علمُ الرّجال بين التّقليد والاجتهاد
ضرورةُ التّحقيق في أقوال الرِّجاليين*
ـــــ آية الله الشيخ محمد السّنَد** ـــــ
«.. التَّقليدُ في علم الرّجال يعني جعلَ الوصاية على التّراث الدِّيني لثلّةٍ قليلة، وهذا أمرٌ خطيرٌ يقتضي سدَّ باب الاجتهاد، وسدَّ بابِ التّحقيق والتّدقيق..».
في هذا المحوَر كتب العلّامة السّنَد حول أهمّية التّحقيق في كلمات العلماء المراجع في عِلم الرّجال، وقد اختارت «شعائر» هذه المادّة لأهمّية مجالِها، وعلاقتِها -بالإضافة إلى الفقه- بحركةِ الفكر الإسلامي الذي لا يكون إسلاميّاً إلّا إذا اعتمد على دراسة السَّند، ولو تقليداً على الأقل.
ليس بالإمكان اعتبارُ توثيق الرّجال أو تضعيفُهم استناداً إلى آراء وفتاوى روّاد عِلم الرِّجال اجتهاداً، لأنّ ذلك لا يخرج عن التّقليد، فلا يمكن أن يُدان أحدٌ أو يُلْزَم بما قاله النّجاشي أو ابنُ الغضائري أو غيرُهما في توثيقِ رجلٍ أو تضعيف آخر، لاعتبار هذا من التّقليد في التّوثيق وفي الجَرح والتّعديل.
وإذا ما أراد أحدٌ أن يبني عقيدتَه ويبني تراثَه على التّحقيق والاجتهاد، فلا يصحّ له أن يقلِّد فيه، بل يجب عليه أن يَسبر بنفسِه ويبحثَ عن منشأ تضعيفِ هذا الرّجل الذي ضُعِّف، هل هو صحيحٌ أم ربّما كان تحاملاً عليه؟ وعن منشأ التّوثيق، أهو صحيحٌ أم أنّ فيه تحيّزاً؟ وهذا أمرٌ بالغ الخطورة، لأنّنا في هذا الاستنتاج العلمي نقرّر مصير مدى انتفاعِنا بالتُّراث، ونحدّد درجةَ وكيفيّة الحفاظ عليه.
و[بملاحظة] هذه الموقعيّة من المسؤوليّة تجاه التُّراث، [لنا أن نسأل] كيف تُحصَر صلاحيّة هذا الموقع ويُصادَر، ونجعل عليه وصايةَ منهجٍ معيّن حقيقتُه التّقليد وتحكيمُ فتاوى رجاليّة، وجعلُها من الثّابتات الأزليّة التي لا يُطاولها نقدٌ ولا اعتراض، مع أنّ الجَرح والتّعديل يقوّض أو يبسطُ في التُّراث، وفي الحديث النبويّ وحديث أهل البيت عليهم السلام، فلا يصحّ -من باب المثال- أن نُلزَم بما قاله النّجاشي في التّضعيف، أو بما قاله كبار علماء الرّجال عندنا، وليست هذه دعوة لغضِّ الطَّرْف وصرف النّظر، وبألّا نُعطي أيّ قيمة علميّة لما قالوه، فالأمر ليس استخفافاً بأقوال العلماء، بل ما قالوه مجرّد معطيات ومؤشّرات لا بدّ أن ينضمّ إليها مناهج وموادّ أُخرى يوازَن في ما بينها، ثمّ يستنتَج حقيقة الحال .
وهذا نظيرُ الباحث التّاريخي (عِلم الرجال اشتُقّ من علم التاريخ)، فإنّ الباحث والمحقّق التّاريخي لا يقف عند أقوال المعاصرين لشخصيّةٍ تاريخيّة، ولا يحبسُ نظرتَه ونتيجتَه النهائيّة ويوقفُها عند أقوال المعاصرين لها، فضلاً عن غير المعاصرين، لأنّه كم من معاصرٍ قد أخذَه تحاملٌ وحسَد، واختلافٌ في المبنى أو في العقيدة، وغير ذلك ممّا يُخرجُه عن رحى التّحقيق ومصداقيّة البحث.
ولا يمكننا -في الحقيقة- أن نعتمد على نتائج مقرّرة سلفاً من روّاد عِلم الرجال، لا سيّما في جانب الجَرح، ونعتمدها كأمور مسلّمة، وكأنّها وحيٌ منزَل، فهذه فتاوى رجاليّة، ومَن أراد أن يقلِّد فيها فعليه باتّباع الفتاوى، مع أنّ هذا ليس منهجاً تحقيقيّاً أصلاً.
وأمّا مَن أراد أن يجتهد ويحقّق فعليه دراسة تلك التّضعيفات وتلك الطُّعون، لأنّ -كما هو واضح للخبير الممارِس لعلم الرّجال- جملةً من التّضعيفات -سيّما عند العامّة- هي ناشئة من مبنىً اعتقاديٍّ معيّن، فإذا كان الرّاوي لا يتّفق معه في مسألة كلاميّة أو اعتقاديّة، فيُسارع إلى تكذيبِه وطعنِه وجَرحه، والنَّيلِ منه، والوقيعةِ فيه بكلِّ ما أُوتي، ويحصل هذا كثيراً، وقد صرَّحَ بها كثيرون حتّى في علم الدّراية وعلم الرّجال، فكيف يُمكننا أن نبني على جَرحٍ معيّنٍ مبنيٍّ على عقيدة، وعلى رؤية معيّنة في مثل هذه الحالة؟
ولقد كان كلٌّ من الميرداماد والمحقّق الوحيد البهبهاني رحمَهما الله -الذي يعتبَر من المجدِّدين في الحوزات العلميّة في القرن الثاني عشر- لا يجمَدان على نصوص علماء الرجال من أصحابِنا من جانب الجَرح أو من جانب التّعديل، بل كانا يدرسان الجَرح والتّعديل بإمعانٍ وتدبُّر، ويُلاحظان منشأ الجَرح والتَّعديل.
إنّ من يتتبّع فتاوى علماء الرّجال في الجَرح، قد يرى العالمَ الرجاليّ مجتهداً في تمييز المفردات الرجاليّة عن المشترَكات، وتمييز طبقة الرّاوي، وتمييز تلاميذ الرّاوي، وتمييز شيوخ الرّاوي وكُتبه، لكنّه ما إنْ يصل إلى الجَرح والتّعديل وحال الرّاوي حتّى تراه مقلِّداً في ذلك، سيّما عند العامّة، وهذا في الواقع تقليدٌ وليس اجتهاداً. إنّ الانفتاح على مناهج البحث الرّجالي -والتي أشرنا إليها في كتابنا الرّجالي- يحافظ على التّراث بشكل علميٍّ تحقيقي. وممّا يجب الانتباه إليه، أنّه لا يصحّ أن نعتمد على تضعيف ابنِ الغضائري -أو غيره- من دون الإطّلاع على منشأ التّضعيف. [وكذا لا يصحُّ] أن نعتمد على قول النّجاشي، والنّجاشي -قدّس الله سرّه الشريف- له الشّكر الجزيل على خدماته التي أسداها لمذهب أهل البيت عليهم السلام، ولكنّنا لا يصحّ أن نجعل من مبانيه رحمه الله في علم الكلام -والتي لم تكن متوسّعة، وإنّما كانت مقتضبة جدّاً- معياراً وصائيّاً على تراث أهل البيت عليهم السلام. وبأيّ ميزان نجعل النّجاشي رحمه الله ".." يُعيِّر ويَزِن لنا؟ وهو نفسه رحمه الله لم يقل: «قلّدوني وسُدّوا باب الاجتهاد في علم الرِّجال».
لذلك فإنّنا عندما نقف على تضعيفٍ رجاليٍّ معيّن، فلا يعني ذلك الإلتزام بهذه الفتوى الرجاليّة، بل لا بدّ لنا من دراسة منشأ التّضعيف الذي استُند إليه في هذه الفتوى، وتقييم صحّتِه أو بطلانِه .
وهذا هو ما يُقال عنه «الاجتهاد في علم الرّجال»، وإلّا فإنّه يكون «تقليداً في علم الرّجال»، والتّقليد في علم الرّجال يعني جعلَ الوصاية على التّراث الدِّيني لثلّةٍ قليلة، وهذا أمرٌ خطيرٌ يقتضي سدَّ باب الاجتهاد، وسدِّ بابِ التّحقيق والتّدقيق، وهي ظاهرةٌ موجودة أكثر وأشدّ عند العامّة في علم الرّجال .
فحَذارِ من التّقليد في فتاوى علم الرّجال، بل إنّ اللّازم هو الاجتهاد في التّوثيق وفي الجَرح والتّعديل، وهذا بابٌ شاقٌّ بالطّبع، فالاجتهاد والتّحقيق هو شاقٌّ في نفسه، بخلاف التّقليد الذي هو استراحةٌ يقصدُها مَن لا يُحبُّ التّعبَ ويَخلد إلى الرّاحة. ولا يصحُّ أن يلزمَ الطّرف الآخر بمجرّد فتوى رجاليّة، فضلاً عن كون الرّجل مهمَلاً أو غير مطعونٍ فيه أو بلا توثيق، فالحالُ فيه أدعى للزوم الفَحص والاجتهاد في حالِه.
* من كتاب (في رحاب الزيارة الجامعة) الذي هو تقرير دروس سماحته.
** من علماء البحرين