تحقيق

تحقيق

منذ يومين

الحَبشة (إثيوبيا)

الحَبشة (إثيوبيا)

حوار الأديان، والكلمة السّواء

ــــــــــــــــــــــــ د. أليس كوراني ــــــــــــــــــــــــ

ما إن نفتح صفحات التّاريخ الإسلاميّ حتى نتوقّف عند حدث بارز في شبه الجزيرة العربيّة، تمثّل بهجرة ثلّة من الصّحابة من مكّة المكرّمة إلى الحبشة تحت حماية ملكها النّجاشيّ، الذي حمى المسلمين ورفض إعادتهم إلى بلادهم. كان الحدث خطوة تاريخيّة سبقت أنظمة الدّول المُتقدّمة في احتضان اللّاجئين هرباً من أنواع العنف والاضطهاد في بلادهم بسبب معتقداتهم الدّينيّة أو السّياسيّة أو غير ذلك...

في هذا التّحقيق نجول في إثيوبيا ماضياً وحاضراً، لنستطلع أوضاعها وتقلّباتها الحادّة وتأثير ذلك في أبنائها المسلمين.

 

تقع جمهوريّة إثيوبيا الفدراليّة الدّيمقراطيّة في الشّمال الشّرقيّ من قارة أفريقيا أو ما يعرف الآن بالقرن الأفريقيّ. تحّدها إريتريا من الشّمال، والصّومال من الشّرق والجنوب الشّرقي، وجيبوتي من الشّرق، وكينيا من الجنوب، والسّودان من الغرب. تبلغ مساحتها 1,127,127 كم²، وتغطّي الهضبة الإثيوبيّة معظم الأجزاء الغربيّة والوسطى من إثيوبيا وتحيط بها الأراضي المنخفضة؛ وإثيوبيا دولة غير ساحليّة، إذ لم يعد لها منفذ على البحر الأحمر بعد استقلال إريتريا.

المناخ

تزيد الأمطار السّنويّة التي تهطل على الهضبة الإثيوبيّة على 102سم، ويصل متوسّط درجات الحرارة إلى 22°م في المناطق التي تقلّ فيها ارتفاعات الهضبة عن 2,400م، أمّا المناطق التي تزيد فيها الارتفاعات على هذا الحدّ، فإنّ متوسّط الحرارة 6°م.

ويبلغ متوسّط درجات الحرارة نحو 27°م في معظم هذه الأراضي التي تنال قدرًا من الأمطار أقلّ من 51 سم في العام. وتقع الأراضي الصّحراويّة المنخفضة الشّديدة الحرارة إلى الجهة الشّماليّة الشّرقيّة من إثيوبيا، حيث ترتفع درجات الحرارة هناك أحيانًا إلى أكثر من 49°م. وهذه المناطق قليلة السّكّان بسبب المناخ الجافّ وارتفاع درجات الحرارة بالإضافة إلى فقر التّربة الزّراعيّة. وفي إثيوبيا عدّة أنهار، منها: (أواش)، و(بارو)، و(النّيل الأزرق)، ويوجد فيها عدد من البحيرات، أكبرها بحيرة (تانا).

أهمّ المدن

* أديس أبابا: عاصمة البلاد، وتكتب أحياناً: أديس أبيبا، ومعناها بالأَمْهَريّة «الزّهرة الجديدة»؛ أسّسها الأمبراطور منليك الثّاني عام 1887م، وتقغ على ارتفاع حوالى 3000 متر. وهي أكبر مدينة في إثيوبيا، وغالباً ما يُطلق عليها عاصمة أفريقيا أو «العاصمة الأفريقيّة» نظراً إلى أهمّيتها التّاريخيّة والدّبلوماسيّة والسّياسيّة للقارّة، فهي مركز «منظّمة الوحدة الأفريقيّة».

* أكسوم: مدينة قبطيّة، كانت عاصمة مملكة أكسوم القديمة في القرون المسيحيّة الأولى حتّى القرن الثّالثّ عشر الميلاديّ. تأسّست قبل ميلاد السّيّد المسيح بثلاثة قرون، وكانت مزدهرة اقتصاديّاً من خلال تجارتها مع الجزيرة العربيّة، ومصر، واليونان، والهند، وفارس، وروما؛ وبلغت مملكة أكسوم أوج قوّتها في القرن الرّابع الميلاديّ، وذلك تحت حكم الملك «عيزانا» الذي جعل النّصرانيّة الدّيانة الرّسميّة. وخلال القرن السّابع الميلاديّ انهارت قوّة أكسوم بعد أن سيطر المسلمون على الجزيرة العربيّة والبحر الأحمر وساحل إفريقيا الشّماليّ، وتمّ لهم الهيمنة على طُرق التّجارة الدّوليّة.

* أوغادين: منطقة واقعة في الجنوب الشّرقي لإثيوبيا، كانت منبع المشكلات في السّتينيّات من القرن العشرين، حينما طالبت الصّومال بحقّها في هذه المنطقة التي ضُمّت إلى إثيوبيا في عهد مينليك الثّاني عام 1890م، وفي السّبعينيّات من القرن العشرين، نشبت الحرب بين البلدين حول هذه المنطقة. وبعد ثلاثين عاماً من النّزاع والكفاح المسلّح، قَبِلَ أهلُ أوغادين بالحكم الذّاتيّ في إطار الدّولة الإثيوبيّة الاتّحاديّة.

* بحر دار: تقع على بعد 565 كلم شمال أديس أبابا، تشتهر هذه المدينة بشلّالاتها الجميلة، وفيها النّيل الأزرق وبحيرة تانا.

* عدوة: شهدت هذه المدينة موقعة حاسمة انتصر فيها منليك الثّاني على الإيطاليّين عام 1896م.

* غوندار: مدينة في شمال غربيّ إثيوبيا. كانت عاصمة البلاد قديماً. تبعد عن العاصمة أديس أبابا حوالى 500 كم. ازدهرت في العهد الإسلاميّ وعلى مدى العصور الوسطى. فيها قلعة إسلاميّة قديمة ومساجد أثريّة عريقة. وتُعدّ المدينة من المدن التّجاريّة المهمّة في إثيوبيا، وخاصّة في منتجات الحبوب والبنّ والصّناعات الغذائيّة والمنسوجات.

* لاليبلا: إحدى المدن المقدّسة عند الإثيوبيّين؛ تقع وسط البلاد، مشهورة بآثارها القبطيّة والعربيّة.

ومن المدن الأخرى: بيدوا، وديره داوه (مدينة حديثة، أنشئت عام 1902م)، ومكاليه (قاعدة مقاطعة تغره في شمال البلاد).

السّكان

بلغ عدد سكّان إثيوبيا نحو 94 مليون نسمة (إحصاء المصرف الدّوليّ 2013م)، ويُقسَّم الشّعب الإثيوبيّ عادةً إلى مجموعتين كبيرتين طبقًا للّغة التّحدّث؛ المجموعة الأولى هم النّاطقون باللّغات السّاميّة، والمجموعة الثّانية هم النّاطقون باللّغات الكوشيّة. تعيش المجموعة الأولى في شماليّ البلاد ووسطها، والمجموعة الثّانية في المنطقة الجنوبيّة والمنطقة الشّرقيّة من إثيوبيا.

يتحدّر الإثيوبيّون من ثلاث مجموعات: الأولى، يمتاز أفرادها ببشرة بنيّة ويشبهون الأوروبيّين. والثّانية هم الأفارقة السّود، والثّالثة هم في الأصل من سكّان شبه الجزيرة العربيّة.

 ينتمي نحو 40 % من سكّان إثيوبيا إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة الإثيوبيّة. ويشكّل المسلمون نحو 40% من السّكّان مع 5% من المسيحيّين الآخرين، والباقي من الدّيانات الأخرى. وهناك أيضاً مجموعة قديمة صغيرة مِن اليهود (الفلاشا)، يَعِيشُون في شمال غرب إثيوبيا، وأكثرهم غادر إلى الكيان الصهيوني في العقود الأخيرة من القرن العشرين.

يعيش أكثر المسلمين في جنوب إثيوبيا، وهم من قبائل الدّناقل والصّوماليّين والجالا. ورغم تعصّب العديد من ملوك الحبشة ضدّ الإسلام والمسلمين، فإنّ انتشار الإسلام لم يتوقّف، بل تغلغل بين زعمائها. وحين تولى «ليج إياسو» حفيد «مينليك» الحكم، أنكر النّصرانيّة وقرّر عام 1916م إلحاق بلاده دينيّاَ بالخلافة العثمانيّة. وتدخلّت الدّول الأوروبيّة وأرغمته على التّخلّي عن العرش. وقد عمل من أتوا بعده على الحدّ من انتشار الإسلام.

والمسلمون فئتان: الأولى، وهي أقليّة من أصحاب الأموال والجاه والنّفوذ، والثّانية هي الأكثريّة الفقيرة من الرّعاة والمزارعين. ولهم مجلس يتولّى إدارة شؤونهم الدّينيّة حيث يشرف على مئة وستين مدرسة وسبعة عشر مسجداً، ويستخدمون اللّغة العربيّة إلى جانب اللّغة الأمهريّة الرّسميّة.

 

اللّغة

تُعد اللّغة الأمهريّة - وهي لغة ساميّة - لغة التّخاطب الرّسميّة في إثيوبيا التي يبلغ فيها عدد اللّغات ما يقرب من 70 لغةً، بالإضافة إلى مئتي لهجة أخرى. ويستطيع الشّعب الإثيوبيّ التّحدّث بالعربيّة أو الإنجليزيّة إلى جانب اللّغة الرّسميّة. أمّا اللّغة الجعزيّة، فهي واحدة من اللّغات الإثيوبيّة القديمة، وقد كُتب الإنجيل قديماً بهذه اللّغة، وما زالت حيّة وتُستخدم في طقوس الكنيسة الأرثوذكسيّة الإثيوبيّة.

الاقتصاد

تُعدّ إثيوبيا دولةً نامية، والزّراعة فيها هي النّشاط الاقتصاديّ الرّئيسيّ للبلاد. وتعمّ إثيوبيا، من حين إلى آخر، موجات من القحط الشّديد ينتج عنها تعرُّض البلاد للمجاعة. العملة: بير (ETB).

يعمل بالزّراعة نحو 85% من القوى العاملة، و10% في الأعمال الخدميّة والحكوميّة، و5% في مجال الصّناعة. ويُعَدُّ التّعدين والصّيد من الأنشطة الاقتصاديّة الأقل انتشارًا. ومن ناحية أخرى، فإنَّ الدّولة تهيمن على اقتصاديّات البلاد.

الزراعة: تمتلك الحكومة الإثيوبيّة كلَّ الأراضي الزّراعيّة في البلاد. وحدود الملكيّة الزراعيّة لكلّ عائلة ليس أكثر من عشرة هكتارات من الأرض. وتدير الحكومة أيضاً مساحاتٍ واسعة من المزارع.

بالإضافة إلى المزارعين، يسكن الرّيف جماعةٌ من البدو الذين يعملون أساسًا بالرّعي. والفقر واسع الانتشار في المناطق الرّيفيّة بإثيوبيا، ففي كلّ عام ينزح عددٌ كبير من الرّيفيّين إلى المناطق الحضريّة في محاولةٍ للبحث عن عمل. ويتفشّى الفقر أيضًا في المناطق الحضريّة. إلّا أنَّ سكّان الحضر، بصورة عامّة، أفضل اقتصاديّاً من سكّان الرّيف وذلك لوجود المدارس والرّعاية الصّحيّة، وكذلك بسبب توفّر ضروريات الحياة العصريّة مثل الكهرباء.

التّصنيع: يُعدّ إنتاج المنسوجات النّشاط التّصنيعيّ الرّئيسيّ في إثيوبيا، ومن المنتجات الصّناعيّة الأخرى الإسمنت والأغذية والأحذية.

التّجارة الخارجيّة: الصّادرات الرئيسيّة لإثيوبيا هي البنّ، والجلود، والحبوب الزّيتيّة. أما بالنّسبة إلى الواردات، فهي تشمل المواد الكيميائيّة والنّفط الخامّ، والآلات.

النّقل: معظم الطّرق في إثيوبيا غير معبّدة. ويوجد خطّ واحد للسّكك الحديديّة يربط أديس أبابا بميناء جيبوتي. ويقع المطار الدّوليّ في أديس أبابا. وتمرّ معظم التّجارة الخارجيّة لإثيوبيا من خلال ميناء جيبوتي.

نظرة تاريخيّة

أصل التّسميّة: عرفت إثيوبيا في الكتب والمخطوطات القديمة باسم الحبشة (باللّغات اللّاتينيّة Abyssinia) نسبةً إلى قبيلة «حبشت» التي هاجرت من اليمن إلى مرتفعات القرن الإفريقيّ بعد انهيار سدّ مأرب، بحسب بعض الرّوايات، وقيل إنّه مشتقّ من كلمة «حباشات» العربيّة الأصل التي تعني الخليط من النّاس؛ وهذا بدوره إشارة إلى العناصر المُتعدّدة التي تُشكّل سكّان إثيوبيا؛ وقيل كلمة «الحبشة» مشتّقة من لفظ «حبشت» الذي ورد في التّوراة، ويعني الأجناس المختلطة والمختلفة، إشارة إلى التّصاهر ما بين السّاميّين الوافدين من جنوب شبه الجزيرة العربيّة والحاميّين الكوشيّين من سكّان البلاد الأصليّين.

ولفظة «إثيوبيا» باليونانيّة معناها ذَوو الوجوه المحروقة، وقد استخدمها المؤرّخ اليونانيّ «هيرودوت» لوصف الأراضي الواقعة في جنوب مصر، بما في ذلك السّودان وإثيوبيا الحاليّة وبلدان السّاحل الأفريقيّ. كما تعني الكلمة صانع الأدوات الحديديّة أو الحدّاد.

أمّا الاسم إثيوبيا، فقد استخدمه رسميّاً الإمبراطور الإثيوبيّ منليك الثّاني، بعد انتصاره على إثيوبيا النّوبيّة، مبتعداً من اسم «الحبشة» الذي له علاقة بواقع المنطقة التّاريخيّ، حيث حكمها ملوك اليمن في سبأ.

عرفت إثيوبيا في الأدبيّات العربيّة باسم بلاد الحبشة، وهي موطن مملكة أكسوم القديمة؛ أمّا ملك الحبش، فقد عرف بـ «النّجاشيّ» عند العرب. واللّفظة لقب تطلقه العربيّة على كلّ من مَلَكَ الحبشة، فهي بمنزلة لفظة قيصر (ملك الروم)، وكِسرى (حاكم الفُرس)، وتبّع (حاكم اليمن)، أمّا في اللّغة العربيّة الجنوبيّة البائدة، فقد أطلقت لفظة «ملِك» على من ملَك الحبشة.

والنّجاشيّ في الحبشيّة يعني جامع الضّريبة والذي يستخرج الضّريبة، فهي وظيفة من الوظائف في الأصل، ثمّ صارت لقبًا.

المسلمون في الحبشة

في المرويات العربيّة أنّ النّجاشيّ الذي سمح بوصول المسلمين إلى الحبشة هرباً من قريش هو أَصْحَمَةُ بْنُ أَبْجَرَ. (ت: 9 للهجرة/ 630م)

 وقصّة هجرة المسلمين إلى الحبشة وما جرى هناك مشهورة وموثّقة في كتب السّيرة والأخبار؛ نذكر شيئاً قليلاً ممّا قاله ابن هشام: «.. فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلّمَ مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبَلَاءِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعَافِيّة بِمَكَانِهِ مِنْ اللهِ وَمِنْ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ، قَالَ لَهُمْ: لَوْ خَرَجْتُمْ إلى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ. وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمّا أَنْتُمْ فِيهِ. فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلّمَ إلى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا إلى اللهِ بِدِينِهِمْ. فَكَانَتْ أَوّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ. ".."

عَنْ أُمّ سَلَمَةَ ".." قَالَتْ: لَمّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النّجَاشِيّ، أَمِنّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللهَ تَعَالَى، لَا نُؤْذَى، وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ. فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَى النّجَاشِيّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنّجَاشِيّ هَدَايَا مِمّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكّةَ ".." ثُمّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَأَمّرُوهُمَا بِأَمْرِهِمْ وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعَا إلَى كُلِّ بِطرِيقٍ هَدِيّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلّمَا النّجَاشِيّ فِيهِمْ، ثُمّ قَدِّمَا إلَى النّجَاشِيّ هَدَايَاهُ ثُمّ سَلَاهُ أَنْ يُسَلّمَهُمْ إلَيْكُمَا قَبْلَ أَنْ يُكَلّمَهُمْ ".." ثُمّ إنّهُمَا قَدّمَا هَدَايَاهُمَا إلَى النّجَاشِيّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمّ كَلّمَاهُ فَقَالَا لَهُ: أَيّهَا الْمَلِكُ، إنّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِك مِنّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِك، وَجَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ ".." قَالَتْ: فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ صَدَقَا أَيّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا، فَلْيَرُدّهُمْ إلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ.

قَالَتْ: فَغَضِبَ النّجَاشِيّ، ثُمّ قَالَ: لَاهَا اللهِ إذْن لَا أُسْلِمَهُمْ إلَيْهِمَا، وَلَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتّى أَدْعُوهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ عَمّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ ".." فَقَالَ لَهُمْ مَا هَذَا الدّينُ الّذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي، وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ؟

قَالَتْ: فَكَانَ الّذِي كَلّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَيّهَا الْمَلِكُ، كُنّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنّا الضّعِيفَ، فَكُنّا عَلَى ذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللهُ إلَيْنَا رَسُولًا مِنّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إلَى اللهِ لِنُوَحّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفّ عَنْ المحارم والدّماء، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ - لَا نُشْرِك بِهِ شَيْئًا - وَأَمَرَنَا بِالصّلَاةِ وَالزّكَاةِ وَالصّيَامِ.

قَالَتْ: فَعَدّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ - فَصَدّقْنَاهُ وَآمَنّا بِهِ وَاتّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِن اللهِ، فَعَبَدْنَا اللهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرّمْنَا مَا حَرّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذّبُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا، لِيَرُدّونَا إلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ، فَلَمّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَضَيّقُوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إلَى بِلَادِك وَاخْتَرْنَاك عَلَى مَنْ سِوَاك، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِك، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمْ عِنْدَك أَيّهَا الْمَلِكُ.

قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النّجَاشِيّ: هَلْ مَعَك مِمّا جَاءَ بِهِ عَنْ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟

قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ. فَقَالَ النّجَاشِيّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيّ. قَالَتْ: فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ ﴿كهيعص﴾، قَالَتْ: فَبَكَى وَاللهِ النّجَاشِيّ، حَتّى اخْضَلّتْ لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمّ قَالَ النّجَاشِيّ: إنّ هَذَا، وَاَلّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. انْطَلِقَا، فَلَا وَاَللّهِ لَا أُسْلِمَهُمْ إلَيْكُمَا...».

وكان الحقّ واضحًا عند النّجاشيّ، فعندما علم خُبثَ مبعوثَي قريش، ردّ عليهما هداياهما، وردّ طلبَهما فانقلبا خائبَين.

ثمّ تعرّض المسلمون إلى أذى قريش مرّة ثانية، وضاقت بهم مكّة كما ضاقوا بالمقام فيها. فشدّ المسلمون الرّحال مرّةً ثانية واتّجهوا صوبَ الحبشة...

فإثيوبيا هي الأرض الأولى التي وطأتها أقدام المسلمين، وأولئك المهاجرون الأوائل هم أوّل من استقرّ من المسلمين في تلك البلاد، وتوطّن ونشر الإسلام في تلك الربوع، وقيل إنّ «أصحمة النّجاشيّ» وعدداً من أصحابه دخلوا الاسلام وكتموا أمرهم خوفاً من تعصّب البلاط النّصرانيّ. ولاقتراب المنطقة من الأراضي الإسلاميّة المقدّسة، كان تأثير الإسلام فيها واضحاً؛ وقد ساعد قُرب الحبشة الجغرافيّ من الحجاز على انتشار الإسلام في المنطقة، خاصّة سواحل البحر الأحمر، حيث حركة التّبادل التّجاريّ مع سكّان الجزيرة العربيّة.

وفي أوائل القرن الثّاني للهجرة دخل الإسلام القارة الافريقيّة عن طريق الدّعاة والتّجّار القادمين من الجزيرة العربيّة عبر البحر الأحمر، وازداد انتشار عدد المسلمين في القرن الخامس الهجريّ، حيث أسّس المسلمون دولتهم في هذه المنطقة واتّخذوا من مدينة «هَرَر» عاصمةً لهم.

وقد توغّل المسلمون بعد ذلك في الأراضي الإثيوبيّة، وكان معظمهم من الدّعاة التّجّار. أمّا في العصر العبّاسيّ، فقد هاجرت مجموعات مضطهدة من أنصار أهل البيت عليهم السّلام إلى تلك الأرض، واستطاعت نقل القبائل الإثيوبيّة الوثنيّة إلى الإسلام، وساعدت على إنهاء الصّراعات القبليّة، لكنّ وعورة الأراضي الجبليّة الإثيوبيّة وصعوبة اجتيازها شكّلت عاملاً من عوامل عدم انتشار الإسلام بسهولة فيها. كما هو شأن الأراضي المنخفضة.

وكان لسيطرة المسلمين على الطّرق التّجاريّة المهمّة أثرٌ كبير في انتشار الإسلام، خاصّة بعد فتحهم منطقة «زيلع» وإشرافهم منها على طريق «هَرَر» التّجاريّ المهمّ. ثمّ أنشأوا على هذا الطّريق المؤدّي إلى قلب الحبشة إمارات وممالك صغيرة، مثل: (زفات)، و(أدل)، و(موده).

وظهرت جاليات عربيّة مسلمة في مدن السّاحل، مثل: (باضع)، و(زيلع)، و(بربرة)، وما أن حلّ القرن الثّالث الهجريّ حتّى ظهرت إمارات إسلاميّة في النّطاق الشّرقيّ، والجنوبيّ الشّرقيّ من الحبشة، ودعم هذا الوجود الإسلاميّ، هجرةُ بعض الجماعات العربيّة. وزاد اعتناق أبناء البلاد للإسلام، فظهرت سبع إمارات إسلاميّة في شرقي الحبشة وجنوبها، فكانت إمارة (شوا) الإسلاميّة سابقة عليها جميعًا، واستمرّت هذه الإمارة حتّى نهاية القرن السّابع، وإليها يعود الفضل في وصول الإسلام إلى قلب هضبة الحبشة، لذلك كانت هذه الإمارة في عزلة عن العالم الخارجي. ولمّا ضعُفت في أواخر أيّامها برزت إمارات أخرى، هي: (أوفات)، و(دوارو)، و(أربديني)، و(هدية)، و(شرخا)، و(بالي) و(دارة).

 

اخبار مرتبطة

  فرائد

فرائد

  دوريات

دوريات

منذ يومين

دوريات

نفحات