سؤال النّهضة في غُربتِه الغريبة
_______محمود حيدر*_______
«اليوم نرى أنَّ سؤال النَّهضة المُستأنَف لا ينفكُّ يظهر على النَّشأة نفسها، مع فارقٍ جوهريٍّ، وهو أنّ السَّواد الأعظم مِن المثقَّفين يُغيِّبون السُّؤال، ويعاملونه كَحاصِل ثقافةٍ فات أوانها، بل ويَستغربونه كما لو كان سؤالاً فائضاً عن الحاجة». |
الكلام على سؤال النّهضة لدى تناهيه إلى السَّمع هذه الأيّام يَحمل على الإستغراب من غير وجه:
أوّلاً: لأنّه ينطوي على استدارجٍ لِنقاش نكاد لا نجد ظهوراً له في المطارح التي يفترض أن تُشكِّل مجالاتٍ لِنموِّ الأفكار وتفاعلها. ذلك عائد إلى واحدة مِن أَشَقّ الإبتلاءات التي سَكَنت التَّجربة الفكريّة العربيّة لِزمنٍ مديد. وهي حال القطيعة بين التَّنظير والحادث السِّياسي. وتالياً حالة الإنفصال بين الفِكر والحَدَث. لكأنَّ شيطان الوَهْم قد استحكَم بِآلة التَّفكير، فدعاها إلى الإشتغال بالمنقول من المفاهيم الوافدة، والإعراض عن التَّجارُب الخاصّة بما هي مصدر إنتاج لمفاهيم ومعارف مُستحدَثة.
ثانياً: لأنَّ سؤال النّهضة، وإن كان يحظى بِحقّانية العناية على المستوَيَين النَّظري والعَمَلي، فقد بدا في الواقع وكأنّه خارج السِّياق. ومَرجِع الأمر إمَّا لِكَون الذين يشتغلون عادةً برفع الأحداث إلى مقام المعرفة النظريّة قد التَبَس الأمر عليهم، فأرجأوا ما كان ينبغي لهم أن يقولوه إلى أجلٍ لاحق. وإمّا لأنَّ شريحة واسعة مِن هولاء قد أَخَذَتهم الدَّهشة بالحادث اليومي، فاستَغرقوا فيه.
ثالثاً: لأنَّ سؤالاً كهذا ينتمي إلى درجة من الفهم لا ينالُها إلَّا الأقلُّون. أولئك الذين ألزموا أنفسهم استقراء الحادث السِّياسي ليتبيَّنوا ضميره المُستَتِر، ثمَّ ليُدركوا مُنتهاه، فيَبْنون على ذلك المُنتهى مُقتَضاه. ولو عُدنا إلى أزمنة الحداثة وما بعدها، لكان لنا ما لا حَصْر له مِن الأمثلة. وفي هذا المقام سنمرّ على ثلاثة، يحكي كلّ واحد منها كيف جرى انتزاع المفاهيم الكبرى من المشهد التّفصيلي للحادث السِّياسي:
- هيغل يرى إلى انتصار نابليون في «معركة يينا» استئنافاً تاريخياً لحداثة الغرب، واصفاً إيّاه وهو يستعرض جنوده في احتفال النّصر، بأنَّه التّاريخ الذي يَعتَلي حصاناً.
- ماركس يتحدَّث بفخرٍ عن عمَّال «كومونة باريس» الذين هبُّوا لاقتحام السَّماء حسب وصفه، رغم أنّهم قاموا بانتفاضة يائسة، لأنَّها جاءت مِن قَبل أن تتوفَّر لها مقوِّمات النَّصر الحاسم.
- الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو وصف الثّورة الإسلاميّة في إيران بأنّها آخر ثورات ما بعد الحداثة. ولمَّا سُئل عن زيارته إلى طهران بعد أسابيع قليلة مِن سقوط الشَّاه، أجاب: لا بدَّ لنا من أن نتواجد حيث تُولَد الأفكار.
في الحادث العربي المُتمادي في مؤثِّراته وتَداعياته على مساحة العالَم، لم يأتِ حتّى السَّاعة مَنْ يُغامِر بأطروحة، أو بفكرة تَتَعدّى حدود الرِّواية السِّياسيّة اليوميّة.
رابعاً: مِن المفارقات الغريبة أن يُطرح سؤال النَّهضة وسط كَسَلٍ فكري يلفُّ تحت أجنحته أكثر المشتغلين العرب بعالم الأفكار. لو دلَّ هذا على شيء، فعلى هبوط مشهود في المرجعيَّات الإيديولوجيّة التّقليديّة (القوميّة واللّيبراليّة والماركسيّة). تلك التي تَولَّت على امتداد قرن كامل تداول السُّؤال النَّهضوي وتظهيره ورفعه إلى مرتبة المقدَّس. حتّى اذا استحلَّت العولمة النيوليبراليّة عرشَ العالم، لم يَعُد لِذاك السُّؤال مِن محلٍّ في الإعراب. أمّا الإسلام الإيديولوجي الذي قدَّم نفسه كَحامِلٍ مُفترَض لِمهمَّة النُّهوض، فلم يَنجُ على الجملة من التَّموْضع في القِلاع الصَّماء التي افترضها الإحتدام المُدوِّي مع أَمْرَكَة العالم.
في الخطبة الإيديولوجيّة للإسلام السِّياسي، لم يُغادِر سؤال النَّهضة غِواية التَّوظيف. لقد مكث في الدَّائرة الضيِّقة لثقافة سياسيّة تبدو في الغالب دفاعيّة. لقد انبَرَت حركات سياسيّة إسلاميّة في مواطن معيَّنة إلى الأخذ بالفكرة الإحيائيّة لِتُسوِّغ مسعاها إلى السُّلطة، أو لِتَمنح نفسها شرعيّة الحركة بما يؤول إلى الإعتراف بها كَمُكَوِّن مِن مكوِّنات المجتمع السِّياسي. من بعض إختبارات الإسلام السِّياسي، سوف نلاحظ أنَّ منها مَنْ شقَّ عليه الإمتحان. إذ حالما أَنجزت ما سَعَت إليه، تحوَّل قولها النَّهضوي إلى تقنيّة لفظيّة داخل ثقافتها العامّة. وعلى الإجمال، لم يَرْقَ سؤال النّهضة في انشاءات النُّخَب العربيّة بمنوّعاتها القوميّة والعلمانيّة والماركسيّة فضلاً عن الإسلاميّة، إلى المقام الذي يُصبح فيه عنواناً لفلسفة سياسيّة مُسدَّدة باستراتيجيّة إحيائيّة تامَّة القوام.
خامساً: حداثة الغرب في العقل النُّخبوي للحداثيِّين العرب، لا تزال تُستَعاد على النَّشأة التي قرأها أصحابها الأصليُّون قبل أكثر من أربعة قرون. ما هو أَدهى، أنَّ العقل المُشار إليه، وعلى الرُّغم من الميراث النَّقدي الهائل الذي زَخَر به تاريخ الحداثة، بقي حريصاً على التَّعلُّق بأحمال الحداثة الأولى ومقالتها البِكْر: أي بوصفها أُطروحة لمدينة فاضلة جاءت لِتَستنقِذ العالم مِن فَوْضاه وجاهليّته. ذلك يعني -ولو على سوء الظَّنّ- أنّ عقلاً كهذا لا يستطيع أن ينظر إلى حداثة الغرب إلّا بوصفها عالماً مُتخيَّلاً، لا حظَّ له من الحقيقة الواقعيّة في شيء.
يفعل ذلك المعاصِرون مِن المثقَّفين العرب كما فعل الأوائل مِن قبل. أولئك الذين اجتمعوا على مقالة النَّهضة حتّى سُمِّيَ الزَّمن الذي عاشوه باسمها. فكان ختام القرن التّاسع عشر ومُسْتَهَلّ القرن العشرين عامراً بفردوس الشِّعارات الكبرى: الدَّولة الأمَّة، والدِّيمقراطيّة، والمجتمع المدني، والتَّحرُّر مِن نِير الإستعمار، والعدالة الإجتماعيّة، والتَّعدُّديّة، ونقد طبائع الإستبداد.
أكثر هؤلاء حملوا سؤال النَّهضة على حُسْن الظَّنّ وسلامة النِّيّة. إلَّا أنّهم لم يفارقوا دهشة الأنوار فوقعوا في الشُّبهة. لم يُدركوا إلَّا متأخِّرين أنَّ أنوار الغرب مَكَثَت في الغرب. ولم يأتِنا مِن حصادها سوى شراهة السَّيطرة الكولونياليّة، وتأبيد الجاهليّة، ورعاية الإستبداد. ومثلما أَخذنا على مدى مائة عام باستعاراتهم النَّهضويّة من دون تفكيك أو مساءلة، أَخذوا هم حكاية الحداثة نفسها وأَجروا سؤال النَّهضة على ما هو أدنى مِن سيرة المُستشرقين، فقَرأوه قراءة الغائب، ليَحضر الإسلام في تلك القراءة حضور مسيحيّة الغرب في مُقابل علمانيَّته الحادَّة. اليوم سوف نرى أنَّ سؤال النَّهضة المُستأنَف لا ينفكُّ يظهر على النَّشأة نفسها، مع فارقٍ جوهريٍّ، وهو أنّ السَّواد الأعظم مِن المثقَّفين يُغيِّبون السُّؤال، ويعاملونه كَحاصِل ثقافةٍ فات أوانها، بل ويَستغربونه كما لو كان سؤالاً فائضاً عن الحاجة.
الآن نسأل عن مصير السُّؤال ومَآلاته، لكنـََّا على يقين من أنَّ جواباً عليه لا يُحَصَّل بِيُسْر. وفي زحمة الثَّورات الرَّماديّة التي تجتاحنا مِن شُهور، سيكون علينا أن نبذل أقصى الجهد لِنَعثر عليه، ولو في فضاء المستحيل.
_________________
* رئيس «مركز دلتا للأبحاث المعمَّقة» - بيروت