الله الرشتي، والشيخ ميرزا حسين الخليلي، والشيخ محمد كاظم الخراساني، والشيخ حسين قُلي الهمداني.
* من أبرز تلامذته: السيد علي القاضي، والسيد جمال الدين الكلبايكاني، والسيد محسن الأمين، والشيخ محمد تقي البافْقي.
* كانت له مرجعية مدرسة الفقيه الشيخ حسين قُلي الهمداني في العرفان والتزكية، وذلك بعد وفاة الشيخ محمّد البَهاري (الوصيّ والتلميذ المبرّز للشيخ الهمداني)، حيث أصبح وحيد عصره في الأخلاق في النجف الأشرف.
* له مؤلفات في الفقه والأصول (فُقِدَتْ ولم تصلنا أسماؤها)، ورسائل توجيهيّة لبعض تلامذته طُبِعَتْ ضمن كتاب (تذكِرة المتّقين).
* قال عنه تلميذه السيد محسن الأمين: «شيخنا وأستاذنا، قرأنا عليه في الفقه والأصول في النجف... واستفدنا من علمه وأخلاقه، كان عالماً فاضلاً ورِعاً تقيّاً كاملاً مرتاضاً مُهذّب النفْس».
* تُوفّي في النجف الأشرف يوم الجمعة 27 شوّال سنة 1332 للهجرة [1910 م]، ودُفِنَ في وسط صحن أمير المؤمنين عليه السلام في الجهة الشمالية؛ بين مسجد عمران بن شاهين وإيوان العلماء.
قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذي بَعَثَ في الْاُمِّيّينَ رَسُولاً مِّنهُم يَتلُوا عَلَيهِم ءَايَاتِهِ وَيُزَكّيهمِ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإنْ كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ الجمعة:2.
إنّ فِقهَ هاتين الكلمتين، «يُزكّيهم ويُعلّمهم» يكفي لإدراك أنّ العلاقة بين الفقه والأصول والعمق العلمي عموماً، وبين ريادة المنحى الروحي المعبّر عنها بالتزكية والعرفان، ليست علاقة تنافُر وتباين، بل اتّحاد وتمازج.
وهذا ما اتّسمت به مدرسة (الفقهاء العرفاء)، فرّوادها جمعوا بين الفقاهة في أعلى رُتبها، وبين العرفان في أعلى قِممه، ومنهم: المترجَم السيد أحمد الكربلائي.
لقد كان السيد الكربلائي فقيهاً من الطراز الأول، وهذا ما يؤكّده معاصره الفقيه المحقّق الشيخ محمّد حسين الأصفهاني، قائلاً :«لم أرَ في النجف الأشرف أفقه وأعلم وأعدل من السيد أحمد الكربلائي الحائري، ومع ذلك كان يهرب من الناس ويُحيل أمر الفتيا إلى غيره من الأعلام الموجودين في النجف الأشرف».
(قدوة العارفين: 45)
أمَّا معاصره الآخر، الفقيه السيد حسن الصّدر، فيقول عنه: «أحد العلماء الربّانيّين، والفقهاء الأصوليّين، والأساتذة المدرّسين في النجف الأشرف اليوم. وهو عالم عابد زاهد، ناسك ربّانيّ مجاهد، لا أعرف في النجف -فضلاً عن غيرها- أفضل منه في المعارف، وطريق السلوك إليها. جمع اللهُ فيه الحكمة العلميّة والعمليّة، فهو نورٌ يُستنار به وعَلم هدايةٍ يُهتدى به. زاد الله في شرفه وفضله، ونفع به المجاهدين السالكين بمحمّدٍ وآله الطاهرين».
(تكملة أمل الآمل: 2/60)
وأما الإمام الخامنئيّ فيقول: «المرحوم الحاج السيد أحمد الكربلائي، كان على درجة (من الفقاهة) بحيث إنّ ميرزا محمّد تقي الشيرازي كان يُرجِع في احتياطاته إليه، وكان بمستوى المرجعيّة قطعاً، لكنّه امتنع عنها، وعاتب مَن أرجعوا احتياطاتهم إليه، وبقي هائماً في عوالم المعنوية».
(رسالة سماحته إلى المؤتمر التكريمي للسيّد القاضي)
هذا هو أستاذك
تحدّث السيد جمال الدين الكلبايكاني عن بداية تعرّفه إلى أُستاذه السيد الكربلائيّ، قائلاً: «..حصل في ليلة من الليالي أنّي ذهبتُ إلى مسجد السهلة، وكان دَيدني -وفقاً لتعليم آية الله الشيخ علي محمّد النجف آبادي، والذي كنتُ أقتدي به في السير والسلوك إلى الله عزّ وجلّ- حين أذهب إلى مسجد السهلة أن أصلّي المغرب والعشاء، ثمّ أقوم بأعمال مسجد السهلة الواردة في مقاماته المختلفة، ثمّ أرقد فترة للاستراحة، ثمّ أنهض قبل أذان الصبح بعدّة ساعات فأنشغل بصلاتي ودعائي ومناجاتي، فإذا طلع الفجر صلّيتُ صلاة الصبح، ثمّ أقوم بباقي الأعمال إلى طلوع الشمس، ثمّ أعود أدراجي إلى النجف الأشرف.
وفي تلك الليلة صلّيت صلاة المغرب والعشاء، ثمّ أنجزت أعمال المسجد، ثمّ إنّي جلست بعد حلول اللّيل بساعتين لتناول شيء من الطعام، فطرق سمعي صوتُ مناجاة وأنين، وكنت أتصوّر آنذاك أنّي وحيدٌ في المسجد الذي يلفّه ظلام الليل.
كان الصوت يأتي من الجهة الشمالية مقابل المقام الطاهر للإمام المهديّ صلوات الله عليه، وكانت المناجاة ممزوجة بآهات وأنين وحنين يشغف القلوب، وممزوجة تارةً أخرى بأشعار عربيّة وفارسيّة تحمل الكثير من المعاني الرفيعة. وشعرت بانجذاب غريب، وأحسستُ أنّي صرتُ بكلّي آذاناً صاغية، وتملّكني إحساس غريب نحو صاحب الصوت. ثمّ إنّ الصوت انقطع فترة، ثمّ عاد من جديد يدعو ويتضرّع ويبتهل، ثمّ هدأ من جديد. ولم أستطع ليلتها أن أنام، ولا أن أنشغل بدعائي ومناجاتي وصلاتي. ثمّ عاد الصوت من جديد يئنّ أنين مكروب وينفث نفثةَ مصدور، ثمّ هدأ.
وكان الصوت يقترب كلّ مرّة من مقام الإمام صاحب العصر أرواحنا له الفداء، فلمّا اقترب الفجر أضحى يقابل المقام المقدّس، فسمعته يخاطب الإمام المنتظر عليه السلام بعد بكاء طويل وأنين شديد من قلبٍ واله، وسمعتُه ينشد أشعاراً بالفارسيّة تحكي عن الوَلَه والرجاء، وتنضح بالمحبّة والضراعة. ثمّ انقطع الصوت، فرأيت صاحبه يصلّي إلى أن طلع الفجر. ثمّ إنّ صاحب الصوت صلّى الصبح وعقّب، وخرج من المسجد.
وكنت طوال تلك الليلة ساهراً أنظر إلى أعمال الرجل مبهوتاً مشغوفاً، ثمّ إنّي لمّا أردتُ مغادرة المسجد سألتُ مسؤول الخدمة في المسجد عن الرجل صاحب الصوت، فقال: هذا رجل يُدعى السيد أحمد الكربلائي، وهو يأتي في بعض اللّيالي حين يكون المسجد خالياً، وحاله كما رأيتَ وسمعت».
يتابع السيد جمال الدين: «ثمّ إنّي عدتُ إلى النجف الأشرف، فذهبت إلى أستاذي (النجف آباديّ) وذكرتُ له ما شاهدتُ وسمعتُ بحذافيره، فنهض أستاذي وطلب منّي أن أرافقه. ثمّ صحبني إلى منزل السيد أحمد الكربلائيّ ووضع يدي في يده، وقال لي: هذا هو أُستاذك من الآن فصاعداً، وعليك أن تلتزم بما يقوله لك».
كثير البكاء
عن الإمام الصّادق عليه السّلام: «كلُّ عينٍ باكيةٌ يومَ القيامة إلّا ثلاثة: عينٌ غضّتْ عن محارمِ الله، وعينٌ سهرتْ في طاعةِ الله، وعينٌ بكتْ في جوفِ اللّيل من خشيةِ الله».
كان السيد الكربلائيّ كثيَر البكاء، حتى انطفأت إحدى عينيه من كثرة بكائه من خشية الله تعالى.
يقول تلميذه؛ الفقيه العارف السيد علي القاضي: «كنتُ أُمضي ليلة من الليالي في مسجد السهلة وحيداً، وعند منتصف الليل جاء شخص إلى مقام ابراهيم عليه السلام واستقرّ فيه. ثمّ سجد عقب فريضة الصبح حتى طلوع الشمس. عندها ذهبتُ ورأيتُ أنّه السيد أحمد الكربلائيّ البَكّاء (قدّس سّره القدّوسي) ومن شدّة البكاء حوّل تراب محل السجود إلى طين، وفي الصباح ذهب وجلس في الحجرة وكان يضحك بحيث كان صوته يصل إلى خارج المسجد».
(سيماء الصالحين: 67)
وكتب الشيخ آغا بُزُرْك الطهراني يقول: «.. وكان كثير البكاء، حتّى أنّه لا يملك نفسه في صلاته، لا سيّما في النوافل الليلية».
(نقباء البشر: 1/179)
أمّا الإمام الخامنئيّ فينقل: «يقول المرحوم جدّنا السيد هاشم نجف آبادي، الذي كان قد عاصر السيد أحمد الكربلائي والتقاه: عندما كُنّا في طريقنا من وإلى مسجد السهلة في اللّيالي والأسحار، كُنّا نسمع صوت بكاء المرحوم السيد أحمد يخرج من بيته الذي كان على الطريق».
(رسالة سماحته إلى المؤتمر التكريمي للسيّد القاضي)
دروس الأخلاق
يقول العلامة الشيخ محمّد تقي الجعفري رحمه الله: «سمعتُ من المرجع الديني السيد عبد الهادي الشيرازي قوله: عندما دخلتُ إلى حوزة النجف كان يُدرَّس فيها ثمانية عشر درس أخلاق، يُلقيها جملة من كبار أخلاف الصدق؛ كالآخوند حسين قُلي الهمداني، والمرحوم السيد أحمد الكربلائي، كانوا منشغلين بتربية الطلاب، وكانوا يهتمّون بهذا العمل كثيراً».
(سرّ نجاح الحكماء: 75)
حكايتان
ينقل السيد محمّد حسين الطباطبائي -صاحب تفسير الميزان- عن أُستاذه السيد علي القاضي، عن أُستاذه السيد الكربلائي، أنه قال:
1) «كُنّا دائماً في خدمة المرحوم آية الحقّ الشيخ حسين قُلي الهمداني، وكان الشيخ لنا مائة في المائة [ أي كنّا منقطعين إليه وهو إلينا ] ولكن الشيخ محمّد البهاري (سلبنا) إياه، فور تعرّفه على الشيخ الهمداني وتردّده إليه».
2) «التقيتُ في سفرٍ بدرويشٍ نَيّر الضمير، فقال لي: أنا مأمور أنْ أُطْلعك على أمرين اثنين:
الأول: الكيمياء، الثاني: أنّي غداً أموتُ فجهّزني وادفني.
فقلتُ له: (أمّا الكيمياء فلا حاجة بي إليه، وأمّا تجهيزك فأنا مستعدّ). وفي اليوم التالي تُوفّي ذلك الدرويش، فقمتُ بتجهيزه وتكفينه ودفنه».
(سيماء الصّالحين: 64)
بالشُّهود لا بالتّعلُّم
كتب الشيخ آغا بُزُرْك الطهراني يقول: «كان المُترجَم (السيد الكربلائي) أوحديّ عصره في مراتب العلم والعمل والسلوك والزهد والورع والتقوى والمعرفة بالله والخوف والخشية منه، كان يصلّي في الخلوات ويتحذّر من اقتداء الناس به في الصلوات.. وقد فُزتُ سنين بقرب داري من داره، وشاهدتُ منه في تلك المدّة أموراً يطول ذكرها. وكان خدوماً لأُمّه بارّاً بها، وتُوفّي قبلها في آخرِ تشهّد صلاة العصر، يوم الجمعة 27 شوّال 1332 للهجرة، وشيّعَ جثمانه جماعة من تلاميذه وجمعٌ كثير من مخلصيه وأصدقائه، ودُفِنَ في الصحن المرتضويّ الشريف تجاه الإيوان الواقع خلف المرقد المنوّر».
يضيف الشيخ الطهراني: «بعد وفاة السيد أحمد الكربلائي رأيتهُ ليلةً في عالم الرؤيا، وكنتُ أعلم أنّه قد مات، فأمسكتُ سبّابته بقوّة وقلتُ: يجب أن تكشف لي عن تلك المقامات والدرجات التي تفضّل اللهُ تعالى بها عليك.
فسحب إصبعه من يدي بمنتهى القوّة وضحك، ثمّ قال: (الحلوى ما لم تذُقْها لن تعرفَ طعمها) -كناية عن أنّ تلك الدرجات والمقامات واللّذائذ قابلة للذّوق والشهود، ولا يمكن أنْ تُدرَك بالتّعلُّم والكلام».
(نقباء البشر: 1/179؛ كرامات الأولياء: 88)
لا تَغفلْ عن حضوره جَلّ سلطانُه
من وصيّة العالم الربّانيّ، السيد أحمد الكربلائي إلى بعض تلاميذه:
«... أسألُ الله تبارك وتعالى أن تكون مواظباً على أداء الواجبات وترْك المحرمات بمنتهى الدّقة. أوّلاً: تأمّل هذه الوصيّة أوّل الصباح؛ عند بداية النهار.
ثانياً: عليك بكمال المراقبة طوال يومك.
ثالثاً: المحاسبة (والمراقبة) عند إرادة النوم.
رابعاً: المبادرة إلى تدارك التقصير، وسياسة النفْس بمجازاتها بالضدّ عند المخالفة، على التفصيل المعهود في كُتب الأخلاق...
وأهم من جميع الأمور المذكورة أنْ تكون في جميع الأوقات ليلاً ونهاراً، نوماً ويقظةً، وفي جميع الأحوال وكافّة الحركات والسكَنات ملتفتاً إلى أنّ الحقّ جلّ وعلا حاضرٌ وناظر؛ بحيث لا تغفل عن حضوره جلّ سلطانه آناً أو طرفةَ عين، إذا أمكنك ذلك...
وتواظِب، إنْ شاء الله تعالى، تمامَ المواظبة على دوام التوجّه والتوسّل بمولانا الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف، الذي هو واسطة فيض الزمان، وتهتمّ بذلك، وتقرأ بعد كلّ صلاة: (اللّهُمّ عَرّفني نَفسَكَ...)، وسورة التوحيد ثلاثاً هديةً إلى ذلك العظيم، ولا تترك دعاءَ الفرَج: (اللّهُمّ عَظُمَ البَلاءُ...)...».
(تذكرة المتّقين: 190، بتصرّف يسير)