آداب الحج
في وصايا المقدس البهاري الهمداني - 1 [1]
ترجمة: الشيخ حسين كوراني
إعلم أيها الطالب للوصول إلى بيت الله الحرام، أن لله جل شأنه العظيم بيوتاً مختلفة أحدها يسمى الكعبة الظاهرية، التي أنت قاصدها، وبيت المقدس، والبيت المعمور، والعرش، وهكذا إلى أن نصل إلى حيث البيت الحقيقي الأصلي الذي يسمى القلب، الذي هو أعظم من كل هذه البيوت.
"و" الهدف من هذه الرسالة منحصر بآداب الكعبة الظاهرية، غير تلك الآداب التي تذكر في المناسك، وقد تذكر ضمناً إشارات إلى آداب الكعبة الحقيقية على سبيل الإجمال.
أولاً: إعلم أن الهدف من تشريع هذا العمل الشريف الحج قد يكون أن الهدف المقصود الأصلي من خلق الإنسان هومعرفة الله والوصول إلى درجة حبه والأنس به، ولا يمكن حصول هذين الأمرين إلا بتصفية القلب، وذلك لا يمكن حصوله أيضاً إلابكف النفس عن الشهوات والإنقطاع من الدنيا الدنية و{حملها} على المشاق من العبادات ظاهرية وباطنية.
ومن هنا لم يجعل الشارع المقدس العبادات نسقاً واحداً، بل جعلها متنوعة، حيث تتكفل كل منها بإزالة رذيلة من الرذائل لتتم تصفية النفس تماماً، بالإشتغال بتلك العبادة.
فالصدقات والحقوق المالية، يقطع أداؤها الميل إلى حطام الدنيا.
والصوم يقطع الإنسان عن المشتهيات النفسانية.
والصلاة تنهى عن كل فحشاء ومنكر.
وهكذا سائر العبادات، ولأن الحج مجمع العناوين، وزيادة، لأنه يشتمل على جملة من مشاق الأعمال التي تتوفر في كل منها صلاحية تصفية النفس، مثل: إنفاق المال الكثير والقطع عن الأهل والأولاد والوطن، والحشر مع النفوس الشريرة، وطي المنازل البعيدة، مع الإبتلاء بالعطش في الحر الشديد في بعض الأوقات، والقيام بأعمال غير مأنوسة، لا تقبلها الطباع، من الرمي والطواف والسعي والإحرم وغير ذلكمن الفضائل الكثيرة من قبيل:
التذكير بأحوال الآخرة، من خلال رؤية أصناف الخلق والإجتماع الحاشدفي صُقع واحد{وبقعة واحدة} على نهج واحد، لا سيما في الإحرام والوقوفين.
والوصول إلى محل الوحي ونزولِ الملائكة على الأنبياء من آدم إلى الخاتمصلوات الله عليهم أجمعين، والتشرف بمحل أقدامأولئك العظماء، مضافاً إلى التشرف بحرم الله وبيته، مع الحصول على الرقة التي تورث صفاء القلب برؤية هذه الأمكنة الشريفة، مع الأمكنة الشريفة الأخرى التي لا تتسع الرسالة لتفصيلها.
".."ولا يصل الإنسان إلى هذه الكرامة العظمى إلا بملاحظة الآداب والرسوم الحقيقيةوهي أمور:
* الأول:أن كل عبادة من العبادات، يجب أن تكون بنية صادقة، وتؤدى بقصد إمتثال أمر الشارع، لتصبح عبادة، فمن أراد الحج يجب أولاً أن يتأمل بعض الشيء في نيته، فيضع هوى النفس جانباً، ويرى هل أن هدفه من هذا السفر هو امتثال الأمر الإلهي، والحصول على ثوابه تعالى، والفرار من عقابه، أم أن هدفه - نستجير بالله- تحصيل الإعتبار، أو خوف ذم الناس، أو تفسيقهم له، أو الخوف من الفقر، بناءً على أن كل من ترك الحج ابتلي بالفقر، أو أمور أخرى من قبيل التجارة، والنزهة والسياحة في البلاد وغير ذلك.
".."
* الثاني:أن يهيء نفسه لحضور مجلس الروحانيين بتوبة صادقة، بجميع مقدماتها[2] التي من جملتها رد الحقوق سواءً المالية مثل الغيبة، وأذية هتك الغير وجرح كرامته، وسائر الجنايات على الآخرين مما يجب الاستحلال من أصحابها، بالتفاصيل المذكورة في محلها.
ويحسن إيقاع التوبة بعد هذه المقدمات في يوم الأحد كما هو مذكور في "منهاج العارفين"[3] وإذا كان أحد والديه على قيد الحياة، فليرضه عنه مهما أمكن، ليخرج من منزله طاهراً نقياً، بل يزيل تمام تعلقاته، ويقطع رأس انشغال قلبه وعدم حضوره، ليتوجه بتمام قلبه إلى الله وليتصرف على أساس أنه لن يرجع أبداً.
وبناءً على هذا، يجب أن يوصي وصية تامة كاملة، بمعرفة أشخاص خيّرين، عارفين، ليوضحوا له كيفية الوصية، فلا يضيق الأمر على الوصي، بل يجعله وصيَّه في الثلث ويترك له حرية الحركة، حتى لا يقع مسلم بسببه بعد موته في الحرج.
ومع ذلك يترك أهله وعياله في كفالة الكفيل الحقيقي، فإنه خير معين ونعم الوكيل.
وباختصار، إن عليه أن يتصرف بحيث إنه إذا لم يرجع فلا يكون قد بقي أي جزئي من جزئيات أموره معلقاً، بل كذلك يجب أن يكون من لا يعرف تماماً متى يموت.
* الثالث: أن لا يهيء لنفسه في سفره أسباب انشغال القلب[4]، فيمنعه ذلك عن أن يكون في حركاته وسكناته في ذكر المحبوب"سبحانه" سواءً كانت أسباب الإنشغال هذه من قبيل العيال والأولاد أو الرفيق غير الملائم للطبع، أو بضاعة للتجارة أو غير ذلك، المهم أن لا يهيء هو بيده ما يضطره إلى صرف اهتمامه فيه،بل إذا استطاع فليسافر مع أشخاص يغلب عليهم تذكيره، أو يذكرونه دائماً كلما غفل.
*الرابع: أن يبذل الجهد مهما أمكنه، لإحراز حليّة مصرفه[5]، ويأخذ منه ما يزيد على حاجته، وأن لا يضيق ذرعاً في الإنفاق[6]،لأن الإنفاق في الحج إنفاق في سبيل الله، فلماذا ينقبض قلب الإنسان من الزيادة في المصرف، فليحمل أحسن الزاد، وليكثر الإنفاق فإن درهماً منه في أحاديث أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين بسبعين درهماً.
أزهد الزهاد أعني السيد السجاد سلام الله عليه كان عندما يريد الحج يحمل معه مثل اللوز والسكر والحلويات والسويق.
بل من جملة أسباب سعادة الإنسان، إذا تلف له شيء في هذا السفر أو سرق منه، أو زادت مصاريفه، فليشعر بكمال الإمتنان، بل ينبغي أن تغمره الفرحة لأن جميع ذلك يتم ثبته وتسجيله على المضيف في الديوان الأعلى وسيعوضه عليه بأضعاف مضاعفة.
ألا ترى أنك إذا دعاك شخص إلى ضيافته في بيته، وواجهت في أثناء الطريق ضرراً ما، فإن صاحب البيت إذا استطاع، يعوض ذلك عليك بقدر ما يمكنه، لأنه هو الذي طلبك. يفعل ذلك، مع أنه"بالنسبة إلى الله تعالى" لئيم وعاجز،فكيف ظنك بأقدر القادرين وأكرم الأكرمين حاشا وكلا أن يكون كرمه أقل من عربي يسكن البادية. نعوذ بالله من سوء الظن بالخالق.
وصدق هذا القول واضح لمن تنقل بين أعراب البادية، واطلع على أحوالهم.
* الخامس:أن يكون حسن الخُلق[7]، ويتواضع للرفيق من السائق وغيره، ويحذر اللغو والفحش والحدة، والكلام غير المناسب، وليس حسن الخلق أن لا يؤذي أحداً فقط، بل من جملة الأخلاق الحسنة أن يتحمل أذى الآخرين، بل بالإضافة إلى تحمل الأذى، يخفض جناحه، وإلى ذلك يشيرقوله في الحديث القدسي{وحاصله: }
"أخفيت رضاي في جفاء المخلوق، فمن كان يريد رضاي فليتحمل من الآخرين جفاءهم".[8]
* السادس: أن يقصد الحج، فقط دون غيره، بل يجب أن يقصد ضمن ذلك عدة عبادات - إحداها الحج - من قبيل: زيارة القبور المطهرة للشهداء والأولياء، والسعي في حوائج المؤمنين، وتعليم الأحكام الدينية وتعلمها، ترويج المذهب الحق، وتعظيم شعائر الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك.
*السابع: أن لا يهيء لنفسه أسباب التكبر، بل ينبغي أن يذهب إلى الحرم الإلهي منكسر القلب مغبراً كما أشير إلى ذلك في المناسك في باب الإحرام.
*الثامن: أن لا يخرج من بيته إلا بعد أن يودع[9]نفسه وكل ما معه من رفقائه، وما حمله، وأهل بيته، وكل ما له تعلق به، أمانة عند خالقه جل ثناؤه، ويخرج عند ذلك من بيته، بكمال الاطمئنان، فإنه جلت عظمته نعم الحفيظ ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
وهناك آداب أخرى ذكرت في المناسك، بلى، يهتم اهتماماً تاماً بالصدقة، بمعنى أن يشتري صحته سلامته من خالقه بهذه الصدقة.
* التاسع: أن لا يكون اعتماده على محفظة نقوده وقوته وشبابه[10]، بل يكون اعتماده في كل حال، بالنسبة إلى كل شيئ على صاحب البيت.
والمقدمات أكثر من ذلك، إلا أن الإطالة في الرسالة ليست الهدف.
"إذا كان في البيت أحد، فحرف واحد يكفي."[11]
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - مقتطف من كتاب " تذكرة المتقين" للمقدس آية الله البهاري الهمداني وعدد من الأعلام الماضين. ترجمة الشيخ حسين كوراني. وما نشر هنا هو بعض هذه الوصايا تم اختياره بتصرف يسير. وليلاحظ أن الهوامش المذيلة بتوقيع الأصفهاني مترجمة من حاشية على كتاب تذكرة المتقين للمقدس العارف الشيخ حسن علي أصفهاني، الشهير ب" نخودكي". والمدفون في صحن حرم الإمام الرضا عليه السلام.
[2] - إغسل ((نفسك) ثم امش إلى الخربة بوقار، حتى لا يتلوث منك هذا الدير الخرب. الأصفهاني. ((مضمون بيت)).
[3] - المقصود هو صلا يوم الأحد من ذي القعدة، وهي مذكورة في كتب الأعمال.
[4] - فرغ قلبك من الأغيار إذا قصدت محلتنا،لا تنظر إلى الغير إذا كنت تهوانا. الأصفهاني. ((مضمون بيت)).
[5] - احفظ هذه النكته أن غزال التبَّت،ما لم يأكل السنبل لا يصبح دمه مسكاً. الأصفهاني .((مضمون بيت)).
[6] - إذا أنفقت كل ما تملك في سبيل العشق،فأنا كافر إذا رأيتَ أدنى ضرر. الأصفهاني. ((مضمون بيت)).
[7] - قال لي إن رقيبي سيِّء الخلقِ فَدارِه قلتُ دعني، وجهُكَ الجنّةُ حُفَّت بالمكاره .الأصفهاني.
[8] -*أنظر: النوري، مستدرك الوسائل ج11/289،عن رسول الله (ص): مثل المؤمن كمثل الارض ، منافعهم منها إذا هم عليها ، ومن لا يصبر على جفاء الخلق ، لا يصل إلى رضى الله تعالى ، لان رضى الله تعالى مشوب بجفاء الخلق،.
[9] - * جاء في العروة الوثقى ج 2 / 226 حول ذلك ما خلاصته أن يصلي العازم على السفر ركعتين أو أربعاً في بيته ثم يقول: اللهم إني أستودعك نفسي وأهلي ومالي وذريتي ودنياي وآخرتي وأمانتي وخاتمة عملي. فيعطيه الله تعالى ما سأل.
[10] - الاعتماد على التقوى والعلم في الطريقة كفر،لا بد للسالك من التوكل ولو كان يتقن مائة فن. الأصفهاني .((مضمون بيت)
[11] -* ترجمة مثل فارسي بمعنى: إن اللبيب من الإشارة يفهم