أجوبة آليّات التّواصل الحديثة
حوار مع الشيخ هادوي الطّهراني
_____إعداد: أسرة التحرير_____
الشيخ هادوي الطهراني من أساتذة الحوزة الدينيّة في قمّ، وله باع في عالَم التقنيّات الحديثة كونه حائزاً على إجازة في الهندسة الكهربائيّة، ومطلّعاً على عالم الكومبيوتر والإنترنت، ويُجيد أكثر من لغة أجنبيّة من بينها الإنكليزيّة، بالإضافة إلى اللّغة العربيّة. له مؤلّفات عدّة في مجال الدّين والقضايا المعاصرة، وهو عضو في اللّجنة العالميّة للحوار بين الإسلام والغرب.
ما يلي -بتصرّف- نصّ اللّقاء الذي أجرته مجلّة «پنجره» الأسبوعيّة الإيرانيّة في عددها المائة، مع سماحة آية الله الشّيخ «هادوي الطهرانيّ» عن الفقه والتقنيّة الحديثة، مسلّطاً الضّوء على مدى إمكانيّة مواكبة الحوزة الدّينيّة لمتطلّبات العصر، والإجابة على الأسئلة التي تفرضها الآليات الحديثة في التّواصل، وفي مجال الاكتشافات المختلفة. |
• إحدى التحدّيات التي سوف نواجهها في السِّنين العشر القادمة، هي إجابة الفقه عن المستجدّات المتسارعة في مجال التقنيّة الحديثة. فهل سيملك الإسلام الجواب عن جميع تلك المسائل؟
-نحن نعتقد أنّ الإسلام هو الدِّين الخاتم، والخاتميّة تعني انتفاء أرضيّة إرسال الرسل، وهذا لا يتحقّق إلا بعد اتّصاف الدين الخاتم بأمرين:
الأوّل: أن يكون ديناً لا تنمحي أسُسه وأمّهات مسائله في منعطفات التّاريخ وحوادث الأيّام، ولا يعتريه تحريف. وإنّ هذه المصونيّة لا تَتحقّق إلا بعد تحقُّق أمرين:
1- أن يكون له مصدر مَصون عن التّحريف، وهو عندنا القرآن.
2- وجود المنهج، إذ من أجل الحصول على فهمٍ صحيحٍ للدّين، لا بدّ من وجود منهج صحيح وأسلوب خاصّ لفهم الدين، وقد أعطى النبيّ صلّى الله عليه وآله هذا المنهج إلى الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
الثاني: أن يكون الدّين الخاتم كاملاً، يعني أن يستوعب كلّ ما يحتاج الإنسان من الوحي.
إذاً، على أساس هذه المقدّمات الكلاميّة، من المفترض أن يكون الإسلام محيطاً بكلّ ما نحتاجه في مجال الرجوع إلى الوحي. طبعاً ليس بمعنى أن نتوقّع من الدِّين أن يجيب عن كلّ سؤال ونتغافل عن إنجازات البشر، ونضع عقل الإنسان جانباً ونقتصر على الاستفادة من الوحي، ليس كذلك، إذ لم يُنكِر الدِّين دور العقل. إنّ العقل هو النبيّ الباطن كما أنّ الأنبياء عليهم السلام هم أنبياء في الظّاهر. فيجب أن نستخدم العقل في محلّه وفي مجاله، وقد أكّد الإسلام على هذه القضيّة. وإنّ الاستعانة بالعقل والنّقل معاً، يكشف عن حقيقة رؤية الدّين، إذ أنّ ما يحكم به العقل حيثما ينبغي له الحكم، يُقرّ به الدين. «كلّ ما حَكَم به العقل، حَكَم به الشَّرع».
• كيف تكون إجابة الفقه عن التطوّرات التقنيّة لتي تحدث يوماً بعد يوم؟
-لا فرق بين أن تكون هذه التطوّرات سريعة أم بطيئة، ولا فرق بين أن تكون عميقة وجذريّة أو سطحيّة، فلا بدّ أن يكون الدِّين قادراً على الإجابة عن جميع هذه الأمور. أمّا إذا سألنا: كم استطعنا أن نجيب عن الأسئلة في هذه الظّروف فضلاً عن بعد عشر سنين، فلا بدّ أن أقول بأنّنا نواجه بعض النّواقص والقصور في هذا المجال.
• أيّ نواقص؟
-أوّلاً ليست لدينا معرفة كاملة بالمواضيع المستجدّة، إذ من أجل البتّ في أيّ مسألة يجب أن نعرف ذلك الموضوع جيّداً، وإحدى المشاكل التي، كنّا وما نزال، نعاني منها هي عدم فهم المواضيع بشكل دقيق. طبعاً، حسب تقديري، لا يُعدّ هذا المشكل مشكلاً أساسيّاً، المشكلة الأهمّ التي نعيشها هي أنّ بعض هذه الموضوعات قد تكوّنت في أجواء خاصّة، ولأنّنا لا نعرف تلك الأجواء بشكل صحيح، نقع في أخطاء في تشخيص هذه المواضيع.
والمشكلة الأخرى، هي أنّ في نفس هذه المواضيع الموجودة، والتي نحاول أن نحدّدها، علامات وخصائص، والمهمّ هو أن نحدّد أيّ هذه العلامات لها دخل في الحكم الشّرعي، وأيّها لا تؤثّر، وهذا ما فيه بعض التّعقيد. فعلى سبيل المثال: إنّ كثيراً من المسائل الطبّية التي لم يمكن تصوُّرها سابقاً أصبحت ممكنة اليوم، من قبيل زرع الأعضاء، الذي أصبح اليوم من المسائل القديمة، أو الأساليب التي تُعتمد اليوم في سبيل الإنجاب، فبعضها تحتاج إلى مناقشات جادّة، أو قضيّة الاستنساخ التي جرّت كثيراً من أرباب الأديان إلى البحث والنقاش في المسألة، وما طُرح في أبحاث الهندسة الوراثيّة.
• كيف كان موقف الحوزة تجاه المسائل التي ذكرتموها كالاستنساخ أو الهندسة الوراثيّة؟
-في مقام الإفتاء لم تُترك الأسئلة الموجّهة بلا جواب، فعلى سبيل المثال، في قضيّة الاستنساخ، إنّ الكثير من فقهاء الشّيعة، يَرون أن لا إشكال في الاستنساخ في نفسه إلّا إذا ترتّبت عليه مفسدة، إذاً، فهم لا يخالفون هذا العنوان. ولهذا تجدون أنّ في بلدنا نشاطاً وعملاً واسعاً في مجال الاستنساخ والمسائل المتعلّقة بالهندسة الوراثيّة، ولكنّي أعتقد أنّ مشكلتنا ليست في المواضيع التي أَشرت إلى بعضها وحسب، المشكلة الأهمّ والأعمق التي قد غُفل عنها إلى حدّ كبير جدّاً، هو أنّه يجب أن تُعاد صياغة منهجيّتنا المتعارفة الفقهيّة وفق منهجيّة مدرسة أهل البيت عليهم السلام، إذ أنّ فقهاءنا، وعلى مرّ التاريخ، كانوا يوسّعون ويطوّرون المنهجيّة الفقهيّة وفق الظّروف والأجواء التي كانوا يواجهونها، لكن كانت هذه التّطويرات والتّطبيقات على أساس ظروفهم التي كانوا يعيشونها. نحن، اليوم، نواجه قضايا لم يواجهْها أسلافنا، إذاً، نحن بحاجة إلى منهجيّةٍ جديدة.
طبعاً هنا لا بدّ من أن أُشير إلى نقطة وهي أنّ الحوزات كانت إلى فترة من التّاريخ رائدة الثّقافة في المجتمع، وبتعبير السيّد الإمام الخميني رحمه الله: كان بأيديهم النّبض الثّقافي والفكري في المجتمع، وكانوا يتحرّكون في مقدّمة المجتمع، {وحين} انتصرت الثّورة، فتحت الحوزة العلميّة مصراعيها للحضارة الحديثة، والفكر الحديث، والأبحاث الحديثة. وكان بعض الشخصيّات في الحوزة روّاداً، وكانوا قد سبقوا حركة الفكر المعاصر لهم؛ مِن قَبيل الشهيد الصّدر، والشّهيد مطهّري، والسيّد الإمام الخميني رحمه الله، ولكن بشكل عامّ لم تتوفّر الفرصة إلّا بعد انتصار الثّورة الإسلاميّة.
لقد تركت الثّورة الإسلاميّة آثاراً واسعة على جميع أبعاد حياة الإنسان المعاصر، لا على مستوى الأوساط الشّيعيّة أو الإسلاميّة فقط، ولكن أحد تأثيراتها هو انفتاح الحوزة على العالم المعاصِر، ولهذا نجد في الحوزة بعد الثّورة حركة واسعة في التّطوّر والتّكامل، ولا زالت هذه الحركة مستمرّة في مختلف الأبعاد والأنشطة والأشكال، ولا زالت بعض هذه الأعمال مجهولة، وإلى الآن لم يَتحوّل قسم كبير من هذه التّطوّرات إلى منهج ومعيار عمليّ ومعترف به، لأنّ تثبيت أيّ شيء وترسيخه يحتاج إلى زمن.
طبعاً يجب أن أؤكّد هنا على هذه النّقطة، وهي أنّه لو تمّ تشخيص وتطبيق ما أَنجزَته الحوزة إلى الآن في مختلف المجالات بالشّكل الصّحيح، فإنّ ذلك سيوفّر قسم من احتياجاتنا المعاصرة.
• ما هي الظواهر المُستحدَثة التي تتوقّعون أن تظهر في السّنوات القادمة، وتجرّ الفقه إلى أبحاث ونقاشات، وما هو تكليف الحوزة من أجل الحضور اللّائق في ذلك العصر؟
-إنّ سرعة التّطوّر في التقنيّة تزداد يوماً بعد يوم، ولهذا فإنْ أبطأنا في المسير سيزداد بُعدُنا دائماً، إن لم نَسِر بنفس التّسارع، أو نجتاز تسارعه لنتقدَّم عليه، فهو الذي سيُسرع ويتقدّم. أنظروا إلى الإنترنت، أنا كنت أتعامل مع الإنترنت منذ أن أصبح عامّاً وبدأتُ بالإجابة عبره من عام 1993م، مع أنّ نظام التّشغيل لم يكن «ويندوز»، كان العمل على نظام «دوز» وكتابة الأوامر. لم يكن أي نوع من الـ«غرافيك». ومن أجل أبسط الأمور التي تُنجز الآن بكلّ سهولة، كنتَ تُضطرّ وقتئذٍ أن تكتب سطراً للأوامر. عندما دخل الإنترنت إلى إيران، لم أكن أتوقّع أن يصبح اليوم بهذا الشّكل، فحتّى الأطفال يتعاملون معه. في ذلك الوقت لم يستطع أحد أن يتصوّر مفهوم البريد الإلكتروني، ولم يكن الهاتف الجوّال موجوداً. مَن كان يتصوّر أن يأتي يوم يصبح فيه الإنترنت والجوّال جزءاً من حياتنا بل جزء من هويّتنا الشخصيّة؟!
إنّ التقنيّة الحديثة أصبحت تأخذ موقعها في حياتنا وعلاقتنا الاجتماعيّة بصفتها أمراً أوسع نطاقاً من الآلة. لقد سألوني في الأمس عن حكم العلاقة بين غير المحارم في الشّبكات الاجتماعيّة الموجودة. نحن يجب أن نُبيِّن معنى الحياة الدّينيّة في هذه الأجواء الجديدة. هل تكليفنا هو أن نقول: لا تدخلوا في هذه الأجواء؟ أو أن نقول إنّ التّديُّن يعني أن لا تدخل في هذه المجالات، ولا تتعاطى الدّردشة، ولا تدخل في الشّبكات الاجتماعيّة، ولا تدخل هنا وهناك. يعني نفس الأسلوب الذي اتّخذه بعض المسيحيّين واعتزلوا عن المجتمع الغربي وخالفوا التّقنيّة برُمّتها، ويعيشون حياة بسيطة بدويّة في القرى.
• هل لديكم تصوُّر عمّا سيكون عليه العالم في السّنوات العشر القادمة، وكيف تستطيع الحوزة أن تؤدّي دوراً في ذلك الزمان؟
-لا أريد أن أبالغ بالكلام الخيالي، ولكنّي أتوقّع أن يكون عالَماً ذا علاقات جديدة بين النّاس، وأن تكون هذه العلاقات أوسع من موضوع التّقنيّة. لعلّك تستطيع أن تحدّد مواصفات ولدك في المستقبل من خلال الهندسة الوراثيّة، وتطلب أن يكون طوله كذا، وذقنه كذا، وأنفه كذا، وحاجباه كذا.. فكيف نريد في هذه الأجواء أن نطرح الإسلام؟ طبعاً هنا يوجد خطر قويّ؛ وهو أن ننبهر ونتنفاجأ أمام هذه التّطوّرات، وبالتّالي نتورّط في منهج الإبداع المنفلت عن الأصول، والذي لا يقلّ خطورة عن التّحجُّر بل يفوقه.
من هنا يجب علينا أن نُعيد النّظر في الأصول، ونقيِّمها من جديد على أساس فكرة الخاتميّة، وننظر في مدى انسجام هذه المعايير مع فكرة الخاتميّة، إذ أنّ الخاتميّة أصل مسلّم لنا ولا يمكن خدشه. عند ذلك يمكن أن نُجيب عن أسئلة العالم الجديد، العالم الذي يُقبل على التّطوّر والتّحوّل في كلّ علاقاته السياسيّة والاقتصاديّة وحتى العلاقات العائليّة.
إنّ أحد المواضيع المطروحة، موضوع «احترام الخصوصيّة الفرديّة والحرّية الشّخصيّة» وبفقدهما يفقد الإنسان هويّته. هناك بعض الادّعاءات الآن أنّه يمكن للإنسان أن يصل إلى موقع من العلم بحيث تنكشف لديه جميع أحاسيس ومشاعر مَن حوله، فإن وصلنا واقعاً إلى هذا المستوى فيجب أن نقول إنّ هويّة الإنسان أصبحت ذات معنى جديد، وهذا الأمر غير قابل للتّفسير وفقاً لأُسسنا، ولكن من الواجب أن يُحفظ الخصوصيّة بشكل من الأشكال، ولا بدّ لنا من أن نحصل على طرائق لحفظ الخصوصيّة الفرديّة. أحياناً تكون المهمّة الوحيدة للفقه هي أن يحدّد موقفه تجاه الواقعة التي حَدَثت، ويقول إنّ ذلك يجوز أو لا يجوز. هذه مهمّة، ولكن المهمّة الأخرى التي تُطرح اليوم هي أنّ بمجرّد أن نُحرِّم شيئاً نُسأَل مباشرةً: ما هو البديل الذي تقترحونه؟ يعني لا بدّ أن يَنزل الفقه إلى ساحة أوسع من النّفي والإثبات، وإلى ما هو موجودٌ الآن.
• هل أنّ الأجواء مساعدة للفكر الحرّ؟
-إلى الآن لم يتكوَّن المنهج العامّ والقواعد لذلك. لا بدّ من أن يتوفّر لدينا الاستعداد لسماع الكلام الذي يبدو غير صحيح لنا في بادئ الأمر. أنا لا أقول إنّه يمكن أن نصل من الأمر المحال إلى المسلَّم دائماً، ولكن يجب أن نسمح للاستماع، لا بدّ أن نعطي الفرصة للاستماع إلى هذه الأحاديث، وأن نُجري تقييمها الجادّ في أجواءٍ منصفة علميّة بعيداً عن التّسييس والشّعارات، فإن توفَّرت هذه الأجواء، نأمل أن نفعِّل هذه الطّاقة الكامنة في الدِّين بقدر وسعنا إن شاء الله.
هناك مَن يقول: إنّ الإسلام يفتقد الحلول في مجال الاقتصاد والفنّ والطبّ. ليس كذلك، إنّ الإسلام لديه حلول، ولكنَّنا لم نسمح باستخدام هذه الحلول وتنفيذها. عند ذلك وبهذه الشّعارات، غير العلميّة، يتعرّض إيمان النّاس إلى صدمات قويّة، وقد يلجأون إلى التّفاسير غير الصّائبة عن الدِّين التي تُقلّص نطاقه، وتحذف مفعوله في مختلف أبعاد الحياة.