كأنّها الملكةُ في الحجاز وأطرافِها
السَّبْقُ إلى الإسلام، والإيمان!
ـــــ العلّامة الشيخ محمّد باقر الكجوري - إيران ـــــ
* «كانت السيّدة خديجة عالمةً بكُتب الرّواية المعروفة، وكانت معروفة -من بين نساء قريش- بالعقل والكياسة، إضافةً إلى كَثرة المال والثّراء والضّياع والعقار والتّجارة التي عُرِفت بها، وكانت تُدعى منذ ذلك الحين بـ "الطّاهرة" و"المباركة" و"سيّدة النّسوان"، بل إنّها كانت ممّن ينتظر خروجَ النبيّ صلّى الله عليه وآله، ويعدَّ له عدّته».
* تقدّم «شعائر» هذا النصّ من كتاب (الخصائص الفاطميّة) للعلّامة الكجوري رحمه الله (1255 - 1313 هجريّة) لما يمتاز به من جامعيّة وتركيز على البُعد الإيماني في شخصيّة أفضل أمّهات المؤمنين عليها السلام.
مَن نظر في كُتب أهل السنّة رأى أنّهم يَروون الكثيرَ في فضل عائشة ومناقبها، ومع ذلك فإنّهم يقولون بأنّ خديجة أفضل منها ومن سائر زوجاتِ النبيّ، بل يفضِّلونها على نساء العالَم، بل يَروون أحاديث عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله في جلالة قدرِها وعلوِّ شأنِها، مع ما كانت عليه عائشة من الحسَد والغيرة والخصومة لخديجة عليها السلام.
ويستفَاد من أحاديث الشيعة وأخبار السنّة أنّ خديجة كانت عالمة بكُتب الرواية المعروفة، وأنّها كانت معروفة -من بين نساء قريش- بالعقل والكياسة، بل إنّها كانت ممّن ينتظر خروجَ النبيّ صلّى الله عليه وآله ويعدّ له عدّته، ولطالما سألت «ورقة» وغيره من العلماء عن علائم النبوّة. وكان أوّل ما طلبتُه من النبيّ صلّى الله عليه وآله حينما التَقت به الكشفَ عن خاتَم النبوّة.
ولقد كانت خديجة مؤمنةً راسخةَ الإيمان، ثابتة الجَنان، مستعدّةً لقبول الإيمان، وقد رُوي أنّها آمنت بالنبيّ صلّى الله عليه وآله في عصر اليوم الذي بُعِث فيه وصَلَّت معه، وروى الشيعة أنّ النبيّ بُعث يوم الإثنين فآمن به عليٌّ عليه السلام ذلك اليوم نفسه، وأظهرت خديجة الإيمان يوم الثلاثاء. وفي الخبر: «إنّها أوّلُ مَن آمن بالله ورسولِه وصدّقت بما جاءَ به».
من مفاخر خديجة عليها السلام ومناقبِها المخفيّة على أغلب الخواصّ والعوامّ، قبولُها ولاية أمير المؤمنين وإمامة أولادِه الأمجاد المعصومين عليهم السلام.
وفي المصادر أنّ السيّدة خديجة عليها السلام «هي أوّل من آمن، وعليٌّ أوّل مَن صلّى إلى القبلة».
وفي (النّهج): «وقال عليٌّ عليه السلام: ولم يجمَع بيتٌ واحدٌ يومئذٍ في الإسلام غيرَ رسول الله وخديجة وأنا ثالثُهما، أرى نورَ الوحي والرسالة، وأشمّ ريحَ النبوّة، ولقد سمعتُ رنّة الشيطان حين نزلَ الوحي عليه. فقلت: يا رسولَ الله! ما هذه الرّنّة؟ فقال: هذا الشيطان، قد أَيِسَ من عبادتِه، إنّك تسمعُ ما أسمع، وترى ما أرى، إلّا أنّك لستَ بنَبيّ، ولكنّك وزيري، وإنّك لَعَلى خير».
فصلٌ فيه فضل
إنّ من مفاخر خديجة عليها السلام ومناقبها المخفيّة على أغلب الخواصّ والعوامّ قبولها ولاية أمير المؤمنين وإمامة أولادِه الأمجاد المعصومين عليهم السلام ".." وذلك إنّها سمعت -بأُذُنِها- بإمامة الأئمّة الطاهرين من أبنائها المعصومين يوم ولادة فاطمة عليها السلام حينما ذكرَتهم واحداً بعد واحد، فعرفت بذلك مقام أمير المؤمنين عليه السلام ومنزِلتَه، وكانت تَسعى جاهدةً من أجل تنفيذِ ما سمِعت وإنجازِه وإنجاحه.
رُوي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله دعا خديجة عليها السلام وقال لها [مختصَر الرّواية]: إنّ جبرئيل عندي يقولُ لك إنّ للإسلام شروطاً وعهوداً ومواثيق. الأوّل: الإقرارُ بوحدانيّة الله جلّ وعلا. الثاني: الإقرارُ برسالة الرسول. الثالث: الإقرارُ بالمَعاد والعملُ بأحكام هذه الشّريعة. الرابع: إطاعةُ أولي الأمر والأئمّة الطّاهرين واحداً بعدَ واحد، والبراءة من أعدائهم، فصدَّّقت خديجةُ بهم واحداً بعد واحد، وآمَنَتْ بالرّسول صلّى الله عليه وآله، فأشارَ إلى عليٍّ عليه السلام ثمّ قال: «يا خديجة! هذا عليٌّ مولاك ومَولى المؤمنين وإمامُهم بعدي». ثمّ أخذَ العهدَ منهما ".." (الحديث بتمامه في: بحار الأنوار: ج 18، ص 233)
وكذا رُوي عن الصّادقَين الباقَرين عليهما السلام في حمزة سيّد الشهداء: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله دعاه عشيّةَ شهادتِه في أُحد إلى بيعة أمير المؤمنين وأبنائه الغرّ الميامين من أوّلهم إلى قائمِهم أرواحنا له الفداء، فقال حمزة: آمنتُ وصدّقتُ ورضِيتُ بذلك كلِّه، وكان الرّسول صلّى الله عليه وآله قد دعا عليّاً وحمزةَ وفاطمة في حديثٍ طويل أخرجَه السيّد [إبن طاوس] رحمه الله.
وبهذا يتّضح معنى قوله صلّى الله عليه وآله: «ما كمُل من النّساء إلّا أربع، أوّلهنّ خديجة»، لأنّ تلك المخدَّرة آمنتْ بأصولِ الدّين وفروعه وأحكامه واحداً واحداً، وآمنتْ بروحِ الأصول والفروعِ كلِّها، وآمنتْ بالميزان الذي به تقبَلُ وتُردُّ الأعمال والعقائد، حيث إنّها آمنت بإمامة الأئمّة عليهم السلام ".." نظير إيمان فاطمة بنت أسد حينما جلس الرّسول صلّى الله عليه وآله على شفير قبرِها وقال لها: «ابنك ابنك عليّ، لا جعفر ولا عقيل» "..".
آمَنَتْ بأصولِ الدِّين وفروعِه وأحكامِه واحداً واحداً، وآمنتْ بروحِ الأصول والفروع كلِّها، وآمنتْ بالميزان الذي به تُقبَل وتُرَدُّ الأعمالُ والعقائد، حيث إنّها آمنتْ بإمامة الأئمّة عليهم السلام ".."
ونظيرُه ما روي في (البحار) من أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال [مضمون الرّواية]: «إذا سأل نكيرُ ومنكَر في القبر فاطمة الزّهراء عليها السلام عن إمامِها فإنّها تقول: هذا الجالس على شفير قبري بَعلي وإمامي: عليّ بن أبي طالب عليه السلام».
وهذه المقامات خاصّة بالأولياء الكاملين من أهل هذا البيت، وإن كانت متأخّرةً عنهم، لأنّها شرطُ كمال الإيمان ".." ولهذا نزلَ يوم الغدير -عند تنصيب أمير المؤمنين عليه السلام للخلافة- قوله تعالى: ﴿..اليوم أكملت لكم دينكم..﴾ المائدة:3، وقوله تعالى: ﴿..وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته..﴾ المائدة:67.
الحاصل: لقد أودعَ اللهُ في تلك الذّات القدسيّة -يعني ذات خديجة المقدّسة عليها السلام- ودائعَ نفيسة وذخائرَ شريفة لم يودِعها -في ذلك الزمان- في [غيرها] من سكّان السماوات والأرض.
وأعظَمُ تلك الودائع، الجوهرُ الثمين لولاية أمير المؤمنين عليه السلام حيث إنّها آمنتْ وصدَّقت بها قبلَ الإعلان عنها، وقبل خروجِها من القوّة إلى الفعل، وبذلك سبقتْ خديجة إلى الإيمان بجميعِ مراتبِه ومقاماتِه وتفصيلاتِه. وهذا المستوى من الإيمان الكامل لم يتيسّر لعموم الناس، لأنّ أمر الإمامة كان مخفيّاً على أهل ذاك الزمان إلى يوم غدير خمّ، حيث رفع عنه الستار بعد نزول قوله تعالى: ﴿..والله يعصمك من النّاس..﴾ المائدة:67، فبشّرت النبيّ صلّى الله عليه وآله برفعِ الخوفِ ودَفْعِ أذيّة القوم.
ويكفي خديجة شرفاً أنّها عاشت مع النبيّ صلّى الله عليه وآله أربعاً وعشرين سنة، فلم يختَر عليها امرأةً حتّى ماتت، فلمّا هاجر صلّى الله عليه وآله تزوّجَ في فترةٍ وجيزة عدّةَ زوجات، وظلَّ يلهجُ باسمِ «خديجة» ويترحّمُ عليها ويستغفرُ لها، ويحترمُ أرحامَها ويقرِّبُهم، ولم يغفَل عن ذكرها أبداً، وكان يرى في فاطمة عليها السلام حنانَ أمِّها وحبَّها وودَّها وإحسانَها، فيلزمها ويحبّها ويقبّلُها ويتذكّر بها أُمَّها. الخلاصة: لقد وفِّقتْ خديجة لخدمةِ ابنتِها فاطمة الزهراء عليها السلام، وتزوّدت من تلك الرّوح الغالية مدّةَ خمس سنين، ثمّ توفِّيت في السنة العاشرة من البعثة -على الرواية المشهورة- وقارنت وفاتُها وفاةَ أبي طالب، فسمّى الرسول صلّى الله عليه وآله ذاك العام بـ «عام الحزن».
ثمّ هاجر النبيُّ صلّى الله عليه وآله بعد ثلاث سنوات من وفاتِها إلى المدينة المنوّرة. وكان عمر خديجة عند وفاتها خمسة وستّين عاماً -على ما ذكِر- وكان عمر فاطمة الزهراء عليها السلام عند الهجرة ثمان سنوات، حيث بقِيت في مكّة ثلاث سنين بعد وفاة أمِّها.
كأنّها الملَكة
* كانت خديجة أميرةَ عشيرتِها، وسيّدةَ قومِها، ووزيرةَ صِدقٍ لرسول الله صلّى الله عليه وآله، فكانت كأنّها الملكة في الحجاز وأطرافها، لكثرة ما كانت تملكُه من المواشي والخدَم والحَشَم، والضّياع والعِقار والأملاك، والأموال والتّجارة والعبيد والإماء، والجواهر الغالية والذّهب والفضّة، وقد قدَّمَتها جميعاً -وهي في غاية الرِّضا والامتنان- إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله، خصوصاً خلال فترة الحصار في شِعب مكّة، حيث استمرّ ثلاث سنوات منعت قريشٌ فيهنَّ القوتَ والإمدادَ عن بَني هاشم، فكانت خديجة تُغدِقُ عليهم بكلّ سخاء، وتُنفِقُ على تلك الجماعة من الرّجال والنساء من بني هاشم ومن الحرّاس والحَفَظة الذين كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكان الرّبيع بن العاص صِهر خديجة على بنتِها يحملُ الحِنطة والتّمر على الإبل ويبعثُ بها إليهم تحتَ جنح الظّلام، حتّى نفدَت ذخائرُهم ولم يبقَ لهم شيء.
بناتُ الرّسول أم ربائبُه؟
روى الشيخ الطوسي والشيخ المفيد عليهما الرحمة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله تزوّج خديجة بكراً، والمشهور أنّها عرفت زوجَين قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله، أحدهما: عتيق بن عائذ المخزومي، والآخر: أبو هالة الأسدي، أنجبَتْ للأوّل بِنتاً، وللثاني وَلدَاً اسمه «هند» ربّاه النبيّ صلّى الله عليه وآله، ثمّ تزوّجها النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو ابن خمسٍ وعشرين سنة، وبقيت معه أربعاً وعشرين سنة وشهراً. أمّا بناتُ خديجة ففيهنّ ثلاثة أقوال:
الأول: إنّهنّ بناتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله.
الثاني: إنّهنّ من زوجَيها السابقَين.
الثالث: إنّهنّ بنات أختِها هالة، توفِّيت وهنّ صِغار، فكَفِلتْهنّ خديجة حتّى كَبُرنَ ونُسِبن إليها.
وهذا القول خيرُ دليلٍ على أنّ السيّدة خديجة لم تتزوّج قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقد ذهبَ إليه بعضُ أعلام الشيعة وجماعةٌ من علماء السنّة، والقولُ به يرفع الكثيرَ من الإشكالات والمحاذير، وهو لا يعارضُ المذهبَ الحقّ.
ويُمكن أن يقال: إنّ خديجة ولدت في هذه الفترة ستّة أبناء أو أربعة، وقد ذُكِرت أسماؤهم في كُتب التاريخ والسّيَر، وكانت فاطمة الزّهراء عليها السلام آخرهم، ماتوا كلُّهم ودفِنوا في مكّة إلّا الصّدِّيقة الكبرى، ولا يستبعَد أن تكون خديجة أكبر من رسول الله صلّى الله عليه وآله سنّاً، وأنّها عاشت أربعاً وستّين عاماً، وإن كان المشهور خلاف ذلك، ولكن طرح قول الشيخَين العلمَين المعتمدَين بعيدٌ عن الاحتياط، ومفارقٌ لنهج الصواب.
الوفاة
لا يخفى أنّ هناك اختلافاً شديداً في سنةِ وفاة أبي طالب وخديجة، وأيّهما المتقدّم؟ فقد ذكر صاحب (المناقب) أنّ أبا طالب عاش إلى تسع سنين وثمانية شهور بعد النبوّة.
وروى في كتاب (المعرفة): أنّ خديجة ماتت بعد أبي طالب بثلاثة أيام. وقِيل: مات أبو طالب قبل خديجة بشهر وخمسة أيّام. فلمّا ماتا عليهما السلام حزن النبيُّ صلّى الله عليه وآله حزناً شديداً، وجلسَ في بيتِه إلى أن هاجرَ إلى الطائف، فبقِيَ فيها شهراً ثمّ عاد إلى مكّة، وكان غالباً ما يعتزلُ في شِعب مكّة المعروف بمقبرة المُعلّى «شعب أبي طالب»، ثمّ إنّه صلّى الله عليه وآله أمرَ جماعةً بالهجرة إلى الحبشة. فنزل قولُه تعالى: ﴿ولقد أرسلنا رُسُلاً من قبلك..﴾ الرّعد:38؛ غافر:78، وقولَه عزّ وجلّ: ﴿فإن تولّوا فقل حسبي الله..﴾ التوبة:129.
وفي الحديث: «اجتمَعت على رسول الله صلّى الله عليه وآله مصيبتَان، واشتدَّ عليه البلاءُ ولَزِمَ بيتَه وأَقَلَّ الخروج».
والرواية مشهورة في أنّ ملائكة الرّحمة جاءت بالكَفن لخديجة، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله خرجَ في جنازتِها وهو في غاية الحزن، ونزلَ في قبرِها ووسّدَها بيدِه الشريفة في لحدِها، وقبرُها المطهَّر في «الحَجُون» من مكّة في مقبرة المعلّى ".." وقد بُنِيَ على قبرِها قبّة سنة سبعمائة وسبع وعشرين، ولا زال أهلُ مكّة [يقصد مرحلة ما قبل الوهابيّين] يزورون تلك التّربة الزاكية والبُقعة السامية لإظهار الخلوص والمحبّة، فيُنشِدون الأشعارَ وينظمون القصائد ويعلِّقونها هناك، ويخرجون يومَ ولادة الرّسول صلّى الله عليه وآله من بيت خديجة إلى مزارِها، يحتفلون ويبتهِجون، وقد أثبتَت التّجربة أنّ زيارتَها ترفعُ الهمَّ وتكشفُ الغمَّ وتدفعُ المصائب والنوائبَ الدنيويّة والأُخرويّة، رزقَنا الله محبّتَها، وثبّتَنا على مودّتِها، وجعلَنا من خيار زائريها، وخاصّة مواليهم إنْ شاء اللهُ تعالى.
بلَّغَها النبيُّ صلّى الله عليه و[آله] وسلّمَ السلامَ من ربّها جلّ وعلا، ومن جِبريل.
قالت: هو السّلام. ومنه السّلام. وعلى جِبريل السّلام.
وعليكَ يا رسولّ الله السلامُ ورحمةُ الله وبركاته.
فهذه منقبةٌ لم ترِد لأحدٍ من بنات آدم عليه السلام. فما أعظمَها مفخرةً للدّنيا والآخرة