اللّام في لفظ الجلالة
تفخيمُ لام الجلالة المقدّسة طريقة شايعة لا يجوز خلافُها، وذلك إذا انضمّ ما قبلها أو انفتح، لا إذا انكسر. وربّما قيل بالتفخيم في الأحوال الثلاثة، ونُقل ذلك عن بعض القرّاء، وربّما أوهمه كلام الكشّاف. وحذْفُ الألف منها لَحنٌ تبطل به الصلاة، وإنّما ورد في الشعر للضرورة. ولا ينعقد به اليمين عندنا، إذ ليس مِن الأسماء المختصّة ولا الغالبة.
وفصَّل بعض الشافعية فقال: «أمّا اليمين الصريح -وهو عندهم ما ينعقد بمجرّد التلفّظ بالإسم، ولا يحتاج معه إلى أن ينوي الحالف الذات المقدّسة، كالحَلف بالأسماء المختصّة به تعالى، كالخالق والرّحمن- فلا ينعقد به. وأمّا اليمين الكنايتي -وهو عندهم ما يحتاج به إلى النيّة [نيّة] المذكور، كالحلف بالأسماء المشتركة، كالحيّ، والسميع، والبصير- فينعقد معها».
وأمّا أصحابنا رضي الله عنهم، فلا يُجوّزون الحَلف بالأسماء المشتركة غير الغالبة، ويعتبرون القصد المذكور في المختصّة والغالبة معاً، وتفصيل ذلك في كُتب الفقه، والله أعلم.
الرّحمن الرّحيم
الرحمة، رقّةٌ في القلب وتأثّرٌ يقتضي التفضّل والإحسان، ويُوصَف بها سبحانه باعتبار غايتها التي هي فعل، لا باعتبار مبدئها الذي هو الإنفعال، تَنزّه جلّ شأنه عنه. وأكثر أسمائه تعالى تُؤخَذ بهذا الاعتبار؛ كالرّحمن الرّحيم، وهما صفتان مشبّهتان من رحم بعد جعله لازماً بمنزلة الغرايز، بنقله إلى رُحم بالضمّ، والأظهر منعُ صرف «رحمن» لإلحاقه بالغالب في بابه، لا لتحقّق الشرط من انتفاء فعلانة، باختصاصه بالله سبحانه، لأنّه عارِض مع انتفاء الشرط عند من اعتبر وجود فَعلى، وهو أبلغ من «الرحيم»، لأنّ زيادة المباني تُنبئ في الأغلب عن زيادة المعاني، كما في قطَع وقطَّع، وهي هنا إمّا باعتبار الكمّ، وعليه حملوا ما ورد في الدعاء المأثور «يا رحمن الدّنيا ورحيمَ الآخرة»، لشمول رحمة الدّنيا للمؤمن والكافر، واختصاص رحمة الآخرة بالمؤمن.
وإمّا باعتبار الكيفيّة، وعليه حملوا ما ورد في الدّعاء أيضاً «يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا» لحسابه نعيم الآخرة بأجمعها، بخلاف نعيم الدنيا. وأنت خبير بأنّ زيادة المعنى في المشتقّ يكون بزيادة مدلوله التضمّني، أعني المعنى المصدري، ولا ريب في أنّ رحمة الآخرة كما هي زائدة على رحمة الدنيا كيفاً، فهي زائدة عليها كمّاً أيضاً، لتواترها، وعدم انقطاع أفرادها. بل لا نسبة للمتناهي، وهذا يقتضي عدم استقامة الاعتبار الأوّل في الدعاء الأوّل، لكنّهم اعتبروا فيه زيادة أفراد متعلّق المعنى المصدري، أعني «المرحومين»، ولعلّهم عدّوا جميع أنواع الرّحمة الواصلة إلى الشخص الواحد رحمةً واحدة. ثمّ لمّا كان «الرحمن» بمعنى البالغ في الرحمة غايتها، اختصّ بالله سبحانه، ولم يُطلق على غيره، لأنّه هو المتفضّل حقيقة، ومَن عداه طالبٌ بلطفه وإحسانه إمّا ثناءً دنيوياً، أو ثواباً أُخروياً، أو إزالة رقّة الجنسية، أو إزاحة خساسة البُخل وحبّ المال. ثمّ هو كالواسطة، فإنّ ذات النعمة وسَوقها إلى المنعم، وإقداره، وتمكينه من إيصالها، إلى غير ذلك، كلّها منه جلّ شأنُه وعَظُمَ امتنانُه.
وإلى الاختصاص المذكور وشمول المؤمن والكافر، يومي ما روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه قال: «الرّحمن اسمٌ خاصٌّ لصفةٍ عامّة، والرّحيم اسمٌ عامّ لصفةٍ خاصّة».
وتقديمه على الرحيم مع اقتضاء الترقّي العكس، لتقدّم رحمة الدنيا، وللمحافظة على رؤوس الآي، ولأنّه لاختصاصه بالله سبحانه صار كالواسطة بين العلَم والوصف، فناسب توسّطه بينهما. ولأنّ الملحوظ أوّلاً في باب التعظيم والثناء هو عظايم النعماء وجلائل الآلاء، وما عداه يجري مجرى التتمّة والرديف.
وفي ذكر هذه الأسماء في «البسملة» التي هي مفتتح الكتاب الكريم، تحريكٌ لسلسلة الرّحمة، وتأسيس لمباني الجود والكرم، وتشييدٌ لمعالم العفو والرأفة، وإيماء إلى مضمون «سبقتْ رحمتي غضبي»، وتنبيهٌ إلى أنّ الحقيق بأن يُستعان بذكره في مجامع الأمور، هو المعبود الحقيقي البالغ في الرحمة غايتَها، والمولّي للنعم بجملتها عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها.
هذا، وربّما يوجد في كلام بعضهم أنّ في وصفه جلّ شأنه بالرحمة الأخروية ردّاً على المعتزلة، القائلين بوجوب إيصال الثواب إلى العباد في مقابل سوابق أعمال الخير الصادرة عنهم، فإنّ الوجوب عليه جلّ شأنه لا يجامع التفضّل والإحسان اللذين هما معنى الرحمة بالنسبة إليه سبحانه، وأنت خبير بأنّهم لا يقولون بأنّ جميع ما يصدر عنه تعالى من النعم الأخروية واجبٌ عليه، لِيلزمهم أن لا يكون جلّ شأنه متفضّلاً بشيء منها. وإنّما مذهبُهم وجوب بعض تلك النعم، أعني التي استحقّها المكلّفون في مقابلة [مقابل] الأعمال الصادرة عنهم، والآلام الواصلة إليهم. وأمّا باقي أنواع النعم وأصناف الإحسان، التي لا يحصر قدرها ولا يقدر حصرها، فهم لا يُنكرون أنّها تفضّلٌ منه جلّ شأنه، وإحسانٌ وترحّمٌ وامتنان.