بصائر

بصائر

منذ أسبوع

مواجهة الدّهر بالتّفاؤل

مواجهة الدّهر بالتّفاؤل
في شعر الإمام عليّ عليه السّلام
______د. أليس كوراني______


تَنْضَح كُتُب الحكمة ودواوين الشّعر العربي بالحديث عن الدّهر وغدر الزّمان وزوال النِّعَم. ونجد أنّ التّشاؤم يغلب على التّفاؤل عند مقاربة الحديث عن الدّهر وصروف الأيّام عند قسم من الحُكَماء والشّعراء، في حين يغلب التّفاؤل عند القسم الآخر.
وكذلك نجد هذين الموقفَين عند عامّة النّاس، فمنهم مَن تحبطه الحوادث والمصائب، ومنهم من يصبر حتى يَتجاوز محنته. والحزن عند البلاء حالة إنسانيّة طبيعيّة، على أن لا يتحوّل هذا الحزن إلى حالة مَرَضيّة تشلّ حركة الإنسان وتمنعه من متابعة حياته الاعتياديّة.
وأحوال الإنسان لا تبقى على حالها في كلّ زمان ومكان، فلا بدّ لها من التّغيُّر والتّحوُّل، وربّما فاجأته الأيّام بما لا يحبّ، أو تبسّمت له من حيث لم يحتسب. ولأمير المؤمنين عليه السّلام أقوال كثيرة في تقلّب الدّهر وصروف الأيّام، نختار شيئاً منها، صاغه شعراً [يُنسب إليه]:.

(1)
ولَيْسَ بِدَائِمٍ أَبَداً نعِيْمٌ كَذَاكَ البُؤْسُ لَيْسَ لهُ بَقَاءُ

يوازن هنا الإمام عليه السّلام بين النّعيم والبؤس، فكما أنّ النّعم مهدّدة بالزّوال، والأمثال على ذلك في حياتنا اليوميّة كثيرة، كذلك البؤس أو الشّقاء فإنّه لا يبقى دائماً، فلا بدّ لكلّ شيء من التّغيُّر والتّبدّل مع تعاقب الأيّام واللّيالي، فأسباب الدّنيا وتصاريفها مبنيّة على ذلك، والعُسر واليُسر يتعاقبان.
(2)

 
هي حالانِ: شِدَّةٌ وَرَخاءُ   وسِجالانِ: نِعْمَةٌ وبلاءُ 
وَالفَتى الحاذِقُ الأَديبُ إِذا ما  خَانَهُ الدَّهْرُ لَمْ يَخُنْهُ عَزَاْءُ 
إِنْ أَلَـمَّتْ مُلِمَّةٌ بي فَإِنّي  في الـمُلِمَّاتُ صَخْرَةٌ صَمَّاءُ 
في الـمُلِمَّاتُ صَخْرَةٌ صَمَّاءُ  يَدُومُ النَّعِيمُ والبَلْوَاْءُ 

في هذه الأبيات يتابع الإمام عليه السّلام تأكيده على تغيّر الأحوال، ويمدّ السّامع بجرعة من العزيمة والصّبر لمواجهة الشّدائد، ضارباً نفسه مثلاً في تحمّل الصّعاب، فيشبّه نفسه كصخرة صمّاء، كناية عن قوّة عزيمته في تخطّي الأهوال، وعدم انهزامه النّفسيّ أمامها.
(3) 


إِذا اشْتَمَلَتْ عَلى اليَأْسِ القُلوبُ  وَضَاْقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيْبُ 
وَأَوْطَنَتِ المَكارِهُ وَاسْتَقَرَّت  وَأَرْسَتْ فِي أَماكِنِها الخُطُوْبُ 
وَلَمْ تَرَ لانْكِشافِ الضُّرِّ وَجْهاً  لا أَغْنى بِحيلَتِهِ الأَريبُ  
أَتاكَ عَلى قُنوطٍ مِنْكَ غَوْثٌ  يَمُنُّ بِهِ اللَّطيفُ المُسْتَجيبُ  
وكلُّ الحادِثاتِ إِذا تَناهتْ   فَمَوْصُولٌ بِهَا فَرَجٌ قَرْيَبُ 

يصف الإمام عليه السّلام في هذه الأبيات حال الإنسان عندما يستولي عليه القنوط وكيف أنّه يقف عاجزاً أمام المصائب، وفي لحظة اليأس القاتلة ينقذه الله تعالى من دوّامة القلق والقنوط، ثمّ يبشّره الإمام بالفرج الذي لا بدّ من قدومه مهما طالت ليالي المِحَن، وهو مصداق لقوله تعالى: ﴿إنّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً﴾ الشرح:6.
(4)
  
إِنِّي أَقُوْلُ لِنَفْسي وَهْيَ ضَيِّقةٌ  وَقَدْ أَناخَ عَلَيْها الدَّهْرُ بِالعَجَبِ 
صَبْراً عَلى شِدَّةِ الأَيّامِ إِنَّ لَها  عُقْبَى وَمَا الصَّبْرُ إلاَّ عِنْدَ ذِي الحَسَبِ 
سَيَفْتَحُ اللهُ عَنْ قُرْبٍ بِنافِعَةٍ  فيها لِمِثْلِكَ رَاحَاتٌ مِنَ التَّعَبِ 

في حواره مع نفسه، يدعونا الإمام للتّفاؤل، متسلّحين بالصّبر لمجابهة شدّة الأيّام، لأنّ الصّبر مفتاح كلّ فرج، فتكون جائزة الصّبر راحة سبقها تعب وعناء، ولأنّ الزَّمن يحمل في طيّاته الحلول، فهذا يعني أن لا شيء يبقى جامداً ومغلقاً.
(5)
الدَّهْرُ يَخْنُقُ أَحْيَانا قِلاْدَتَهُ  عَلَيْكَ لا تَضْطَرِبْ فيهِ وَلا تَثِبِ 
حَتّى يُفَرِّجَها في حالِ مُدَّتِها   فَقَدْ يَزيدُ اخْتِناقاً كُلُّ مُضْطَرِبِ 

 يحثّنا الإمام عليه السلام على الثّبات وسكينة النّفس، ففي بعض الأحيان، تكون نوائب الدّهر علينا شديدة كقلادة تخنق صاحبها، وربّما خنقته إنِ اضطرب جَزَعاً ويأساً. وقد قال قائل: اثبتْ للدّهر ما ثبت لك.
(6)
رَأَيْتُ الدَّهْرَ مُخْتَلِفاً يَدورُ فَلاَ حزْنٌ يَدُومُ ولا سُرُوْرُ

يعود الإمام هنا إلى التّأكيد على تبدّل الأحوال، فلا شيء يبقى على حاله.

(7)

إِذَا مَا عَرَى خَطْبٌ مِنَ الدَّهْرِ فاصْطَبِرْ فَإِنَّ اللَّيَالي بِالخُطُوبِ حَوَامِلُ
وَكُلُّ الذي يَأْتي بِهِ الدَّهْرُ زائلٌ سَريعاً فَلاَ تَجْزَعْ لِمَا هُوَ زائِلُ

  مرّة بعد أخرى، يضيء الإمام ليالي آلامنا بالتّفاؤل، ويؤكّد على الصّبر والصّمود أمام حوادث الدّهر، لأنّها لن تبقى على حالها، وستزول حتماً.


وأنتم طرَداءُ الموت
إنْ أَقمتُم له أخذَكم، وإنْ فررتُم منه أدركَكم،
وهو ألْزَمُ لكم من ظلِّكم. الموتُ معقودٌ بنواصيكم، والدنُّيـا
تُطوى من خلفِكم. فاحذروا ناراً قعرُها بعيد، وحرُّها شديد،
وعذابُها جديد. دارٌ ليس فيها رحمة، ولا تُسمَعُ فيها دعوة، ولا تُفرَّجُ
فيها كُرْبَة .
أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام 
 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

منذ أسبوع

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات