إنَّ المادِّيّات والدُّنيا و«وسائل الرّاحة» لا تجلبُ الرَّاحة الحقيقيّة للإنسان، ولا الاستحواذ على المُلك والملكوت، بل الذي يَجلبُها هو ذِكْرُ الله تعالى: ﴿..ألا بِذِكرِ الله تطمئنُّ القلوب﴾ الرعد:28.
يجب علينا أن نسعى لإزالة القلق الذي يساورُنا، وعلينا أن نعملَ لرَفْع الحُجُب والموانع. إنّ أكبرَ الحُجُب هو حجاب النّفْس، كما قال الشّاعر حافظ الشيرازي:
أنت بنفسِك حجابُ نفْسِك فانْهَضْ يا حافظُ من البَيْن [ترجمة بيت فارسي]
نحن أنفسنا الحُجُب، والله سبحانه ليس له حجاب: «لا تَحتجبُ عن خلقِك إلّا أن تحجبَهم الآمال (الأعمال) دونك» [من دعاء أبي حمزة الثمالي]. هذه الموجودات هي الحُجُب، ولو خُرِق الحجابُ فلن تفنى البشريّة، بل تظلُّ باقيةً. أمّا الحُجُب النّورانيّة، فهي ذلك التَّوجُّه إلى نور الأذكار والعبادات.
أثَرُ التدبُّر في القرآن الكريم
لقد وَصَف اللهُ سبحانه في القرآن الجنَّةَ وأهلَها وصفاً أخَّاذاً، بحيث لو أنَّ أحداً مات شوقاً من سَماع ذلك لَما كان عجيباً. كذلك وَصَفت الآياتُ القرآنيّةُ الجحيمَ بنحوٍ بليغٍ أيضاً، يقول الله تعالى: ﴿ولهُم مقامع من حديد﴾ الحج:21. لو أنَّ إنساناً فطِنَ إلى معاصيه، فمات على أَثَر ذلك، لَمَا كان عجَباً.
طبعاً، لا حديث لنا مع المُنكِرين، ولكنْ من المقرَّبين مَن مات شوقاً إلى الجنَّة، وإلى الفوز بنعيمِها. إنّ التدبُّرَ في آيات الرّحمة والنّعمة، أو آيات العذاب والنّقمة، له أثرٌ تكوينيٌّ في نفْس الإنسان الموحِّد، بحيث تخرج نفْسُه من سماع المشوِّقات أو المخوِّفات، ومع ذلك كلِّه فإنّنا لا نجد لهذه الآيات القرآنيّة أثَراً في أنفسنا!
إذا كان ثمَّة كتابٌ يعكس لنا صُوَر حقائق الأشياء، فهو هذا القرآن الكريمُ الّذي يصف لنا الجنَّة والنّار، ومع ذلك كلِّه فنحن لا أُباليّين إلى هذه الدّرجة، وقد تعلَّقت قلوبُنا بالدُّنيا. وليت العَوَض وما به التّفاوت [أي ما نناله من الدُّنيا] له قيمةٌ تعادلُ قيمةَ ما نخسرُه جرّاء الانفصال عن الحقّ والالتحاق بالباطل. ما هي قيمة الدُّنيا ومقاماتِها؟ يعلم اللهُ تعالى ما هي حالةُ أصحابِ المقامات المعنويّة في أوقات الخلوة والمناجاة، وكيف يجذبُهم الاستغراق عند مشاهدة الأنوار الإلهيّة، ولو لمدّةٍ قصيرة.
طريقُ معرفةِ الله تعالى
معرفةُ الله تعالى أعظمُ العبادات، وجميع التّكاليف إنّما هي مقدِّمة لمعرفتِه سبحانه وتعالى، ولكنَّ معرفة الله واجبٌ ومطلوبٌ ذاتيّ، وإذا وُجد الشّخص الذي يتمتَّع بالأهليّة، أي الطَّالب لمعرفة الله بجدٍّ وخلوص، فحتّى الباب والحائط سيكونان معلِّمَين له بإذن الله. في المقابل، إذا لم يتحقَّق صدقُ الطَّلب، فَحتّى كلامُ رسول الله صلّى الله عليه وآله لن يكون مؤثِّراً فيه، كما لم يكُن مؤثِّراً في أبي جهل.
معرفةُ النّفس هي طريق معرفةِ الله. نحن نعرف بأنّنا لم نَخلُق أنفسنا، ولا يُمكننا ذلك، والآخرون -إنْ كانوا مثلنا- فهم لم يخلقوا أنفسهم، كما لم يخلقونا نحن أيضاً، ولا يُمكنهم ذلك. إذاً، فالّذي خَلَقَنا قادرٌ مطلَق، وهو الله تعالى، وطريق قُربِه سبحانه وتعالى هو «شُكرُ المُنعِم» من خلال طاعتِه. والمشقَّةُ في ذلك إنَّما تقعُ ابتداءً، ولن يمضي كثيرُ وقتٍ حتّى يصبحَ الأمرُ لطالبي قُرْبه أحلى من كلِّ حلاوة.
***
إنّنا نعرف الدّاء، ولكنَّنا لا نفكِّر في علاج أنفسنا. ونعرف الدّواء أيضاً كما صرَّح بذلك القرآن الكريم: ﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾ الشمس:8، ولكنَّنا لا نُفكِّر في علاجها.
* نقلاً -بتصرّف بسيط- عن كتاب (في مدرسة آية الله العارف الشيخ بهجت)، من إعداد «لجنة ترجمة ونشر آثار الشيخ بهجت»
|