معرفة النّفس والعالم
أيُّ هويّةٍ وراءهما؟
ـــــــــــــــ الشّيخ محمّد تقي جعفري ـــــــــــــــ
هو الشّيخ محمّد تقي بن كريم الجعفري، وُلد في مدينة تبريز الإيرانيّة سنة 1345 هـجريّة، وفي التّاسعة عشرة من عمره قَصَد النّجف الأشرف حيث تلمّذ على كِبار الفقهاء والعلماء، ومنهم: السيّد عبد الأعلى السبزواري، السيّد محسن الحكيم، السيّد أبو القاسم الخوئي، السيّد جمال الدِّين الكلبايكاني، وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين.
له عدّة مؤلّفات؛ أشهرُها تفسيره وترجمتُه لنهج البلاغة إلى اللّغة الفارسيّة، وأخرى فلسفيّة وعرفانيّة، ورسالة فقهيّة حول الرّضاع.
تُوفّي الشّيخ الجعفري قدّس سرّه في 26 رجب سنة 1419 هجريّة، ودُفن بجوار مرقد الإمام الرِّضا عليه السلام في مشهد المقدّسة.
النصّ التالي، مقتطف -بتصرّف يسير- من كتابه (على أجنحة الرُّوح)، من منشورات «مؤسّسة البلاغ».
من دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفات: «إلهي تَردُّدي في الآثارُ يُوجِبُ بُعدَ المَزار، فاجمِعني عليك بخدمةٍ توصلُني إليك».
كان القلب كَالفرجار يدور في الإتّجاهات كافّة، وهو ثابتٌ في تلك الدّائرة بالرّغم من حَيْرته.
عالَم الوجود يُعلن عن قابليّته ليُتَّعرَّف عليه، فما هي وسائل تعرّفنا؟
إنّها الحواسّ الدّاخليّة والخارجيّة والآلات التي يُمكن أن نفهم بواسطتها الظَّواهر بشكل أدقّ وأوضح. فهل بإمكان هذه الوسائل والآلات أنْ تَعمل بكلِّ أمانةٍ وصدقٍ كيْ نَتَعرَّف على هذه الحقائق؟
طبعاً لا، لأنَّ عدسة حواسِّنا وآلاتِنا تَتَلَوَّن بتَصوُّراتنا عن ظواهر عالم الوجود. فنحن نَنْظر بمثل هذه العدسة، ونتصوَّر أنَّنا نشاهد حقائق عالم الوجود كما هي وبدون أيِّ تغيير.
أَلَسْنا (ممثِّلين ومتفرِّجين في مسرحيّة الوجود الكبيرة)؟ إذاً فأنا الذي لمْ أَستطِع حتّى اليوم أن أُميِّز الحدَّ الحقيقي الفاصِل بين عالَم الوجود والـ (أنا)، كيف يمكنني أن أدّعي أنَّني عرفتُ العالَم ونفسي وأَدركتُ هويّة ما وراءهما؟
أضف إلى ذلك، أنَّ ظُلمة عالَم المادِّيّات، واختلاف الظَّواهر، وهَيْمنة الكمِّيّات والكَيفِيَّات، واتِّساع هذه الكائنات في نهر التَّكوين والعَدَم دَّائم الجَرَيان مِن جانبٍ، ونزاهة ذلك المَوجود العُلْوي ولُطْفه وقُرْبه من هذه الكائنات مِن جانبٍ آخَر، قد حَوَّل أَقرب الفواصِل إلى أَبعد المسافات.
آهِ ربّاهُ! إنِّي ومِن أجل لقائك، أَنظُر إلى الجبال، إلَّا أنَّ جاذبيَّتها المادِّيّة تَحُول كَسَدٍّ حديديٍّ دون رقَّة الرُّوح وعَظَمة غايَتِها. بإمكان الجبال أن تَكشف لي مِن خلال خُطوطها عن رُسوب الأعصار والقرون الماضية، وبإمكان سُموقها أن يحكي لي عن عَظَمة حجمها. ولكن أين الجبال الشُّمُّ عن ساحة رُبوبيّتك؟
***
البحار أَعظم وأَروع، أُحاول أنْ أَنظر إليها علَّني أخطو خطوة إليك عبر امتدادها الواسع وأمواجها الهادِرة، إلَّا أنَّ تموُّجاتها تتأثَّر بعواملها الطّبيعيّة، وبالرّغم من أنّ عَظَمة البحر تَكشف لنا عن حالة من الإستقلال -ونَنْسب إليه بلغة الأدب الوعي والإرادة في تقرير المصير-، لكنّنا عندما نَفرغ من التَّمثيل، نَجِد أنّنا قد اعْتَرانا الوَهْم حينما أَسْنَدْنا الإستقلال والإرادة إليه، بل قد يَطال هذا التَّوهُّم حتّى تلك القشّة التَّافهة التي تَلعب بها أمواج البحر، فتَتَصوَّر أنَّ عظمة البحر وأمواجه المتلاطمة إنَّما هي من أجلها!
نعم، فأنا أتوهَّم، والبحر يَتَوهَّم، وتلك القشَّة التَّائهة تقع هي الأخرى فريسة أوْهامها.
وبالرّغم من أنَّ البحار مشاهد عظيمة جداً، وأنَّ مشاهدتها تخلق لدينا حالة من الإثارة والهيجان لا يُمكن أنْ توصف؛ وأنّها تُجَسِّد بحلقات أمواجها المتَّصلة سلسلة الوجود، إلَّا أنَّ للبحر جاذبيّة منظَّمة قابلة للتَّقسيم: قد يكون ساكناً، وقد يكون مائجاً، ويمكن أن يَتَحوَّل إلى بخار يَتَبدَّد في الفضاء اللَّامُتناهي.
إذاً ليس بإمكان البحر أن يَقودني إليك أيُّها الرّبُّ الذي لمْ يَزَل ولا يَزال.
وأين هذه البِحار الواسعة الهادِرة عنْ حضرتك الرُّبوبيّة؟
***
أُحدِّق في الأزهار الجميلة الرَّقيقة، فتُداعب بَسماتها عيني، ورائحتها الزّكيّة شامّتي. إلَّا أنَّ هذه الأزهار -وبالرَّغم ممّا تتمتَّع به مِن رقَّة ونَضارة وجمال، وبالرّغم من قُربها مِن مشاعري وقلبي- تَضْحك من سذاجتي حينما أُريد أن أتَّخِذ منها طريقاً إليك، وتقول: إنَّ الجمال الذي تَبْحث عنه بحاجة إلى عينٍ أُخرى، لأنَّ هذه العين التي لديك لا يُمكنها أن تَتَجاوز بعض الكمِّيّات والنَّوعيَّات المحدَّدة، بل حتّى نحن لا نستطيع بعيوننا الملوَّنة المُحِبَّة للألوان أنْ نذهب لزيارته.
***
وأُحدِّق في الأشجار الخضراء والسُّهول والسُّفوح البَهيجة، وأُصيخ إلى صَمْتها الذي يَعزف أَروَع الألحان، فيَكشفُ حَفِيفُها ومَيْسُها عن سِرِّ الوجود والأسرار الدَّقيقة، وتَنبعثُ في نفسي لذَّة وحَيْرة مُمتزجتَيْن بالوقار.
(أريدُ الذَّهاب إلى البستان بقلبٍ مُنقَبضٍ كالبُرعم * وأُمزّق هناك قميصاً مع شهرتي بالخير
قد أُفضي إلى الزَّهرة بالسِّرِّ كالنَّسيم * وقد أَسمع سِرّ الحُبِّ من البلابل) [مضمون بيتَي شعر بالفارسيّة لحافظ الشيرازي]
وحين أتذكَّر أنَّ خريفاً مُدمِّراً سَيَتْلو هذه الغَضاضة والنَّضارة، ويَرميها في صحراء الحياة بلا رَمقٍ ولا بُرْعُمٍ، فتَتَحوَّل أناشيدها الحلوة المُمتزجة بتغاريد الطُّيور السَّاحرة إلى آهاتٍ خريفيّة؛ أُدركُ آنئذٍ أنَّني لمْ أخطُ خطوة واحدة في الطَّريق، وأنَّني واقفٌ بِحَيرةٍ في النُّقطة التي بَدَأَتْ حركتي منها.
فأين الأزهار والأشجار الخضراء والعُشب الزَّاهي عن أعتابك الرُّبوبيّة؟
***
وأَنظر إلى نفسي وأَغوصُ إلى أعماق القلب والعقل والخيال والوَهْم، فأَجِدُ عالَماً أكبر من عالم الطبيعة. إنَّه عالَمٌ أَجمل وأَصلَب وأهمّ من العالَم الخارجي، لأنَّه عالَمي الخاصّ.
فهنا قاعدة الضَّمير. وهنا يُشاهَد إدراكُ الذَّات.
ومع هذا، فإنَّ انتخابي لهذه الحقائق طُرُقاً للسَّيْر والسُّلوك إليك، سَيَحُول دون حركتي إليك، بنفس مقدار حَيْلولة ظَواهِر العالَم الخارجي.
(إعلم أنّ وَهْمَنا وحِسَّنا وفِكرَنا وإدراكاتِنا
مثل مَرْكَبة الطّفل التي يَصْنَعُها مِن القَصَب) [مضمون بيت شعر بالفارسيّة لمَوْلَوي]
الأفُق اللَّامتناهي مُمتدٌّ أمام بَصَري بِنقاطه الذَّهبيّة، ويُحلِّق طائر الخيال السَّريع فيه بسرعة غير محدودة، ويَجتاز الأجْرام السَّماويّة بِخَفقةِ جناحٍ واحد، فيَرى اللَّانهاية ويَجُوبها. لكن هل يُصدِّق أحد أنَّ طائر الخيال السَّريع هذا لا زال حاطّاً في تلك النُّقطة، ولم يَفتح جناحه ولم يُحلِّق؟ وأينَ الأُفق المُتمادي بِنِقاطه الذَّهبيّة عن عَرْشِك الرُّبوبي؟
(ربّاهُ إنَّي في دير الحيرة هذا * فقيرُ اليدَين ومملوُّ القلب) [مضمون بيت شعر بالفارسيّة للعطّار]
أيُّها الرَّبُّ الذي ليس كمثله شيء! إذا كان لدينا أمَلٌ في لقائك مِن خلال كائنات الوُجود، أو الظَّواهر النَّفسيّة، فاعفُ عنّا عَفْوك عن ذلك الرَّاعي العاجز الذي رآكَ في هيئة موسى عليه السلام القويّ الضَّخم، واقبَلْنا قبولك لِلْمَعْزِ التي أهداها إليك.
يَفديك كلّ ما لديّ.. يا مَن إليك أنغامي.
وفي تلك اللَّحظات سَيَتَحوَّل اليأس والقنوط إلى سرورٍ وأملٍ، لأنَّنا نُدرك جيّداً أنَّ الطَّريق الوحيد الذي يؤدِّي إليك –وأقصَرها- هو الإشاحَة عن الطُّرُق الأخرى كافّة، وعَقْدُ العَزْم الحقيقي على زيارتك.
وإذا كان الطَّريق إليك قريباً وسهلاً إلى هذا الحدّ، فلماذا لا أَعقدُ العَزْم، وحينها سَأَرى نفسي وقد وَصَلَتْ إليك.
البعضُ يَبْحثُ عن كِتابكَ وكَلامِكَ، والبعضُ عن أزهارِكَ ووُرودِكَ. أمَّا الفئة المُطمئنَّة فَهِي تلك التي أَفْرَغَتْ قلبَها مِن كلِّ شيءٍ وتَبْحَثُ عنك.
أللّهمَّ اسمَحْ لي أنْ أَركَعَ بين يدَيك لِلَحظات، وأُريقُ قَطَراتٍ مِن بَحر روحي على أعتابك. آهِ أيُّها الأَقربُ منِّي إليّ، لقد أَنْهَكَني وأَضْناني تَصَوُّر البُعْد عن باب جمالك، لا الطَّريقُ ولا المسافة.
«أَشهدُ أنَّ المُسافرَ إليك قريبُ المسافة» الإمام زين العابدين عليه السلام، دعاء أبي حمزة.
***
شَمَمْتُ رائحتَكَ مِن طِينِ آدَم، وقطعتُ الطُّرُقَ وصولاً إليك. واليوم أَرى الجبال مثل الخِيلان الجميلة على وَجَنات الطَّبيعة، وهي تَكشف عن جمالك الرَّائع اللَّامتناهي.
وأمواج البِحار الصَّاخبة تَعزف في أُذُني لحن سرّ الوجود. وأُمعِنُ النَّظر في الأزهار التي أَمْسَكَتْ بها أصابِعُ قُدْرَتِك، وقَرَّبتها مِن مَشامِّ النَّاس.
وأرى تلك الأشجار الزَّاهية والعشب الأخضر، وهي تُكبِّر وتُسَبِّح. ويَزداد شَغَفي ووَجْدي وأنا أرى البَراعم والأوراق النَّضِرة الغَضَّة وهي تَنْحَني على بعضها كيْ تَطْبَع قُبُلاتِها الحارَّة على الشِّفاه المُسَبِّحة، ثمّ تَرفَع رؤوسها لِتَنْهَمِكَ في الذِّكْر والتَّسبيح من جديد. وأَغوصُ في أعماق القلب والعقل والخيال، فأُشاهد ضوءاً باهراً يشعُّ عليها، ويَنفَتح لي طريقٌ مُضيء يؤدِّي إلى سُوَيْداءِ القلبِ التي هي مكانك، وأَرى:
فهذا الفضاء والأُفُق الواسع بنقاطه الذَّهبيّة التي احتضنها، بإمكانه أنْ يَبْهر عيني باعتباره أعتاب جلالِكَ وجمالِكَ.