الإختبارُ بأنواع الشَّدائد
عرضُ الحقائق دونَ تزْيين أو تزْييف
ــــــ الشيخ محمّد علي الأنصاري ــــــ
بهارجُ الثّروة والمُلك والزّينة، حجبٌ تمنع من التّعامل مع الحقائق بتجرّد. تنتفي مع هذه البهارج إمكانيَّةُ التّفريق بين مَن اقتنعَ بالدّليل أو انساق لسَطوة التّرغيب والتّرهيب، فيَبطل مبدأُ «الإختبار».
«ولو أراد سبحانه أن يضعَ بيتَه الحرام، بين جنّاتٍ وأنهار ".." لكان قد صغَّر قدْرَ الجزاء على حسب ضعفِ البلاء، ولكنّ الله يختبرُ عبادَه بأنواع الشّدائد ".." إخراجاً للتّكبُّر من قلوبهم، وإسكاناً للتّذلُّل في أنفُسِهم».
ما يلي، جانبٌ من خطبة الإمام علي عليه السلام، حول هذه المضامين، مع مختاراتٍ -بتصرُّف- من كلمات شُرّاح (نهج البلاغة) حول هذه الخطبة. |
* قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام:
«ألا تَرَوْنَ أنّ الله سبحانَه اختبرَ الأوّلين من لَدن آدمَ صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجارٍ لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تسمعُ ولا تُبصِر، فجعَلها بيتَه الحرام الَّذي جعلَه للنّاس قياماً، ثمّ وضعَه بأوْعَر بقاعِ الأرض حَجراً، وأقلِّ نَتائق الدّنيا مَدَراً، وأضْيقِ بطون الأودية قُطْراً، بين جبالٍ خشِنة، ورمالٍ دَمِثة، وعيونٍ وَشِلة، وقُرىً منقطعة، لا يزكو بها خُفٌّ، ولا حافرٌ، ولا ظِلف.
ثمّ أمر آدمَ ووُلدَه أن يثنوا أعطافَهم نحوه، فصار مثابةً لمنتجَع أسفارِهم، وغايةً لملقى رحالِهم، تهوي إليه ثمارُ الأفئدة، من مفاوزِ قِفارٍ سحيقة، ومهاوي فِجاجٍ عميقة، وجزائرِ بحارٍ منقطعة، حتّى يهزّوا مناكبَهم ذُلُلاً يهلِّلون للهِ حولَه، ويرملون على أقدامهم شُعْثاً غُبْراً له، قد نبذوا السّرابيلَ وراءَ ظهورِهم، وشوّهوا بإعفاء الشّعور محاسنَ خلْقِهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعلَه اللهُ سبباً لرحمتِه، ووُصْلةً إلى جنّتِه.
ولو أرادَ سبحانه أن يضعَ بيتَه الحرام، ومشاعرَه العِظام، بين جنّاتٍ وأنهار، وسهْلٍ وقَرارٍ جمِّ الأشجار، داني الثّمار، ملتفِّ النَّبات، متّصل القرى، بين بُرّة سمراء، وروضةٍ خضراء، وأريافٍ محدقة، وعِراصٍ مغدقة، ورياضٍ ناضرة، وطُرُق ٍعامرة، لكان قد صغَّر قدْرَ الجزاء على حسب ضعْفِ البلاء.
(ثُمَّ لَو كانَ الأَساسُ المَحمولُ عَلَيها)، والأَحجارُ المَرفوعُ بِها، بَينَ زُمُرُّدَةٍ خَضراءَ، وياقوتَةٍ حَمراءَ، ونورٍ وضِياء، لَخَفَّفَ ذلِكَ مُصارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدورِ، ولَوَضَعَ مُجاهَدَةَ إبليسَ عَنِ القُلوبِ، ولَنَفى مُعتَلَجَ الرَّيبِ مِنَ النّاسِ. ولكِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَختَبِرُ عَبيدَهُ بِأَنواعِ الشَّدائِد، ويَتَعَبَّدُهُم بِأَلوانِ المَجاهِدِ، ويَبتَليهِم بِضُروبِ المَكارِهِ؛ إخراجاً لِلتَّكَبُّرِ مِن قُلوبِهِم، وإسكاناً لِلتَّذَلُّلِ في أنفُسِهِم، ولِيَجعَلَ ذلِكَ أبواباً فُتُحاً إلى فَضلِهِ، وأسبابًا ذُلُلاً لِعَفوِهِ..». (نهج البلاغة، خ 192 وتُسمّى القاصعة)
***
شرحُ فقراتٍ من الخطبة
توسّعَ صاحبُ (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) في تفسير فقرات هذه الخطبة، وأورد مع رأيه بعض أراء شرّاح (النّهج) كابن ميثم البحراني وغيره، فقال:
* اعلم أنّه عليه السّلام لمّا ذكرَ في الفصل السابق [القسم الأوّل من الخطبة من 192] اختبارَ الله لعباده المستكبرين بأوليائه المستضعفين، ومثّل بقصّة بعْثِ موسى وهارون عليهما السّلام إلى فرعون، أَتْبعَه بهذا الفصل ونبَّه عليه السّلام فيه على وجه الحكمة في بعث ساير الأنبياء والرُّسل بالضّعف والمَسكنة والفقر والفاقة والضرّ وسوء الحال، وفي وضع بيتِه الحرام الذي جعله قبلةً للأنام بوادٍ غير ذي زرع، وبلدٍ قفْر وأرضٍ وعرة، وأشار أنّ الحكمة في ذلك كلَّه هي الابتلاءُ والاختبار، وهو قوله عليه السّلام:
O «ولو أرادَ الله سبحانَه بأنبيائه حيث بعثَهم [أي حين بعثهم] أن يفتحَ لهم كنوزَ الذّهبان، ومعادن العِقْيان [أغلى أنواع الذَّهب] ومغارسَ الجنان» لِيُنفقوا منها ويكونوا ذوي سعةٍ ومنعة، وعزٍّ ورفعة، يُدفعُ بها اعتراضُ الجاحدين، وتنقطعُ ألسنُ المعاندين، فلا يقولوا فيهم مثل ما قالوه لنبيِّنا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ الفرقان:7-8.
O «وأن يحشرَ معهم طيرَ السّماء ووحوشَ الأرض» إعظاماً لقدْرهم وإجلالاً لشأنِهم في أعينِ المبعوثين إليهم، «لَفَعَلَ» ذلك كلَّه لأنّه عزَّ وجلَّ على كلِّ شيءٍ قدير، وإنّما أمرُه إذا أرادَ شيئاً أن يقول له كُن فيَكون.
وجهُ الحكمة في بَعْثِ ساير الأنبياء والرُّسل بالضّعف والمَسكنة، والفقر والفاقة، والضرِّ وسوء الحال، وفي وضعِ بيتِه الحرام الّذي جعلَه قبلةً للأنام بوادٍ غيرِ ذي زرْع، وبلدٍ قفْرٍ وأرضٍ وعِرَة.
ولكنّه لم تتعلَّق إرادتُه بها فلم يفعلها ولم تقع، إذ «لو فعلَ» لترتَّب عليه مفاسدُ كثيرة، وأمورٌ كلّها خلاف مقتَضى الحكمة الإلهيّة والنَّظم الأصلح.
وهذه المفاسد ستّةُ أمور:
- أحدُها: «لَسَقَطَ البلاء»، أي لو وقعتْ هذه الأمور لسقطَ ابتلاءُ المتكبّرين بالمستضعَفين من الأنبياء والمرسَلين، وارتفعَ اختبارُهم بهم، إذ مع وقوعِها ارتفعَ الضّعفُ عنهم وانتفت علَّةُ الاستضعاف.
- ثانيها: «وبَطلَ الجزاء»، لأنّ الجزاء مترتّبٌ على التّسليم للأنبياء وعلى امتثال التكاليف الإلهيّة على وجه الخلوص، ومع كون الأنبياء حين بعثهم بزينة الملوك والسّلاطين يكون الانقياد لهم وامتثالُ أوامرِهم ونواهيهم عن رغبةٍ مائلة، أو رهبةٍ قاهرة، فلا تكون طاعتُهم عن إخلاصٍ حتّى يستحقَّ المطيعون للجزاء.
- ثالثها: «واضمحلَّت الأنباء»، أي أخبارُ الأنبياء، والمراد باضمحلالِها انمحاؤها وذهابُ أثرِها. وذلك لأنّ الغرضَ الأصليّ من بعْثِهم ورسالتهم أن يجذبوا الخَلق إلى الحقِّ الأوّل عزّ وجلّ، ويزهِّدوهم عن الدّنيا ويرغِّبوهم في الآخرة، فإذا فُتِحت لهم أبوابُ الكنوز والمعادن، واشتغلوا بزَخارف الدّنيا وكانوا بزيِّ أهلِها لم تؤثِّر مواعظُهم في القلوب، ولم يبقَ وقعٌ للرّسالة عند الناس [لغِلَبةِ المادِّيَّات على القِيَم والمعنويَّات]
* وقال الشارحُ [ابنُ ميثم] «البحراني» في وجه اضمحلال الأنباء ما محصّلُه:
«إنّ الأنبياء وإنْ كانوا أكملَ الخلق نفوساً وأقواهم استعداداً لقبول الكمالات النّفسانيّة، إلَّا أنّهم محتاجون إلى الريّاضة التّامّة بالإعراض عن الدّنيا وطيِّباتِها وهو الزُّهدُ الحقيقي، فيكون ترْكُهم للدّنيا شرطاً في بلوغ درجاتِ الوحي والرّسالة، وتَلَقّي أخبار السّماء ".."».
** وقال بعضُ الشارحين: «أرادَ باضمحلال الأنباء سقوطَ الوعد والوعيد والإخبار عن أحوال الجنّة والنّار وأحوال القيامة».
- رابعُها: [انتفاءُ مبدإ الأجرِ والجزاء]؛ «ولَما وجَبَ للقابلين» لِدَعوة الرُّسُل -أي المُصدّقين لهم المؤمنين بهم- «أجورَ المبتَلين» المُمتحَنين، لأنّه إذا سقطَ البلاء والامتحان، لا يبقى مبتلىً ولا مبتلىً به، فلا يكونُ قبول القابلين وتصديقُهم للرُّسل عن وجه [وعلى قاعدة] الابتلاء، حتّى يُحسَب لهم الأجرُ والجزاءُ بذلك.
- خامسها: [انتفاءُ مبدإ ثوابِ الإحسان (الثّواب الخاصّ)]؛ «ولا استحقَّ المؤمنون» بالله وبأنبيائه ورُسلِه «ثوابَ المحسنين» لِعدَمِ كون ايمانهم عن وجه الإخلاص حسبما عرفتَه، فلا يكونون مُحسنين حتّى يستحقّوا الثّواب الجزيل والجزاء الجميل، وإنّما المؤمنون المحسِنون الذين ﴿..إذا سمعوا ما أُنزِل إلى الرّسول ترى أعينَهم تفيضُ من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ، يقولون ربّنا آمنّا فاكتبُنا مع الشّاهدين، وما لنا لا نؤمن باللهِ وما جاءَنا من الحقّ ونطمع أن يدخلَنا ربّنا مع القوم الصّالحين، فأَثابَهم الله بما قالوا جنّاتٍ تجرى من تحتِها الأنهارُ خالدين فيها وذلك جزاءُ المحسنين﴾ المائدة:83-85 ".."
- سادسها: [تصبحُ الأسماءُ لغواً، فلا إسلام حقيقي ولا إيمان ولا وَرع، إلخ]؛ «ولا لَزِمَت الأسماء معانيها»، وهو ارتفاعُ الملازمة بينَها وبين المعاني، وانفكاكُ إحداهما عن الأخرى، لأنّ إطلاقَ اسمِ المسلم على المسلم حينئذٍ، وتسميتِه به لمحض ما لَه من صورة الإسلام، لا لوجود معنى الإسلام وحقيقتِه فيه، إذ المفروض أنّ إسلامَه عن رغبةٍ أو رهبة، لا عن وجه الحقيقةِ والتّمحيص والإخلاص، فيصدق الإسم بدون المعنى، وكذلك التّسمية بالمؤمن والمصدِّق والعابد والزّاهد والرّاكع والسّاجد وغيرها.
***
التّنبيهُ على حكمة وضْع البيتِ الحرام بأَوعرِ البقاع
ولمّا نبّهَ عليه السلام على وجه الحكمة والمصلحة في بعث الأنبياء بالخَصاصة والمسكَنة، وأنّ الوجهَ في ذلك هو الإمتحانُ والابتلاء ليترتَّبَ على اتّباعهم عظيمُ الأجر وجزيلُ الجزاء، أردفَه بالتّنبيهِ على حكمة وضْعِ البيت الحرام بأوعرِ البقاع وأقفرِ البلدان فقال:
O «ألا ترونَ أنّ الله سبحانه اختبرَ الأوّلين من لدن آدم عليه السلام إلى الآخرين من هذا العالَم بأحجارٍ» بنى بها البيت.
O «لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تُبصِرُ ولا تسمع». هذا باعتبار مجموع الأحجار، أو بملاحظتِه في نظر الخلق، فلا ينافي ما مرَّ من أنّ الحجَر الأسود أوّلُ ملَكٍ آمن وأقرَّ بالتّوحيد والنّبوّة والولاية، وأنّه يجيءُ يوم القيامة وله لسانٌ ناطق، وعينٌ ناظرةٌ يشهدُ لكلِّ مَن وافاه إلى ذلك وحَفِظ الميثاق.
O «فجعلَها بيتَه الحرام»، ووصفَه به لأنّه حرامٌ على المشركين دخولُه، وحرامٌ إخراجُ من تَحصّنَ به منه.
قال في (مجمع البيان): «في الحديث: مكتوبٌ في أسفل المقام: إنّي أنا الله ذو بكَّة، حرّمتُها يومَ خلقْتُ السّماوات والأرض، ويومَ وضعْتُ هذين الجبلَين، وحَفَفْتُها بسبعة أملاكٍ حفّاً، مَن جاءني زائراً لهذا البيت عارفاً بحقِّه مذعناً بالرُّبوبيّة حرّمتُ جسدَه على النّار».
O «الَّذي جعله للنّاس قياماً». أي مقيماً لأحوالهم في الدّنيا والآخرة، وتستقيمُ به أمورُهم الدنيويّة والأخرويّة. يُقال: فلانٌ قيامُ أهلِه: أي تستقيم به شؤونُهم. قال سبحانه: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ..﴾ المائدة:97، أي لمعايشِهم ومكاسِبهم، تستقيمُ به أمورُ دينِهم ودنياهم، يلوذُ به الخائف، ويأمنُ فيه الضَّعيف، ويربحُ عنده التُّجّار باجتماعِهم عندَه من ساير الأطراف، ويُغفَر بقصدِه للمذنِب، ويفوزُ حاجُّه بالمَثوبات.
روى في (مجمع البيان) عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «مَن أتى هذا البيتَ يريدُ شيئاً للدّنيا والآخرة، أصابَه».
وقال ابنُ عبّاس: «معناه: جعلَ اللهُ الكعبة أمناً للنّاس، بها يقومون أي (يأمنون)، ولولاها لفنَوا وهلَكوا، وما قاموا. وكان أهلُ الجاهليّة يأمنون به، فلو لَقِيَ الرّجلُ قاتلَ أبيه أو ابنه في الحرَم ما قتلَه».
وقيل: معنى قوله: ﴿..قياماً للنّاس..﴾ المائدة:97، أنّهم لو تركوا حجَّه عاماً واحداً، لهلكوا. رواه «عليّ بن إبراهيم» عنهم عليهم السلام، قال: «ما دامت الكعبةُ يحجُّ النّاسُ إليها لم يهلكوا، فإذا هُدِمَت وتركوا الحجَّ هلكوا».
O «ثمّ وضعَه» أي البيت، «بأوعرِ بقاعِ الأرض حجَراً»، أي أصعب قطعِها وأغلظِها من حيث الحجر.
O «وأقلِّ نتائق الدّنيا مدَراً»، أي أقلّ بلدانِها ومدنها من حيث التُّراب والمدَر، وبذلك لم يكن [لها] صلاحيةُ الزّرع والحرَث كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ..﴾ إبراهيم:37.
O «وأضيقِ بطون الأودية قطراً»، من حيث النّاحية والجانب.
O «بين جبالٍ خشِنة» غليظة، «ورمالٍ دمِثَة» ليِّنة. «وعيونٍ وَشِلة» قليلة الماء، «وقرىً منقطعة» بعضُها عن بعض، «لا يزكو بها خُفٌّ ولا حافرٌ ولا ظِلْف»، أي لا يزيد ولا ينمو بتلك الأرض ذواتُ الخُفِّ كالإبلِ، والحافر كالخيل والبغال، والظِّلف كالبقر والغنم، وعدم نمائها بها لقلَّة مائها ونباتِها، وخشونة جبالها، وسهولة رمالها، وخلوِّها من المرتَع والمرعى.
عن أبي عبد الله الصادق عليه السّلام قال:
مَن أتى هذا البيتَ يريدُ شيئاً للدّنيا والآخرة أصابَه.
O «ثمّ أمرَ آدمَ عليه السلام ووُلدَه أن يثنوا أعطافَهم نحوه»، أي يعطفوا ويميلوا جوانبَهم معرضين عن كلِّ شيء، متوجِّهين إليه قاصدين العكوفَ لديه. عن أبي جعفر عليه السلام: «إنّ آدمَ عليه السلام أتى هذا البيتَ ألف أتْيَةٍ على قدَميه، منها سبعمائة حجّة وثلاثمائة عمرة».
O «فصار» البيتُ «مثابةً» ومرجعاً «لمنتجَع أسفارهم»، كنايةً عمَّا يرومونه في سفرِهم إليه من المآرب والمقاصد والمنافع والتّجارات كمّا قال عزَّ من قائل: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً..﴾ البقرة:125، وقال: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ..﴾ الحج:28. «وغايةً لملقى رحالِهم»، أي مقصدَ القصد.
O «تهوي إليه ثمارُ الأفئدة» ثمرة الفؤاد -كما قيل- سُوَيْداءُ القلب. أي تميل وتسقطُ بواطنُ القلوب إليه. وهُوِيُّها كنايةٌ عن سرعةِ سيرِها، يعني أنّه سبحانه جعلَ القلوبَ مايلةً إليه، محبَّةً له، إجابةً لدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال: ﴿رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ..﴾ إبراهيم:37.
* قال الشّارح البحراني: «هويُّ الأفئدة ميولُها ومحبّتُها، إلَّا أنّه لمّا كان الَّذي يميلُ إلى الشيء ويحبُّه كأنّه يسقطُ إليه ولا يملكُ نفسَه، استُعير لفظُ الهويِّ للحركة إلى المحبوب والسّعي إليه. والحاصل أنّ القلوبَ تسعى وتتوجّه إليه».