بانتظار «شهود بصائر»
«شاهد عيَان» على حال الأمَّة *
_______د. صبحي غندور_______
ما زلت أذكر طرفةً كان يردّدها البعض، لعقودٍ خلت في بيروت، عن قول أحد البيروتيّين لصديقٍ له: عجيبٌ أمْرُ ذلك الشّخص «شاهد عيان»، كلَّ يوم أقرأ له تصريحاتٍ في الصُّحف عن أكثر من قضيّة، فهو حتماً إنسانٌ مهمٌّ جدّاً، لكن كيف يستطيع السيّد «شاهد» أن يكون في أمكنةٍ مختلفة وفي يومٍ واحد؟!
في الأشهر الماضية، كثُر استخدام المحطّات الفضائيّة العربيةّ لظاهرة «السيّد شاهد عيان»، بل أصبح «هو» مصدر الأخبار بالنسبة لبعضها، و«المحلّل السّياسي الأوّل» على هذه المحطّات.
طبعاً، من المفهوم سبب الاعتماد على «شاهد عيان» في ظلِّ غياب حرّية العمل الإعلامي، لكنَّ الخوف أن ينتقل المعنى اللّغوي الصّحيح لتعبير «شاهد عيان»: (مَن شاهَدَ بالعين ويشهد على ذلك)، إلى المعنى الخطير في اللّهجة العامّية المصرية (عيّان)، أي (شاهد مريض) ولا يُعتدّ بشهادته!
هناك الآن في الأمَّة العربيّة الكثير من «شواهد الأعيُن»، والكثير أيضاً من «الشّهداء» الذين يسقطون في معارك «التّغيير والدّيمقراطيّة» السّائدة حاليّاً، بعدما كان تعبير «الشّهداء» يرتبط في ذهن المواطن العربي بمعارك التّحرّر من الإستعمار والاحتلال. والمؤسف في الواقع الرّاهن هو الحملة الجارية من بعض مؤيّدي «شهداء الدّيمقراطيّة» ضدَّ مناصري «شهداء مقاومة الإحتلال». وكأنّ الخيار الآن في الأمَّة هو بين الشّهادة من أجل حرّية المواطن أو الشّهادة من أجل حرّية الوطن!
ما نحتاجه في هذه المرحلة ليس «شهود عيان» فقط على أوضاع «زواريب وأحياء» في هذه المنطقة أو تلك، بل أيضاً «شهود عيان» على أوضاع الأمَّة العربيّة ككلّ، وعلى ما يحدث فيها وحولها من متغيّرات سياسيّة ستُدخِل بعض أوطانها في التّاريخ لكن قد تُخرجها من الجغرافيا. إذ هل هي صدفةٌ أن يبدأ «الرّبيع الدّيمقراطي» الجاري بإعلان تقسيم السودان، وتحويل جنوبه إلى دولة مستقلّة وَضَعت في أولويّاتها بناء العلاقة الخاصّة مع «إسرائيل»؟
ثمّ هل هي صدفةٌ أيضاً أن تكون القوات الأطلسيّة قد حطّت رحالها وهيمنتها في معظم أرجاء المنطقة خلال العقد الماضي، وأن يكون العراق الذي خضع للإحتلال الأميركي/ البريطاني، ثمّ دولة جنوب السودان الوليدة بفعل دعم أميركي/ أوروبي/ «إسرائيلي»، ثمّ ليبيا المتغيِّرة بدعم أطلسي، هي كلّها مناطق نفطيّة هامّة؟!
وهل كانت صدفةً أيضاً أن تتزامن في ظلّ إدارة بوش الدّعوة الغربيّة للدّيمقراطيّة في المنطقة مع احتلال العراق أوّلاً ثمّ ما تبعه من حربَين لاحقاً على لبنان وغزّة؟! ألم يُخصِّص الرّئيس الأميركي السّابق جورج بوش قمّة «مجموعة الدّول الثّمانية» التي انعقدت في ولاية جورجيا الأميركيّة صيف العام 2004، من أجل موضوع الدّيمقراطيّة في المنطقة بعد عامٍ من احتلال العراق!
ألم يقل الرّئيس بوش في كلمته بقمّة الناتو في إسطنبول، في العام نفسه، إنّ تركيا التي هي عضو في «حلف الناتو» ولها علاقات مع «إسرائيل»، تصلح لأن تكون نموذجاً للدُّول الدّيمقراطيّة المنشودة في العالم الإسلامي؟!
تساؤلاتٌ عديدة تفرضها التطوّرات الرّاهنة في المنطقة العربيّة، التي تختلط الآن فيها الإيجابيّات مع السلبيّات دون فرزٍ دقيقٍ بين ما هو مطلوب وما هو مرفوض. فحتماً هي مسألة إيجابيّة ومطلوبة أن يَحدث التّغيير في أنظمة الحكم التي قامت على الاستبداد والفساد، وأن ينتفض النّاس من أجل حرّيتهم ومن أجل الدّيمقراطيّة والعدالة. لكنَّ معيار هذا التّغيير، أوّلاً وأخيراً، هو وحدة الوطن والشّعب واستقلاليّة الإرادة الشّعبيّة عن التّدخّلات الأجنبيّة.
فما قيمة أيّ حركةٍ ديمقراطية إذا كانت ستؤدّي إلى ما هو أسوأ من الواقع القائم، أي إلى تقسيم الأوطان والشّعوب ومشاريع الحروب الأهليّة. ثمّ ما هي ضمانات العلاقة مع الخارج الأجنبي، وما هي شروط هذا الخارج حينما يدعم هذه الإنتفاضة الشّعبيّة أو تلك؟!
إنّ المشكلة هنا هي ليست في مبدأ ضرورة التّغيير ولا في مبدأ حقّ الشعوب بالإنتفاضة على حكّامها الظّالمين، بل في الوسائل التي تُعتَمد وفي الغايات التي تُطرَح وفي النّتائج التي تتحقَّق أخيراً. وهي كلّها عناصر ترتبط بمقوّمات نجاح أيّة حركة تغييرٍ ثوري، حيث لا فصل ولا انفصال بين ضرورة وضوح وسلامة القيادات والأهداف والأساليب. فلا يمكن حصر المراهنة على أسلوب التّغيير، الذي يحدث متزامناً مع بقاء القيادات والغايات والبرامج الفعلية مجهولة التفاصيل.
كما لا يمكن أيضاً تجاهل مدى علاقة التّغيير الدّيمقراطي المنشود بمسائل الصِّراعات الأخرى الدّائرة في المنطقة، وفي مقدّمتها الصّراع العربي/ الصّهيوني. يُذكّرني ما يحدث حاليّاً بما جرى في فترة الحرب الباردة بالنّصف الثّاني من القرن العشرين حيث كانت دول العالم تعيش همّاً يختلف في طبيعته عن هموم دول «العالم الأوّل» الغربي الدّيمقراطي، وهموم «العالم الثاني» الشّرقي الإشتراكي. فقد كان الهمُّ الأول لدول «العالم الثّالث» هو التّحرّر الوطني والقومي من القواعد العسكريّة الأجنبيّة، ومن السّيطرة الاستعماريّة المباشرة التي ميّزت القرن التاسع عشر والنّصف الأوّل من القرن العشرين.
فــ «الدّيمقراطيّة» و«العدالة الإجتماعيّة» هما أساس لبناء المجتمعات من الدّاخل حينما يكون هذا الدّاخل متحرّراً من سيطرة الخارج، لكن عندما يخضع شعبٌ ما للاحتلال أو للسّيطرة الخارجيّة، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق الدّيمقراطيّة أو العدالة الاجتماعيّة، ستكون حصراً بما يتناسب مع مصالح المحتلّ أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التّحرّر منه أو من نفوذه المباشر.
ويتّضح هذا الأمر أكثر بمراجعة كيفيّة إصرار القطب «الشّرقي» الشّيوعي العالمي خلال القرن العشرين على تهميش أيّ دور للإرادة الوطنيّة الحرّة في المجتمعات التي كانت تسير في فلكه، وعلى تهميشه، بل ورفضه لأيِّ طرحٍ ديمقراطي وطني مستقلّ.
وكذلك الأمر كان مشابهاً على الطّرف الآخر الرّأسمالي «الغربي»، الذي كان يريد تهميش كلّ طرحٍ يرتبط بتحرّرٍ وطني أو دعوةٍ لنظامٍ اجتماعيٍّ عادل، ويعمل على إبقاء السّيطرة الاقتصاديّة للشّركات الغربيّة الكبرى، تحت حجَّة «حرّية السُّوق» والنّظام الاقتصادي الحرّ وشعارات الدّيمقراطيّة الرّنَّانة.
الآن، وفي بداية العقد الثّاني من القرن الحادي والعشرين، ووحدانيّة السّيطرة العالميّة لمفاهيم القطب الغربي الرّأسمالي، يشهد العالم حالة فوضى من الطّروحات التي تتفاعل داخل كلِّ مجتمع. لكن لم تستطع هذه المتغيّرات الدّوليّة أن تلغي حاجة شعوب العالم كلّهم إلى التّلازم: بين الدّيمقراطيّة والعدالة الإجتماعيّة، بين التّحرّر الوطني وحرّية المواطنين، بين رفض الاستبداد ومقاومة الاحتلال معاً، بين الانفتاح على العالم وبين الحرص على الهُويّة الوطنيّة والقوميّة والحضاريّة.
الأمَّة العربية بحاجةٍ الآن إلى «شهود بصائر»، ينظرون إلى ما يحدث في أوطانهم وأمّتهم بقوّة البصيرة لا بما تُشاهده الأبصار أو تَسمعه الآذان فحسب. الأمّة بحاجةٍ إلى حكّامٍ ومعارضين يدركون ما الذي يفعلونه ببلدانهم، ولا يكتفون بالمراهنة؛ على قوّة الأمن، أو قوّة الشّارع، أو قوّة الدّعم الخارجي.
* نقلاّ عن جريدة «البيان» الإماراتيّة