مِن الإشراقات المعرفيّة
أصالة الرُّوح
ـــــــــــــــ الشهيد الشيخ مرتضى مطهّري ـــــــــــــــ
لعلّ كثيراً من المسائل العلميّة لا تُطرح على بساط البحث إلَّا في الأوساط العلميّة، ولا تَمسّها إلَّا أيدي العلماء المؤهَّلين لذلك. ولكن ثمّة مسائل لم تَحظَ بالإهتمام المطلوب، وهي التي يُبحث فيها في كلِّ الأوساط وتنالها كلّ الأيدي، فتراها وقد تعرَّضت لِتغييرات شتَّى، بحيث يَصعب على الطَّالب أن يَهتدي إلى الحقيقة في بداية الأمر.
إنّ مسألة الرُّوح والجسم، مِن تلك المسائل التي لم تحظَ بنعمة الصِّيانة، فلا تَكاد تَعثر على إنسان لا رأي له فيها، وهذا لم يكن مجرَّد صدفة، بل هو أمر يَنتهي إلى سبب.
بصدد هذه المسألة، نقرأ نصّاً من الإشراقات المعرفيّة للعلَّامة الشّهيد مطهَّري، يُوضح جانباً من أصالة العلاقة بين الرُّوح والجسد، إنطلاقاً من أصالة الرُّوح التي عبّر عنها الوَحْي، والسُنّة الشّريفة، وقواعد الحكمة.
ما أنا؟ وما الكَوْن الذي أنا فيه؟ لا بدّ لِلإنسان مِن إجابة مُقنعة تجاه هذا السُّؤال، فلِأجل ذلك يوجد عند كلِّ أحد نوع من المعرفة تجاه نفسه وتجاه العالم.
ولأنَّ مسألة الرُّوح والجسد مِن المسائل الّتي يَتَعرَّض لها كلّ إنسان، فإنَّ كلّاً منّا عندما يبدأ الحياة من أيّام طفولته يَسمع والده ووالدته وجدّه وجدّته، ثمَّ بعد ذلك يَسمع مِن الوُعَّاظ ومِن الشُّعراء والخطباء شيئاً ما حول هذه المسألة.
إذاً، مِن المُمكن أن يكون كلّ إنسان عندما تتوجَّه نفسه نحو هذه المسألة مستعدّاً لقبول هذه الفكرة: وهي أنَّ الرُّوح موجود غير مَرْئي، ولمصلحةٍ ما احتَجَبَت تحت سِتار البَدَن، وهي تقوم بتصرُّفات مرموزة تُشبه تصرُّفات الجنّ، وليس البدن سوى ستار ظاهري، وإنّ أصابع الرُّوح هي التي تقوم بتصرُّفات ونشاطات من وراء هذا السِّتار الخارجي.
ولذا، مِن المُمكن أنْ يكون الكثير من النَّاس مُستعدّاً لِقبول مثل هذه الأقاويل، بل البعض منهم مستعدٌّ لِقبول ما تُولِّده في ذهنه أَخيِلة الشُّعراء؛ إذ يُصوِّرون له الرُّوح بِصورة (طائر) مَلَكوتي ونِسر مِن سِدْرة المنتهى، أُسْكِن في قفص البَدن بصورة غير منتَظَرة، لأنَّ البَدَن مَسْكَن المِحَن والبلايا، والرُّوح مَلِك والبَدن هو القصر الملكي، وقد يَهتمّ هذا الخيال بالقصر اهتماماً بالغاً بينما يَترك نفسه بدون اهتمام.
ليس الغرض هنا هو نقد اللّسان الشِّعري، فإنَّ هذا هو منطق الشَِّعر ولا يمكن أن يكون بغير هذا الشَّكل، لأنّ لغة الشِّعر والخطابة غير لغة العلم والمنطق والفلسفة، ولأنَّ الغَرَض الذي يُساق له الكلام في الشِّعر غير الغرض الذي يُساق له الكلام في العِلم والفلسفة، ولأنَّ لسان كلّ فنّ مفتاحٌ لِغرضه، ومِن البديهي أنَّ المفتاح إنَّما يُستخدَم لِلقِفل الذي يَختصّ به.
ولأجل ذلك نرى أولئك الذين يَتمتَّعون بِلُغة الشِّعر والعلم، كيف تكون لغتهم في العلم غير لغتهم في الشِّعر.
فمِن ذلك على سبيل المِثال لُغة الشَّيخ أبي علي ابن سينا، حيث نرى أنّ لغته في كُتُبه الفلسفيّة، مثل (الشّفاء)، و(الإشارات والتَّنبيهات)، تختلف ولغته في قصيدته العينيّة المشهورة، والّتي مطلعها:
هبطتْ إليك مـِن الـمـحـلِّ الأرفعِ ورقاءُ ذاتُ تعـزُّزٍ وتمنُّعِ
نهدف من هذا الكلام إلى أنَّه لا بدَّ لنا مِن الحُصول على معيار نُفرِّق به بين لغة الشِّعر والوعظ والخطابة من جهة، ولغة العِلم والفلسفة من جهة ثانية، حتّى لا نقع في الخطأ الذي لا يُغفر، كما وقع فيه المادِّيّون والمُلحدون.
والحقيقة أنَّنا نشاهد في أفكار الفلاسفة أفكاراً تُشبه إلى حدٍّ ما كلام الشُّعراء، كما نُقِل عن أفلاطون قوله: «إنَّ الرُّوح جَوْهر قديم موجود قبل وجود البَدن، يَنزل عن مقامه الشّامخ ويَلِج في البَدن».
هذه هي فكرة الإثنينيِّين القائلة بانفصال الرُّوح عن البَدن جوهريّاً، وأنّ علاقة أحدهما بالآخر إعتباريّة وعَرضيّة كالعلاقة بين الطّائر وعشِّه، والرَّاكب وما يَركبه، ولا توجد بينهما أيُّ علاقة جوهريّة وطبيعيّة توحِّدهما في إطار جوهر موحّد.
وجاء أرسطو بعد أفلاطون فأَبطل نظريَّته هذه تجاه الرُّوح، وتَنبَّه أرسطو إلى أنّ أفلاطون ومَنْ قبله كانوا يَميلون بعض الشَّيء إلى الإثنينيِّين، فقالوا بانفصال الشُّؤون الرُّوحيّة عن الشُّؤون البدنيّة، ولم يَتوجَّهوا إلى وحدة الجسد والرُّوح، وتَنبَّه أيضاً إلى أنَّه لا يُمكن أن تكون العلاقة بين الرُّوح والبَدن مثل العلاقة بين الطَّائر وعشّه أو الرَّاكِب ومَرْكوبه، بل إنَّ العلاقة بينهما هي أعمق من ذلك بكثير.
كان أرسطو يرى أنّ بين الرُّوح والبدن علاقة المادّة والصُّورة، -نظريّة الصُّورة والمادَّة هذه التي أَبدَعها أرسطو نفسه-، مع فارق واحد: هو أنّ القوَّة العاقلة لِكَونها قوّة مجرَّدة -صورة- تكون مع المادّة لا في المادّة. ولا يوجد أيّ ذكر في فلسفة أرسطو عن الرُّوح، وهو يرى أنّ الرُّوح حادِثة، وهي في بداية الأمر قوّة بحقّ، وليس لديها أيّ عِلم مُسبَق، بل الرُّوح تقوم بإيصال معلوماتها في هذا العالم مِن القوَّة إلى الفعل، ولكن في فلسفة أرسطو وابن سينا لا توجد تلك الإثنينيَّة القائمة على الإنفصال بين الرُّوح والبدن كما هي في فلسفة أفلاطون، فلقد وَضع أرسطو نظريَّته هذه على أساس المادَّة والصُّورة والكَوْن والفساد.
هذه النَّظريّة وإنْ كانت تَحتوي على مزايا بالنِّسبة إلى نظريَّة أفلاطون، حيث أنّها لا تهتمّ بالإثنينيَّة والإنفصال بين الرُّوح والبدن، فإنَّها في المقابل تقول بِنَوع مِن الوحدة والوئام الواقعي الجوهري بينهما، إلَّا أنَّ هذه النّظريّة مُبهمة ولا توضِّح كيفيّة الرَّبط بينهما، ولا تصوِّر العلاقة الطّبيعيّة بين المادَّة والرُّوح، ونظريّة الكَوْن والفساد. ولا يَتَّسع هذا المُختصَر لِذِكر هذه المُبهمات، لكن كان مِن اللّازم أن تُتَّخذ خطوات جديدة في عالَم العِلم والفلسفة حتى يرتفع السِّتار عن وجه هذا اللّغز، أو يُطرَح الموضوع بِصورة معقولة ومقبولة على الأقلّ.
والآن لِنَنظُر مِن أين اتُّخِذت هذه الخطوات؟؟
في أوروبا أَصبحت المقدِّمات مُتوفّرة للتَّحوُّل الفكري والعلمي، والثَّورة كانت تَشمل آنئذٍ جميع الجهات، فالثّورة لا تُفرِّق بين الرَّطب واليابس، وهدَّمَت كلّ المباني والأُسُس القديمة، وجاء مفكِّروها وفلاسفتها بِطَرحٍ جديد لِكلِّ شيء.
فهذا ديكارت الفيلسوف الفرنسي الشَّهير يُقدِّم نظريّة خاصّة حول إثنينيَّة الرُّوح والبَدن قد تَعَرَّضت فيما بعد للرَّدِّ والقبول، وهو [ديكارت] يصل في سَيْره الفكري إلى الإعتراف بحقائقٍ ثلاث، هي: الله، النَّفس، الجسم. ولِأجل أنّ النَّفس تتمتَّع بالفِكر والشُّعور، ولا تَشمل سائر الأبعاد، ولأنَّ الجسم يَشتمل على الأبعاد ولا يَتمتَّع بالفكر والشُّعور، فقد اعتَقَد ديكارت أنَّ النَّفس والبَدن شيئان مُتغايِران.
والنَّقد الذي توجَّه بِحقّ إلى هذه النظريّة ولِأوَّل مرّة من الأوروبيِّين أنفسهم، هو أنّ ديكارت تعرَّض لِجانب الإثنينيَّة ووجوه الإختلاف والمُبايَنة بين الرُّوح والبدن فقط، ولم يتعرَّض لِجانب العلاقة والرَّبط بينهما، فلم يُوضِّح أنّ هذين الموجودَين المُتغايرَين اللّذين وصلا إلى ذروة التَّباين عنده كيف تحقَّقا في موجودٍ مُوحَّد، بينما الأهمّ في هذا المقام أن يُبيِّن نوع الرَّبط بين الرُّوح والبَدن مع ما لهما من خواصّ ومَزايا.
وفي الحقيقة إنّ نظرية ديكارت في هذا الباب مختلفة عن نظريّة أفلاطون، وهذه النّظريّة تعود تُذكِّرنا بالطّائر والعشّ مرّة أخرى، وبما أنّ ديكارت يعتقد بفطريّة التَّصوُّرات، ويَرى أنّ النَّفس من الأمور الفعليّة، فإنّ نظريَّته تُشبه نظريّة أفلاطون من هذه الجهة، ومن جهة أخرى تَقْصر عنها حيث لم توضِّح العلاقة بين الرُّوح والبَدن.
على أنَّ لهذه العلاقة بما لها من خواصٍّ ومَزايا، ليست مِمَّا يُمكن أن تُغمَض عنها العيون أو يُكتفى فيها بِذِكر وجوه الخلاف والتَّباين بين الجسم والأمور الرُّوحيّة. وقد تَوجَّه العلماء بعد ديكارت إلى كشف السِّتار عن وجه العلاقة بين الرُّوح والبَدن. ومَنْ له إلمام بتاريخ الفلسفة في عصرنا الجديد، يَعلم ما بَذَل الفلاسفة الجُدُد مِن الجهد للكشف عن نوع العلاقة بينهما، وما وَقَع في المسألة من الإفراط والتَّفريط حتّى قال البعض: «ليست هذه الظَّواهر النَّفسيّة إلَّا نتيجة طبيعيّة لِتركيب المادَّة، وأَنْكَر أيّ إثنينيّة بين الرُّوح والبَدن»، بينما قال آخرون: «إنَّ الجسم والمادَّة ليسا إلَّا ظاهرة من ظواهر الرُّوح، وليس للجسم والمادَّة أيّ حقيقة»، وبهذه الطّريقة تمَّ القضاء على الإثنينيّة بزعمه. هذا في حين قال البعض مِمَّن أَصابه المَلَل: «إنَّ البحث عن هذه المسألة خارجٌ عن طَوْق البشر».
وهكذا، فإنّ البحث في حقيقة صلة الرُّوح بالبَدن، وإنْ لم يَصل إلى مرحلة حاسمة لحدّ الآن، إلَّا أنَّ الجهد المبذول في هذه المسألة من جميع جهاتها، وبالأخصّ من جهة علم النّفس والفيزيولوجيا وعلم الحياة، قد أَسفَر عن نتائج مدهشة وعظيمة. ومع أنَّ المُتخصِّصين في هذه العلوم لم يَهتمُّوا بالنَّتائج الفلسفيّة لدراستهم، بالنّسبة إلى العلاقة بين الرُّوح والبَدن وماهيَّة الرُّوح، إلَّا أنَّهم مع ذلك قد مَهَّدوا الأرضيّة لِدراسة الموضوع، ونحن نُشير إلى ذلك فيما بعد.
a