العقلُ والجهل
الحكمة من تركيبهما في الإنسان
_______آية الله الشيخ محمّد الريشهري_______
«خَلَق [الله] العقل فاستنطَقَه فأجابه، فقال: وعزَّتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً هو أحبّ إليّ منك، [بك] آخذ وبك أعطي، وعزَّتي لأكملنّك فيمَن أحببتُ، ولأنقصنّك فيمن أبغضتُ». الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله.
ما يلي، بحث لآية الله الشيخ محمّد محمّدي الريشهري من كتابه (العقل والجهل في الكتاب والسنّة) يلقي الضوء على خلق الله تعالى للعقل والجهل وتضادّهما، والحكمة من تركيبهما في الإنسان، مهّد له بنصوصٍ ذات صِلة من القرآن الكريم وأحاديث المعصومين عليهم السلام. |
نصوص تمهيديّة: قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
• ﴿ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها﴾ الشمس:7-8.
• ﴿ولا أقسم بالنفس اللوّامة﴾ القيامة:2.
• وقال تعالى على لسان امرأة عزيز مصر: ﴿وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم﴾ يوسف:53.
* رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:
• «إنّ الله تبارك وتعالى خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علمه الذي لم يطلع عليه نبيّ مرسَل ولا ملك مقرَّب».
• « أوّل ما خلق الله سبحانه وتعالى العقل».
• «خَلَق [الله] العقل فاستنطقه فأجابه، فقال: وعزَّتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً هو أحبّ إليّ منك، [بك] آخذ وبك أعطي، وعزَّتي لأكملنّك فيمَن أحببتُ، ولأنقصنّك فيمن أبغضتُ».
* وعن أمير المؤمنين عليه السلام:
• «إنَّ الله عزَّ وجلَّ ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركَّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركَّب في بني آدم كلَيهما، فمَن غَلب عقله شهوته فهو خيرٌ من الملائكة، ومَن غَلَبَت شهوتُه عقلَه فهو شرٌّ من البهائم».
* وعن الإمام الصادق عليه السلام:
• «إنّ الله عزَّ وجلَّ خلق العقل وهو أوّل خلقٍ من الروح عن يمين العرش من نوره، فقال له: أدبِر فأدبَر، ثمّ قال له: أقبِل فأقبَل، فقال الله تبارك وتعالى: خلقتُك خلقاً عظيماً، وكرَّمتُك على جميع خلقي. ثمَّ خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانيّاً، فقال له: أدبِر فأدبَر، ثمّ قال له: أقبِل فلم يُقبِل، فقال له: استكبرتَ، فلعنَه».
• عنه عليه السلام، في قوله الله تعالى: ﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾ الشمس:8، «بَيَّن لها ما تأتي وما تترك»، و «أي عرَّفها وألهمَها، ثمَّ خيَّرها فاختارت».
• وفي قوله تعالى: ﴿ونفس وما سواها﴾ الشمس:7، «خلقها وصوَّرها».
نعمةُ الإختيار
يمثِّل خلق العقل والجهل، وكيفيّة تركيب هذين العنصرين المتضادَّين، والحكمة وراء تركيبهما في الإنسان على هذا النحو، أوسع موضوعات النظرة الإسلاميّة للإنسان شمولاً، وأكثر مبادئها التربويّة أهميّة. وإليك في ما يلي توضيحات مقتضبة حول هذه القضايا عبر استقراء الأحاديث الواردة في هذا الباب.
أوّلاً: خلق العقل: يمكن القول -في ضوء الأحاديث المذكورة-: إنَّ المراد من خلق العقل هو إيجاد ذلك الشعور الخفي الذي لا يعلم حقيقته إلّا الله. ولهذا لا يتوقّع أن تتمكّن البحوث العلميّة من استكناه قوّة العقل. ولكن يتأتّى تعريف هذه الظاهرة عن طريق خصائصها ومميّزاتها، التي يعتبر من أهمِّها ما يلي:
أ- العقل أوّل مخلوق. أُشيرَ إلى هذه الخاصيّة في عدّة أحاديث، ويمكن القول: إنَّ الهويّة الحقيقيّة للإنسان ليست إلَّا عقله، وهذا ما صرَّحت به روايات أخرى. والأساس في خلقة الإنسان -كما تفيد هذه الأحاديث- هو العقل، وخُلِقت بقيَّة الأشياء تبعاً له.
ب– العقل مخلوق من نور، وفي ذلك إشارة إلى أنَّ المهمّة الأساسيّة للعقل هي الإنارة، وإعطاء صورة عن الواقع والنظرة المستقبليّة، ووضع الإنسان في مسار المُعتقَد الحقّ والعمل الصالح والخُلق الفاضل، وباختصار: وضعه على طريق الهداية الموصلة إلى طريق التكامل.
ج- النُّزوع إلى الحقّ: لِقوّة العقل نزوعٌ إلى التسليم أمام الحقّ. وإذا كان العقل خالصاً لا يخالطه جهل تجده يتَّبع الحقّ ولا يقبل شيئاً سواه. «فقال له: أدبِر، فأدبَر. ثمّ قال له: أقبِل، فأقبَل».
ثانياً: خلق الجهل. يبدو من خلال النظرة الإبتدائيّة أنَّ خلق الجهل لا معنى له، وذلك لأنَّ الجهل معناه عدم العلم، والعدم لا يُخلق، وهذا ما يقتضي بطبيعة الحال تأويل الأحاديث الدالّة على خلق الجهل. ولكن يتَّضح من خلال التأمّل في هذه الروايات أنَّ المُراد من خلق الجهل هو إيجاد ذلك الشعور الخفي الذي يكون في مقابل العقل ويسمّى «جهلاً» أو «حمقاً»، من حيث دعوته الإنسان إلى فعل ما لا ينبغي له فعله، ويُسمّى بـ «النفس الأمّارة بالسوء» من حيث دفعه إلى عمل القبيح، ويُسمّى «شهوة» من حيث تزيينه لكلّ ما هو فاسد. وأمّا خصائصه فهي كالآتي:
أ- خُلِق بعد العقل. تشير هذه الخاصّية إلى أن وجود الجهل وجود ذَيْلي، وأنّه أُودع في كيان الإنسان في أعقاب خلق العقل لحكمة وفلسفة خاصّة به.
ب- خُلق من الكدورة والظُّلمة، وفي مقابل قوّة العقل المخلوقة من النور خُلق الجهل من الكدورة والظُّلمة. وفي هذا المعنى إشارة إلى أنَّ مُقتضى قوّة الجهل يستدعي التغاضي عن الحقائق، والنزوع إلى المعتقدات الوهميّة، وفعل القبيح، أو بكلمة واحدة: الضّلالة والغيّ، ولا يُجنَى من ورائه سوى المرارة والخيبة.
ج - النُّزوع إلى الباطل. فخلافاً لما يَنزع إليه العقل، تميل قوّة الجهل إلى الإستسلام للباطل. وإذا كان الجهل جهلاً تامّاً لا يخالطه شيء من العقل، فإنّه لا يتَّبع الحقّ إطلاقاً. «فقال له: أدبِر، فأدبَر. ثمّ قال له: أقبِل، فلم يُقبِل».
ثالثاً: تركيب العقل والجهل أحد الجوانب التي تستلزم التأمُّل. في ما يخصّ خلق العقل والجهل هو تركيب هذين العنصرين في وجود الإنسان. قال الإمام عليّ عليه السلام في بيانه لهذا التركيب: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركَّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركَّب في بني آدم كلَيهما».
سُمِّي عنصر الجهل في هذا الحديث «شهوة»، فللملائكة عقل فحسب، وللبهائم عنصر الشهوة فحسب. فالملائكة عقل محض، والبهائم جهلٌ محض. في حين ينطوي كيان الإنسان على مزيج مركَّب من العقل والجهل، أو العقل والشهوة، أو العقل والنفس الأمَّارة.
رابعاً: الحكمة من تركيب العقل والجهل. إنَّ أهمَّ قضية تتعلق بخلق العقل والجهل هي الحكمة الكامنة وراء مزج هذين العنصرين المتضادَّين، ولماذا أودع الله الحكيم في كيان الإنسان النفس الأمّارة؟ ولماذا خلق له شهوة تدفع به نحو حضيض الجاهليّة؟ ولماذا لم يخلقه كالملائكة، مجرّد عقل بلا شهوة لكي لا يحوم حول الرذائل؟
الجواب على ذلك: هو أنَّ الخالق الحكيم أراد أن يخلق كائناً له قدرة على الإختيار، فالحكمة والسرّ الكامن وراء هذا التركيب الممزوج من العقل والجهل في الإنسان هو خلق موجود حرّ له قدرة على الإختيار. فالملائكة بما أنّهم مجرَّدون من الشهوة يمتنع صدور القبيح منهم، ولهذا لا يمكنهم إختيار طريق آخر غير ما يأمر به العقل. وكذلك البهائم، فبما أنّها مجردة من العقل فهي غير قادرة على اختيار طريق غير الطريق الذي تدعوها إليه شهوتها.
وأمّا الإنسان، فنظراً لكونه مركَّباً من عقل وشهوة، فهو حرّ ولديه القدرة على الإختيار، وهذا هو ما يوجب أفضليّته على سائر الموجودات الأخرى، ولعلَّه لأجل هذه الأفضليّة أثنى الباري تعالى على ذاته عند خلقه للإنسان ﴿..فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ المؤمنون:14. وهذا هو مَرَدّ الرواية الواردة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «ما مِن شيء أكرم على الله من ابن آدم، فقيل: يا رسول الله، ولا الملائكة؟ قال: الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر».
ومن الطبيعي أنَّ هذه الفضيلة الموجودة في كيان الإنسان بالقوّة لا تجد طريقها إلى حيِّز التطبيق إلَّا عندما يستثمر الإنسان هذه الحرية من أجل تكامل اختياره. أمّا إذا أساء استغلالها واندحر العقل في مواجهته للشهوة، فحينذاك تتحوّل نعمة الحريّة إلى نقمة. ولهذا قال الإمام عليّ عليه السلام -ضمن حديثه الذي نقلناه في بيان تركيب العقل والجهل-: «فمَن غَلب عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة، ومَن غلبت شهوتُه عقلَه فهو شرٌّ من البهائم».