﴿ألحمدُ للهِ ربِّ العالَمين * الرّحمن الرّحيم﴾
البالغُ في الرّحمة أقصى غايتِها
____ إعداد: «شعائر»____
يفسّر الشيخ البهائي قدّس سرّه في ما يلي الآيتين الثانية والثالثة من سورة الفاتحة، متوقّفاً عند لفظ ﴿الحمد﴾، والفرق بينه وبين كلٍّ من الشُّكر والمدح، وكونه على الذّات أو الصّفات. كذلك يفسّر «الربّ» بأنّه المُبلغ الأشياءَ كمالَها، وأنّه لا يُطلق على غيره تعالى إلّا مقيّداً أو جمعاً. ويرى الشيخ البهائي في هذا التفسير المقتطف من (رسالة العروة الوثقى، في ذيل كتاب مشرق الشمسين) أنّ ﴿العالَمين﴾ جاءت بالجمع المذكّر السالم تغليباً لعوالم العقلاء. وأمّا التثنية بـ ﴿الرّحمن الرّحيم﴾ -بعد البسملة- فتَشييدٌ لمباني الرحمة، وإشعارٌ في مُفتَتح الكتاب بأنّ اعتناءه عزّ وعلا بها أكثر وأشدّ من الإعتناء ببقيّة الصّفات.
|
ألحمد هو الثناء على مَزيّة اختيارية من إنعام أو غيره، ولامُه جنسيّة أو استغراقيّة أو عهديّة، أي حقيقة الحمد أو جميع أفراده، أو الفرد الأكمل منه، ثابتٌ لله ثبوتاً قصريّاً، كما يفيده لام الإختصاص ولو بمعونة المقام.
وقد اشتُهر امتيازه عن الشكر بمعاكسته في الورود وعموم المتعلَّق، كما اشتُهر امتيازه عن المدح بقيد الإختيار. ودعوى امتيازه بإشعاره بالإنهاء إلى المُثنى عليه دون المدح ممّا لم يثبت.
وما جاء في الحديث من نفي الشكر عمّن لم يحمد، وما ذكروه من أنّ حمدنا له جلّ شأنه يشمل الموارد الثلاثة لا يقدحان في الأوّل. كما أنّ ما اشتهر من حمده سبحانه على الصفات الذاتيّة، وما ورد من إثبات المحمودية لغير الفاعل، فضلاً عن المختار في قوله تعالى ﴿..مقاماً محموداً﴾ الإسراء:79، وقولهم «عند الصباح يُحمَد القوم السرى» إلى غير ذلك، لا يقدحان في الثاني، إذ الغرض المبالغة بناءً على كون الحمد آكَلُ شُعب الشكر وأشبعها، ومعنى الشمول كون كلٍّ من الموارد الثلاثة حامداً له سبحانه بنفسه كما قال تعالى ﴿..وإن من شيء إلّا يسبّح بحمده..﴾ الإسراء:44.
والحمد على الصفات باعتبار الآثار المترتّبة عليها، أو على نفس الذات المقدّسة بناء على ما هو التحقيق من العينيّة، أو لتنزيلها منزلة الأفعال الاختيارية، لاستقلال الذات بها وكونها كافية فيها. ومجيءُ المحمود بمعنى المرضيّ غيرُ عزيز في اللّغة، أو هو من قبيل صفة الشيء بوصف صاحبه.
***
هذا وقد عرفتَ في ما سبق أنّ هذه السورة الكريمة مقولةٌ عن ألْسنة العباد، ولا ريب أنّ حمدَهم جارٍ على طِبق ما يعتقدونه ثناءً ويعدّونه مدحاً وتمجيداً، بحسب ما أدّت إليه مألوفاتهم واستقرّت عليه متعارفاتهم، وهذا يؤذن بتوسيع دائرة الثناء وعدم تضيّقها بالقصر على ما هو كذلك بحسب نفس الأمر، فإنّ ما يُثنى به عليه سبحانه ربّما كان بمراحل عن سُرادقات كماله، وبمعزلٍ عن أن يليق بكبرياء جلاله، لكنّه جلّ شأنُه رخّص لنا في ذلك، وقبِل منابذة البضاعة المزجاة لكمال كرمه وإحسانه، بل أثابنا عليها بوفور لُطفه وامتنانه.
كما أنّه سبحانه لم يُوجب علينا أن نصِفَه إلّا بمثل الصفات التي ألِفناها وشاهدناها، وكانت بحسب حالنا مزيّة، وبالنسبة إلينا كمالاً؛ كالكلام، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، وغيرها ممّا أحاطت به مداركُنا، وانتهت إليه طليعةُ أوهامنا، دون ما لم تصل إليه أيدي عقولنا، ولا تتخطّى إلى عزّ ساحته أقدامُ أفهامنا.
وناهيك في هذا الباب بكلام الإمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام، فقد رُوي عنه أنّه قال لأصحابه: «كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوقٌ مصنوعٌ مثلكم، مردودٌ إليكم. ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ لله زبانيتين، فإنّ ذلك كمالَها، وتعتقد أنّ عدمَهما نقصانٌ لمن لا يتّصف بهما، وهكذا حالُ العقلاء في ما يصفون الله تعالى به، وإلى الله المَفزع».
ومَن تأمّل هذا الكلام الشريف بعين البصيرة، فاحت عليه من أزهاره نفحةٌ قدسيّةٌ تعطّر مشامّ الأرواح، ولاحت لديه من أنواره شعشعةٌ إنسيّة تُحيي رميمَ الأشباح.
هذا وإنّما لم يُعامل الحمد هنا معاملة سائر أخوَيه [الشكر والمدح] من المصادر المنصوبة على المفعوليّة المطلقة، بعامل مقدّر لا يكاد يُذكر نحو: شكراً وعجباً. وجُعل الحمد متحلّياً بحلية الرفع بالإبتداء، إيثاراً للدوام والثبات على التجدّد والحدوث، وإشعاراً بأنّه حاصلٌ له تعالى شأنُه من دون ملاحظة إثباتِ مُثبِت، وقول قائل: «أحمَدُ اللهَ حمْداً» ونحوه، ومحافظةً على بقاء صلاحيّته للإستغراق، فإنّها ممّا يفوت على ذلك التقدير، كما لا يخفى.
معنى الرَّبّ
ربّ العالمين: أي مالكُهم الحقيقي. والربّ إمّا:
1- مصدرٌ بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء كمالَه تدريجاً. وُصف به تعالى للمبالغة كالعدل. والتجوّز إمّا عقلي أو لُغوي، والمبالغة في الأوّل أشدّ، وما يُظنّ من انتفائها في الثاني رأساً ليس بشيء، إذ التقدير لتصحيح الحمل لا يُوجب انتفائها بالكلّية. وإن كنتَ في مِريةٍ من ذلك فانظر إلى حكمهم بأنّ التشبيهَ المضمرَ الأداةِ أبلغُ من مذكورها.
2- وإمّا صفةٌ مشبّهة من رَبَّه يربُّه، بعد نقله إلى فعلٍ بالضمّ، كما سبق مثله في الرحمن. ولا إشكال في وصف المعرفة به، إذ الإضافة حينئذٍ حقيقية من قبيل «كريم البلد»، لانتفاء عمل النصب، مع أنّ المراد الإستمرار دون التجدّد. وسُمّي به المالك لأنّه يحفظ ما يملكه ويربّيه، ولا يُطلق على غيره تعالى إلّا مقيّداً كربّ الدار، أو مجموعاً كالأرباب، ولعلّ النكتة في ذلك هي أنّه سبحانه هو المربّي الحقيقي لكلّ ما حواه نطاقُ الإمكان، وشمَّ رائحةً من الوجود، وَهُم بأَسْرهم مربوبون منحطّون عن مرتبة تربية الغير، فإنّ وُجِدتْ من بعضهم بحسب الظاهر تربيةٌ، فهي في الحقيقة تربيةٌ منه جلّ شأنُه أجراها على يده، فهو الربّ حقيقة، وإطلاق الربّ على غيره مجاز يحتاج إلى قرينة، فجعلوا تلك القرينة إمّا التقييد أو الجمع.
معنى العالَمين
والعالَم: إسمٌ لما يُعلَم به الشيء، وكثيراً ما يجيء صيغةُ الفاعل بالفتح اسماً للآلة التي يُفعل بها الشيء؛ كالخاتَم، والطابَع، والقالَب. لكنّه غلب في ما يُعلم به الصانع عن شأنه، ممّا اتّسمَ بسِمة الإمكان، أعني في كلّ جنسٍ من أجناسه، تارةً كما يقال عالَم الأفلاك، وعالم العناصر، وعليه جرى قوله جلّ وعلا ﴿..وما ربّ العالمين * قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما..﴾ الشعراء:23-24، وفي مجموع تلك الأجناس أُجرى، كما يقال عالَم المخلوقات وعالَم الممكنات، أعني جميع ما سوى الله تعالى مجرّداً أو مادّياً، فلكيّاً أو عنصريّاً.
وأمّا إطلاقه على كلّ واحد من آحاد أفراد الجنس، فهو وإن كان ممّا لا مِرية في جوازه -إذ ما في خِطّة الوجود من نقير ولا قطمير إلّا وفيه حُججٌ قاطعة على وجود الصانع الخبير- إلّا أنّ الغلبة لم يتّفق في غير ذينك المَعنيين.
ولعلّه في الآية الكريمة بالمعنى الأوّل، إذ هو بالمعنى الثاني لا يُجمع لعدم جريان التعدّد فيه، وإنّما جُمع معرّفاً باللّام للإشعار بشمول ربوبيته جلّ شأنُه جميعَ الأجناس. ثمّ لمّا كان مطلقاً على الجنس بأسره، لم يبعد تنزيله منزلة الجمع، بل قال [الطبرسي] في (مجمع البيان) بانخراطه في سِلك الجموع التي لا واحدَ لها؛ كالنَّفَر، والجيش. وكما يستغرق الجمع المعرّف آحاد مفرده، وإن لم يصدق عليها، كما قالوه في قوله تعالى ﴿..واللهُ يحبّ المحسنين﴾ المائدة:93، كذلك يشمل العالم أفراد الجنس المسمّى به -وإن لم يُطلق عليها- كأنّها آحادُ مفردِه التقديري، فَلَفْظُ العالَمين بمنزلةِ جمعِ الجمع. فكما أنّ «الأقاويل» يتناول كلَّ واحد من آحاد الأقوال، كذلك هذا اللّفظ [العالَمين] يتناول كلَّ واحد من آحادِ الأجناس، وإنّما جُمع بالواو والنون تغليباً لأجناس العقلاء؛ من الملائكة، والإنس، والجنّ على غيرهم. وقيل هو في الأصل إسمٌ لذوي العلم، وتناولُه لغيرهم بالتَّبَع. وقيل للثّقلَين فقط، وعليه جرى قوله سبحانه: ﴿..ليكون للعالَمين نذيراً﴾ الفرقان:1، وقيل للإنس منهم.
هذا وقد يُجعل قوله جلَّ شأنُه: ﴿ربّ العالمين﴾ دليلاً على افتقار المُمكنات في بقائها إلى المؤثّر، ويقرّر تارةً بأنّ الصفة المشبّهة تدلّ على الثبوت والإستمرار، فتربيتُه سبحانه لها مستمرّة، وأعظم أفرادها ما هو مناط بقيّة الأفراد الأُخَر، أعني استمرار إفاضته نور الوجود عليها إلى الأبد الذي يقتضيه حالُها، وفيه ما لا يخفى. ويقرّر تارةً أخرى بأنّ شمول التربية للمُمكنات بأَسرها على ما يُفيده تعريف الجمع يعطي ذلك، إذ تربية بعضها كبعض الجمادات ليست إلّا استمرار إفاضة نور الوجود عليه. واختصاصه بذلك دون غيره مما لا يقبله العقل السليم.
الرّحمن الرّحيم
قد يتمسّك بذكرهما من قال بعدم كون البسملة جزءاً من الفاتحة، زاعماً لزوم التكرار من دون ثمرة، وليس بشيء. إذ لو لم يكن فيه إلّا تشييد مباني الرحمة، والإشعار في مُفتَتح الكتاب بأنّ اعتناءه عزّ وعلا بها أكثر وأشدّ من الاعتناء ببقيّة الصفات لكَفى. كيف وأنّه لمّا كان في وصفه سبحانه بكونه ربّاً للعالمين إشارة إلى المبدأ، وفي قوله تعالى ﴿مالك يوم الدين﴾ إشارة إلى المعاد، ناسبَ أن يتوسّط بينهما ما يشير إلى حسن صنعه جلّ شأنه فيما بينهما.
وأيضاً ففيه بسطُ بساطِ الرجاء بالتنبيه على أنّ مالك يوم الجزاء رحمنٌ رحيم، فلا تيأسوا أيّها المذنبون من صفحِه عن ذنوبكم في ذلك اليوم الهائل، واستوثقوا برحمته الكاملة أن لا يفضحكم على رؤوس الأشهاد يوم تُبلى السرائر.
وأيضاً فتوسيط هذين الوصفين بين التخصيص بالحمد والتخصيص بالعبادة يتضمّن الإيماء إلى أنّ المستأهِلَ للحمد والمستحِقَّ للعبادة، البالغُ في الرحمة أقصى غايتِها، والمولي للنِّعَم؛ عاجلِها وآجلِها، جليلِها وحقيرِها.