دراسة القضايا المهدويّة
من خلال الأدعية والزّيارات
_______السيد ياسين الموسوي_______
مع وجود الحشد الوافر من الرّوايات التي تحدّثت عن القضايا المهدويّة، أفلا تكفي لتكون مصدراً هامّاً لها؟ وهل استنفدَت تلك الروايات أغراضَها فلم تعد ثمّة حاجة إلى الرجوع إليها مرّة أخرى؟
أم أنّ هناك دواعٍ أخرى لكي نستفيد –في دراستنا للقضايا المهدويّة- من الأدعية والزيارات المرويّة عن المعصومين عليهم السلام؟
يُجيب عن هذه الأسئلة، المقالُ التّالي المقتطَف من دراسة للسيّد ياسين الموسوي، نُشرت في مجلّة «الإنتظار» الصادرة عن «مركز الدراسات التخصّصيّة في الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف». |
في مخاض الإجابة عن كلّ تلك الأسئلة الموضوعية التي طُرحت في مقدّمة البحث، والتي تنطلق عفويّاً أمام أوّل قراءة لعنوانه، نقول: إنّه لا تعارضَ البتّة بين أن نستمرّ بدراستنا للقضايا المهدويّة من خلال الرّوايات المكثّفة ومن جوانبِها المختلفة، مع فتحِ مصدرٍ معرفيٍّ جديد للتعرّف على جوانب أخرى من هذه القضايا العقيديّة المهمّة، في بعدَيها المَعرفي النّظري والواقعي.
وأمّا السببُ المباشر الذي لفت انتباهنا إلى هذه الانطلاقة الجديدة هو مجموعة أمور:
أوّلاً: الكثافة الكمّية لتلك الأدعية والزّيارات التي امتلأت بها المصنّفات المختصّة بها كـ (مصباح المتهجّد) للشيخ الطّوسي، و(مصباح الزائر) للسيّد ابن طاوس، و(الجُنّة الواقية) و(البلد الأمين) للشيخ الكفعمي وغيرها.
ثانياً: الكثافة النوعيّة: فقد تنوّعت تلك الزيارات والأدعية من حيث مهمّاتها، ومن حيث أوقاتِها؛ فهناك الأدعية التي أُمِرَ الموالون بالمواظبة على قراءتها في عصر الغَيبة تحت عنوان «عصر الحَيرة»، كما أنّ هناك أدعية أُمِرَ المؤمنون أن يدعوا بها لتعجيلِ فرج الإمام القائم صلوات الله عليه. يُضاف إلى ذلك ما ورد في الزيارات المطلَقة المختصّة به عليه السلام، وتلك الواردة في «سرداب الغَيبة».
ثالثاً: ونجد –كذلك- الكثافة الزمانيّة شاخصةً بوضوح أمام الموالي في قراءاته لتلك الأدعية والزّيارات في الأوقات المختلفة:
* فهناك أدعية يوميّة تُقرأ صباحاً، أو بعد صلاة الصبح كـ «دعاء العهد الكبير»، و«دعاء العهد الصغير» أو ما يُمكننا أن نسمّيه بـ «دعاء البيعة»، وهناك أدعية أسبوعيّة كـ «دعاء النُّدبَة» الذي يُقرأ في أوقات مختلفة؛ منها المواظبة على قراءتِه يوم الجمعة، و«دعاء زمن الغَيبة» الذي يُقرأ عصر يوم الجمعة.
* وهناك أدعية تُقرأ في المواسم؛ كدعاء النّدبة الذي يُقرأ في الأعياد الأربعة (الفطر، والأضحى، والغدير، ويوم الجمعة)، والدعاء المروي عن «الصّالحين» الذي يُستحَبّ تكرار قراءته في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك، وكذلك المواظبة على قراءته في كلّ وقتٍ من أيّام الجمعة، وهو: «أللّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الحُجَّةِ بنِ الحَسَنِ، صَلَواتُكَ عَلَيهِ وَعَلى آبائِهِ، في هذِهِ السّاعِةِ وَفي كُلِّ ساعَة، وَلِيّاً وحَافِظاً وَقائِداً وَناصِراً وَدَليلاً وَعَيناً، حَتّى تُسكِنَهُ أرضَكَ طَوعاً وَتُمَتِّعَهُ فيها طَويلاً».
رابعاً: وكذلك نجد الكثافة المكانيّة التي وظّفت قراءة بعض تلك الأدعية والزّيارات في «مسجد الكوفة»، و«مسجد السّهلة»، وهكذا «مسجد جمكران»، بالإضافة إلى المقامات المنسوبة له عليه السلام في أماكن مختلفة؛ من جملتِها «مقام صاحب الزمان عليه السلام» في النّجف الأشرف، ومقامه عليه السلام في الحلّة بالعراق، وفي أماكن أخرى من العالم.
خامساً: تفرَّدت تلك الأدعية والزيارات بتركيز اهتمامها على طرح مواضيع حسّاسة في ما يتعلّق بالقضايا المهدويّة بشكلٍ عامّ، أو بشخصِ الإمام المهديّ عليه السلام، أو بالمُرتَبطين به ؛ مثل أمّه الطّاهرة السيّدة نرجس عليها السلام، وعمّته السيّدة حكيمة عليها السلام، أو نوّابه الأربعة رضي الله عنهم. ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى رمزيّة «زيارة آل يس» التي يُزار بها صاحب الأمر عليه السلام، حيث فيها إجابات على كثيرٍ من الاستفهاماتِ المتعلّقة بخصوصيّاته عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
سادساً: لقد صِيغت تلك الأدعية والزيارات بأساليب تفرّدت بها عن غيرها من حيث الأسلوب، وطريقة العرض والطّرح، ويكفي ما في دعاء النُّدبة، ودعاء العهد -الذي حثَّ الإمام الصادق عليه السلام على قراءته صباح كلّ يوم، وبالخصوص المواظبة عليه أربعين صباحاً- من إثارة كامنِ العاطفة والحماس؛ والدّعوة إلى البكاء الفردي والجماعي، وفي الوقت نفسه حَثُّ الدّاعي على الإعداد والاستعداد لخوض المعركة مع الإمام المهديّ ضدّ أعدائه عليه السلام، وشحْذ الهِمم بأساليب بيانيّة تجمع المتناقضات المتضادّة ظاهراً؛ من قبيل التفجُّع وشكوى الظّلم والظّلامات.. مع الدّعوة إلى القوّة والمجابهة والقيام للمعركة والحرب، وهو ما لم نجده في مجموع الأدعية الأخرى المرويّة عنهم عليهم السلام ".." ونعني بها الأدعيّة التي أكّدت على معاني التوحيد والعبوديّة لله تبارك وتعالى، كـ «دعاء كُميل» المَروي عن أمير المؤمنين عليه السلام، و«دعاء عرَفة» المروي عن الإمام الحسين عليه السلام، ودعاء أبي حمزة [السَّحَر] المَروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام؛ بل نجد في بعض تلك الأدعية المهديّة أنّ الإمام المعصوم عليه السلام نفسَه يتفاعل مع مضمون الدّعاء بوضوح مُلفت.
مثال ذلك ما في رواية سدير الصّيرفي التي رواها الشيخ الصّدوق في (كمال الدين)، والشيخ الطوسي في (الغَيبة)، قال سدير: «دَخَلْتُ أَنَا وَالْمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ وَ أَبُو بَصِيرٍ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ عَلَى مَوْلَانَا أَبِي عَبْدِ الله جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام، فَرَأَيْنَاهُ جَالِساً عَلَى التُّرَابِ وَ عَلَيْهِ مِسْحٌ خَيْبَرِيٌّ مُطَوَّقٌ بِلَا جَيْبٍ مُقَصَّرُ الْكُمَّيْنِ، وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ الْوَالِهِ الثَّكْلَى ذَاتَ الْكَبِدِ الْحَرَّى، قَدْ نَالَ الْحُزْنُ مِنْ وَجْنَتَيْهِ وَشَاعَ التَّغَيُّرُ فِي عَارِضَيْهِ وَأَبْلَى الدُّمُوعُ محْجِرَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ :
سَيِّدِي غَيْبَتُكَ نَفَتْ رُقَادِي، وَضَيَّقَتْ عَلَيَّ مِهَادِي، وابْتَزَّت مِنِّي رَاحَةَ فُؤَادِي.
سَيِّدِي غَيْبَتُكَ أَوْصَلَتْ مُصَابِي بِفَجَائِعِ الْأَبَدِ، وَفَقْدُ الْوَاحِدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ يُفْنِي الْجَمْعَ وَالْعَدَد، فَمَا أُحِسُّ بِدَمْعَةٍ تَرْقَى مِنْ عَيْنِي وَأَنِينٍ يَفْتُرُ مِنْ صَدْرِي عَنْ دَوَارِجِ الرَّزَايَا وَسَوَالِفِ الْبَلَايَا، إِلَّا مُثِّلَ لِعَيْنِي عَنْ عَوَائِرِ (غوابر) أَعْظَمِهَا وَأَفْظَعِهَا، وَ تَرَاقِي أَشَدِّهَا وَأَنْكَرِهَا، وَنَوَائِبَ مَخْلُوطَةٍ بِغَضَبِكَ وَنَوَازِلَ مَعْجُونَةٍ بِسَخَطِك.
قَالَ سَدِير: فَاسْتَطَارَتْ عُقُولُنَا وَلَهاً، وَتَصَدَّعَتْ قُلُوبُنَا جَزَعاً عَنْ ذَلِكَ الْخَطْبِ الْهَائِلِ وَالْحَادِثِ الْغَائِل، وَظَنَنَّا أَنَّهُ سمتَ لِمَكْرُوهَةٍ قَارِعَةٍ، [سمتَ لهم: أي هيّأ لهم وجهَ الكلام والرّاي] أَوْ حَلَّتْ بِهِ مِنَ الدَّهْرِ بَائِقَةٌ، فَقُلْنَا :
لَا أَبْكَى الله -يَا ابْنَ خَيْرِ الْوَرَى- عَيْنَيْكَ، مِنْ أَيِّ حَادِثَةٍ تَسْتَنْزِفُ دَمْعَتَكَ وَتَسْتَمْطِرُ عَبْرَتَكَ، وَأَيَّةُ حَالَةٍ حَتَمَتْ عَلَيْكَ هَذَا الْمَأْتَمَ؟
قَالَ: فَزَفَرَ الصَّادِقُ عليه السلام زَفْرَةً انْتَفَخَ مِنْهَا جَوْفُهُ وَاشْتَدَّ مِنْهَا خَوْفُهُ وَ قَالَ :
وَيْحَكُم، إِنِّي نَظَرْتُ فِي كِتَابِ الْجَفْرِ صَبِيحَةَ هَذَا الْيَوْم، وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى عِلْمِ الْمَنَايَا وَالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا، وَعِلْمِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة، الَّذِي خَصَّ الله تَقَدَّسَ اسْمُهُ بِهِ مُحَمَّداً وَالْأَئِمَّةَ مِنْ بَعْدِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَأَمَّلْتُ فِيهِ مَوْلِدَ قَائِمِنَا وَغِيبَتَهُ وَإِبْطَاءَهُ وَطُولَ عُمُرِهِ وَبَلْوَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَتَوَلُّدَ الشُّكُوكِ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ طُولِ غَيْبَتِهِ وَارْتِدَادَ أَكْثَرِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَخَلْعَهُمْ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْنَاقِهِمُ الَّتِي قَالَ الله تَقَدَّسَ ذِكْرُهُ: ﴿وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ..﴾ الإسراء:13 يَعْنِي الْوَلَايَةَ، فَأَخَذَتْنِي الرِّقَّةُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيَّ الْأَحْزَانُ..».
كلُّ هذه العناوين السّالفة قد ألفَتت انتباهَنا للدّعوة إلى هذه الانطلاقة الجديدة لدراسة القضايا المهدويّة من خلال ما وردَنا عن المعصومين عليهم السلام في أدعيتِهم وزياراتِهم للإمام المهديّ عليه السلام.
ونحن في الوقت الذي نؤكّد فيه على ضرورة انبثاق طريقٍ معرفيٍّ جديد لدراسة القضايا المهدويّة، ينطلقُ من قالبِ الأدعية والزّيارات له عليه السلام، فإنّنا نؤكّد أيضاً أنّ لتلك الأدعية والزّيارات خصوصيّاتها الغَيبيّة في الثّواب، وقضاء الحاجات، وتحصيل مرضاة الله عزَّ وجلّ، ومرضاة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، ومرضاة الأئمّة عليهم السلام، ونزول الخيرات والبركات، ودفع البلايا والأمراض، كما أنّ لها مواقعَها الجليلة والعظيمة في السّير والسّلوك، وتزكية الباطن والتّرقّي في مدارج الكمال، وقطع مراحل السّير إليه تبارك وتعالى.