ـــــــــــــــ المستشار عبد الحليم الجندي*ـــــــــــــــ
لا عَجَب أنْ تَتآمر كثرة الأوروبيِّين بالصَّمت عن مناهج العِلم الحديث المنقولة مِن نَهْج المسلمين. كَدَأبهم في تنكير صِلَة آباء العلوم الرياضيّة والهندسيّة بالمَهْد الذي نَشَأَت فيه؛ فذلك استمرارٌ للحرب الصَّليبيّة، وإخضاعٌ لِلحقائق العلميَّة للتَّعصُّب الدِّيني المُتأصِّل في الحضارة الأوروبيّة.
لا يَذكُر الأوروبيّون أنَّ فيثاغورث، وأرشميدس، وإقليدس، آباء الرِّياضيّات، ألقوا الدُّروس وتلقُّوها في مدرسة الإسكندريّة بِمصر، ولا يَذكُرون أنّهم لم يعرفوا كتاب إقليدس المُسمَّى (الأساسيّات) أو (العناصر) إلَّا عن نسخة عربيّة. ولا يذكرون أنَّ أوروبا المُعاصِرة أخَذَت عن العِلم الإسلامي المَنهج العِلمي المعاصِر، أيْ منهج التَّجربة والإستخلاص.
ينقل الشاعر محمّد إقبال عن دبرنج Dubring قوله: «إنَّ آراء روجير بيكون أَصدق وأَوضح من آراء سَلَفِه، لكن من أين استَمَدَّ روجير بيكون دراسته العلميّة؟ من الجامعات الإسلاميّة في الأندلس».
ويقول بريفو Robert Briffault: «إنَّه لا يُنسَب إلى روجير بيكون (1294م) ولا إلى سَمِيِّه الآخر فرانسيس بيكون (1626م) أيّ فضل في اكتشاف المنهج التَّجريبي في أوروبا. ولم يَكُن روجير بيكون في الحقيقة إلَّا واحداً مِن رُسُل العِلم الإسلامي والمنهج الإسلامي إلى أوروبا المسيحيَّة. ولم يَكفّ بيكون عن القَوْل بأنَّ معرفة العرب وعلمهم هما الطَّريق الوحيد للمعرفة. ولقد انتشر منهج العرب التَّجريبي في عصر بيكون وتعلَّمه النَّاس في أوروبا، يَحدوهم إلى هذا رغبة ملحّة».
ويضيف: «إنّه ليس هناك وجهة نَظر من وجهات العِلم الأوروبي لم يَكُن للثّقافة الإسلاميّة عليها تأثير أساسي. وإنَّ أهمّ أَثَر للثّقافة الإسلاميّة هو تأثيرها في العِلم الطَّبيعي والرُّوح العلميّ، وهما القوَّتان المُميّزتان للعِلم الحديث».
ثمّ يُضيف: «إنَّ ما يَدين به عِلمنا للعرب ليس ما قدَّموه لنا من اكتشاف نظريّات مُبتكَرة غير ساكنة. إنَّ العِلم مَدين للثَّقافة الإسلامية بأكثر من هذا. فقد أَبدع اليونان المذاهب وعمَّموا الأحكام. لكنّ طُرُق البحث، وجَمْع المعرفة الوضعيّة وتركيزها، ومناهج العِلم الدَّقيقة، والملاحظة المُفصّلة العميقة، والبَحْث التَّجريبي، كانت كلّها غريبة عن المزاج اليوناني. إنَّ ما ندعوه بالعلم ظَهَر في أوروبا نتيجةً لِرُوحٍ جديدٍ في البحث. ولِطُرُق جديدة في الإستقصاء، طريقة التّجربة والملاحظة والقياس، ولتطوُّر الرِّياضيّات، صورة لم يعرفها اليونان. وهذه الرُّوح وهذه المناهج أَدخلها العرب إلى العالم الأوروبي».
أو كما يقول المُستشرق المعاصر برنارد لويس: «إنَّ أوروبا القُرون الوُسطى تَحمل دَيْناً مزدوجاً لِمُعاصريها العرب. وهم الواسطة التي انتقَل بها إلى أوروبا جزء كبير من ذلك التُّراث الثَّمين. كما تعلَّمت أوروبا من العرب طريقة جديدة وَضَعت العقل فوق السُّلطة، ونادت بوجوب البحث المستقلّ والتّجربة. وكان لهذَين الأساسَين الفضل الكبير في القضاء على العُصور الوُسطى والإيذان بعصر النَّهضة».
وروجير بيكون يُعلِن تأثُّره بالمنهج العربي، ورفضه للمنهج الأرسطي الذي سَيْطَر على الفِكر الأوروبي من جرّاء الفساد في بعض استنتاجاته في العلوم الطبيعية، فيقول: «لو أُتيح لي الأمر لأحرقتُ كلّ كُتُب أرسطو، لأنَّ دراستها يُمكن أن تؤدِّي إلى ضياع الوقت، والوقوع في الخطأ، ونَشْر الجَهالة».
وكما قال غوستاف لوبون بعد ستِّ قُرون من وفاة بيكون: «أََدرك العرب لأيّ بُعْد أنَّ التَّجربة والمشاهدة خَيْر من أفضل الكُتُب. ولذلك سَبَقوا أوروبا إلى هذه الحقيقة. فالمسلمون أَسبق إلى نظام التَّجربة في العلوم».
_____________________
* من كتابه (الإمام جعفر الصادق)