الملف

الملف

منذ 4 أيام

قراءة في كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى والي البصرة

أبرز الوثائق الأخلاقيّة في نظام الحكم

قراءة في كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى والي البصرة

اقرأ في الملف

استهلال

نهج البلاغة

هذا الملف

«شعائر»

نَصّ كتاب أمير المؤمنين عليه السلام

نهج البلاغة

شرح مفردات الكتاب

العلامة المجلسي

من هو عثمان بن حُنيف

أسرة التّحرير

مقاصد كتاب أمير المؤمنين إلى عثمان بن حُنيف

ابن ميثم البحراني

إقامة الحدّ على الدنيا بجرم التدليس

السيد حبيب الله الهاشمي الخوئي

.. كالضّوء من الضّوء

ابن أبي الحديد المعتزلي

رياضةُ النفس بالتقوى

العلامة الشيخ محمد جواد مغنية

 

استهلال

«..طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا، وعَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا، وهَجَرَتْ فِي اللَّيْلِ غُمْضَهَا، حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى عَلَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا، وتَوَسَّدَتْ كَفَّهَا فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ، وتَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ، وهَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ، وتَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ

﴿أُولئِكَ حِزْبُ الله أَلا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾».

نهج البلاغة: من كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى واليه على البصرة

 

هذا الملف

معروفٌ أنّ الشريفَ الرضيّ قد رتّب (نهج البلاغة) على أقسامٍ ثلاثة: (خُطَب، ورسائل، وقصار الكلمات). ومن رسائل (نهج البلاغة) التي تعَدّ منهجاً في السياسة التربوية - خصوصاً لمن يتولّون مواقع المسؤولية الخطيرة على الرعيّة باسم الإسلام المحمديّ الأصيل – رسالةُ أمير المؤمنين عليه السلام أو كتابه لعثمان بن حُنيف الأنصاريّ؛ واليه على البصرة، وهو الكتاب الخامس والأربعون.

في هذا الملف سنُضيء على هذه الوثيقة العلويّة نَصّاً ومضموناً، لغةً وتحليلاً، عبر أقطاب شرّاح (نهج البلاغة)؛ حيث يعالج كلٌّ منهم من موقعه العلمي واتّجاهه السلوكي، إحدى أبرز الوثائق الأخلاقية في شؤون الحكم والإدارة، خصوصاً لناحية ما يجب على الوالي في منظومة الحكم الإسلامي، وفي مدرسة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..﴾ الأحزاب:21.

«شعائر»

نَصُّ الكتاب

قال الشريف الرّضيّ في (نهج البلاغة): «ومن كتابٍ له عليه السّلام إلى عُثمان بن حنيف الأنصاريّ، وكان عاملَه على البصرة، وقد بلغَه أنه دُعِيَ إلى وليمة قومٍ من أهلها، فمَضى إليها، قوله:

«أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ‏ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ [وَجْهِهِ‏] وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ.

أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ. أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ. فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً، وَلَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً، وَلَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ، وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وَأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ. بَلَى! كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ! وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَغَيْرِ فَدَكٍ وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ، تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وَحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وَأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا لَأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ وَسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ، وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ، وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ. وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ، وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً (عاراً) أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ

 

وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

     

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ؟ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا؛ تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ. وَكَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ إِذَا كَانَ هَذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَالرَّوَاتِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً وَالنَّابِتَاتِ الْعِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَأَبْطَأُ خُمُوداً. وَأَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ وَالذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ، وَاللهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا، وَلَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا، وَسَأَجْهَدُ فِي أَنْ أُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْكُوسِ وَالْجِسْمِ الْمَرْكُوسِ، حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ مِنْ بَيْنِ حَبِّ الْحَصِيدِ.

وَمِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ آخِرُهُ:

إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ وَأَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ، وَاجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ. أَيْنَ الْقُرُونُ الَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِكِ؟ أَيْنَ الْأُمَمُ الَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِكِ؟ فَهَا هُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ وَمَضَامِينُ اللُّحُودِ. وَاللَّهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً وَقَالَباً حِسِّيّاً لَأَقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اللهِ فِي عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ وَأُمَمٍ أَلْقَيْتِهِمْ فِي الْمَهَاوِي وَمُلُوكٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَى التَّلَفِ وَأَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ الْبَلَاءِ، إِذْ لَا وِرْدَ وَلَا صَدَرَ.

هَيْهَاتَ! مَنْ وَطِئَ دَحْضَكِ زَلِقَ وَمَنْ رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ وَمَنِ ازْوَرَّ عَنْ حَبَائِلِكِ وُفِّقَ. وَالسَّالِمُ مِنْكِ لَا يُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ، وَالدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْمٍ حَانَ انْسِلَاخُهُ. اعْزُبِي عَنِّي، فَوَاللَّهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي وَلَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي. وَأَيْمُ اللَّهِ يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً، وَلَأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا؛ مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا.

أَتَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُك، وَتَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِض، وَيَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَع؟! قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ وَالسَّائِمَةِ الْمَرْعِيَّةِ.

طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا، وَعَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا، وَهَجَرَتْ فِي اللَّيْلِ غُمْضَهَا، حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى عَلَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا وَتَوَسَّدَتْ كَفَّهَا فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ، وَتَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ، وَهَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ، وَتَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ، ﴿..أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ المجادلة:22، فَاتَّقِ اللهَ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ وَلْتَكْفُفْ أَقْرَاصُكَ لِيَكُونَ مِنَ النَّارِ خَلَاصُك».

 

شرح مفردات الكتاب


العائل: الفقير.

الجفاء: نقيضُ الصِّلة. القَضْم: الأكل بأطراف الأسنان، وظاهر كلامه عليه السّلام أنّ النّهي عن إجابة مثل هذه الدّعوة من وجهَين: أحدهما أنّه من طعامِ قومٍ عائلُهم مَجفوّ وغنيّهم مدعوّ، فهم من أهل الرّئاء والسّمعة، فالأحرى عدم إجابتهم. وثانيهما أنّه مظنّة المحرمّات، فيمكن أن يكون النّهي عامّاً على الكراهة أو خاصّاً بالولاء، فيحتمل أن يكون النّهي للتّحريم، ويمكن أن يستفاد من قوله: «تُستَطابُ لك الألوان» وجه آخر من النّهي، وهو المنع من إجابة دعوة المسرفين والمبذّرين، ويحتمل أيضاً الكراهة والتّحريم والعموم والخصوص.

الطِّمر بالكسر: الثّوب الخَلِق، والطّمران: الإزار والرّداء.

المبطان: الذي لا يزال عظيم البطن من كثرة الأكل.

الغرث: الجوع.

الحرّى: العطش.

البطنة: أن يمتلئ من الطّعام امتلاءً شديداً.

القِدّ بالكسر: سَيْرٌ يُقَدّ من جلد غير مدبوغ.

طعام جشيب: أي غليظ.

قوله: «كالبهيمة» هذا تشبيهٌ للأغنياء لاهتمامهم بالتّلذّذ بما يحضر عندهم.

قوله: «أو المرسَلة» تشبيهٌ للفقراء الذين يحصلون من كلّ وجه ما يتلذّذون به، وليس همّتهم إلّا ذلك.

التّقمّم: أكلُ الشّاة ما بين يدَيها بمقمّتها أي بشفتيها.

قوله عليه السّلام: «تكترش» أي تملأ بها كرشها، وهو لكلّ مجترّ بمنزلة المعدة للإنسان.

قوله عليه السّلام: «عمّا يُراد بها» أي من الذّبح والاستخدام.

المتاهة: محل التّيه وهو الضّلال.

قوله عليه السّلام: «والرّواتع» أي الأشجار الرّاتعة، من قولهم: رتع رتوعاً: أكل وشرب ما شاء في خصب.

العذِيّ بالكسر: الزّرع لا يسقيه إلّا ماء المطر. الصِّنو بالكسر: المِثل، وأصله أن تطلع النّخلتان من عرق واحد.

قوله عليه السّلام: «والذّراع من العضُد» وجه التّشبيه أنّ العَضد أصلٌ للذّراع، والذّراع وسيلة إلى التّصرّف بالعَضُد.

الرّكس: ردّ الشّيء مقلوباً. وقال ابن ميثم: «سُمّي معاوية معكوساً لانعكاس عضدَيه، ومركوساً لكونه تاركاً للفطرة الأصليّة».

الغارب: ما بين السّنام والعنق، وأصله أنّ النّاقة إذا رعتْ وعليها الخطام أُلقي على غاربها، لأنّها إذا رأت الخطام لا يهنّئها شيء.

المداحض: المزالق. الحبائل: المصائد. المداعب: من الدّعابة وهي المزاح.

الزّخرف: الذّهب وكمال حسن الشّيء.

المهوى والمهواة: ما بين الجبلَين.

الصّدَر بالتّحريك: الرّجوع عن الماء خلاف الورود.

ازوّرَ عنه: عدل وانحرف.

ضِيق المناخ: كناية عن شدائد الدّنيا كالفقر والمرض والحبوس والسّجون.

الرّبيضة: جماعة من البقر والغنم. وربوض الغنم والبقر والفرس والكلب مثل بروك الإبل.

الهجوع: النّوم ليلاً.

الهمل: بالتّحريك الإبل بلا راعٍ.

قوله: «وعَركتْ بجنبِها» يقال: يعرك الأذى بجنبه أي يحتمله. ويقال: ما اكتحلتُ غمضاً أي ما نمت. والكَرى: النّعاس.

قوله عليه السّلام: «وتقشّعت» أي زالت وذهبت كما يتقشّع السحاب.

(بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ: ج 40، ص 343 – 345)

 


 

من هو عثمان بن حُنيف

 


«عثمان بن حُنيف، بضمّ الحاء، ابن واهب بن الحكم بن ثعلبة بن الحارث الأنصاريّ الأوسيّ أخو سهل بن حنيف أحد الأمجاد من الأنصار، أخذ من النّبيّ صلَّى الله عليه وآله العلم والتّربية وبلغ الدّرجة العالية فنال مناصب كبرى، قال في (الشّرح المعتزليّ): «عمل لعمر ثمّ لعليٍّ عليه السلام، وولَّاه عمر مساحة الأرض وجبايتها بالعراق، وضرب الخراج والجزية على أهلها، وولَّاه عليّ عليه السّلام على البصرة، فأخرجه طلحة والزبير منها حين قدماها». ويظهر من ذلك أنّه كان رجلاً بارعاً في علم الاقتصاد والسّياسة معاً، فاستفاد منه عمر من النّاحية الاقتصاديّة وفوّض إليه أمر الخراج والجِزية وهو من أهمّ الأمور في هذا العصر، وخصوصاً في أرض العراق العامرة، وكان من خواصّ عليّ عليه  السّلام ومن السّابقين الَّذين رجعوا إليه وأخلصوا له، قال في (الرّجال الكبير) بعد ترجمته: «هو من السّابقين الَّذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، قاله الفضل بن شاذان». وكلمة السّابقين في وصفه مأخوذة من قوله تعالى في سورة البراءة الآية 100: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾. وكفى له بذلك مدحاً وإخلاصاً له عليه السّلام، فإنّ الآية تخصّص السّابقين الأوّلين من الأنصار والمهاجرين بهذه الفضيلة الَّتي لا فضيلة فوقها، والسّبق والتّقدّم إنّما هو بقبول ولاية أمير المؤمنين، فإنّها ميزان الإيمان والإخلاص لله ورسوله، ودليل البراءة من النّفاق والمطامع الدّنيويّة.

ومؤاخذته عليه السّلام بمجرّد إجابة دعوة من بعض فتيان البصرة، وتشديده في توبيخه بهذه الجمل البالغة في الطّعن والمذمّة دليل آخر على علوّ رتبته وسموّ درجة إيمانه وأنّه لا ينبغي لمَن مثله إجابة مثل تلك الدّعوة، والاشتراك في حفلة ضيافة تُعقد لكسب الشّهرة، أو جلب المنفعة، أو الانهماك في اللَّذّة والغفلة، أو الاستمتاع بالأغذية اللّذيذة. فظاهر الكتاب الموجّه إلى عثمان بن حنيف بالعتاب توبيخ عنيف على ارتكابه خلافاً عظيماً يستحقّ به هذا التّوبيخ الشديد الَّذي هو آلم من الضّرب بالسّوط، أو الحبس إلى حين الموت..».

(منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشمي الخوئي: ج 20، ص 88 – 94)


 
 

مقاصد كتاب أمير المؤمنين إلى عثمان بن حُنيف

§        ابن ميثم البحرانيّ

رسالةُ أمير المؤمنين عليه السلام إلى عامله على البصرة عثمان بن حُنيف الأنصاري، هي إحدى الإشراقات العظيمة الواردة في (نهج البلاغة)، ولا سيّما لجهة ما تختزنه من مواعظ وحِكم التدبير في الأخلاق السياسيّة التي ينبغي على الحاكم أن ينتهجها في شؤون الحكم ورعاية الشأن العامّ.

في ما يلي، ننشر مختصر شرح هذه الرسالة الشريفة لابن ميثم البحراني (ت: 679 للهجرة)، نقلاً عن كتابه المعروف (شرح نهج البلاغة).

 

في شرحه على (نهج البلاغة) أورد الفقيه الشيخ ابن ميثم البحراني نَصّ كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عثمان بن حُنيف، ثمّ قال:

«وفي الكتاب مقاصد:

الأوّل: أشار عليه السلام إلى ما يريد عتابه عليه: وهو إجابته إلى المأدبة مسرعاً تُستطاب له الألوان، وتُنقل إليه الجفان، وأعلمَه أنّه بلَغه ذلك مقرّراً له ليحسنَ توبيخه.

الثّاني: أشار على وجه المعاتبة إلى تخطئته في ذلك بقوله: (وما ظَننتُ أنّك..): أي كان ظنّي فيك من الورع أنّك تنزّه نفسَك عن الإجابة إلى طعام قومٍ لا يلتفتون إلى فقرائهم، ويقصِرون الدّعوة والكرامة على أغنيائهم وأُمرائهم، ووجه الخطأ في إجابة داعي هؤلاء أنّ تخصيصهم الأغنياء دون الفقراء بالكرامة والدعوة، دليل واضح على أنّهم إنّما يريدون بذلك الدّنيا والسّمعة والرّئاء دون وجه الله تعالى، ومن كان كذلك فإجابته موافقة له على ذلك ورضى بفعله، وذلك خطأٌ كبيرٌ خصوصاً من أمراء الدِّين المتمكَّنين من إنكار المنكرات.

الثّالث: أمَره أن يحترز فيما يتّفق له أن يقع فيه من ذلك بالنّظر إلى ما يحضَّر من الطّعام، فما وجد فيه شُبهة حرام ولم يحقّق حِلَّه فليتركه، وما تيقّن حلَّه وطِيبَ وجه اكتسابه ببراءة عن الشّبهة فينال منه، وكنّى عنه بالمَقضم تحقيراً له وتقليلاً، ويفهم منه بحسب التّأديب الأوّل أنّ التنزّه عن هذا المباح أفضل له من تناوله.

الرّابع: نبّهه على أنّ له إماماً يجب أن يقتدي به، ويستضيء بنور علمه.

الخامس: أردف ذلك بالبيّنة على ما يجب أن يقتدي به فيه مِن حاله في دنياه، وهو اكتفاؤه من ملبوسها بما يستر بدنه من طمريه، ومن مطعومها بما يسدّ به فورة جوعه من قرصيه.

السّادس: نبّه أصحابه على أنّ رياضته تلك لا تُستطاع لهم، فإنّها قوّة مشروطة باستعدادٍ لم يصلوا إليه. ثمّ أمَرهم إذ كانت الحال كذلك أن يقصروا في معونته على أنفسهم ورياضتها بالوَرع، وأراد به هنا الكفّ عن المحارم ثمّ بالاجتهاد في الطّاعة.

السّابع: نبّه بالقَسم البارّ على ردّ ما عساه يعرض لبعض الأذهان الفاسدة في حقّه عليه السّلام، ثمّ بالغ في وصف حقارة دنياهم عنده، فأخبر أنّها في نظره واعتباره أهون من عَفْصَةٍ مَقِرَة [ثَمرة مُرَّة].

الثّامن: أنّه لمّا قال فيما أقسم عليه من الدّنيا: (ولا حزتُ من أرضِها شِبراً)، استثنى من ذلك فدك، وذكرها في معرض حكاية حاله وحال القوم معه على سبيل التّشكَّي والتّظلَّم ممّن أخذها منهم إلى الله سبحانه.

التّاسع: استفهم عمّا يصنع بفدك وغيرها من القينات الدّنيويّة استفهام إنكار لوجه حاجته إليها تسليةً [للأنفس عن متاع الدّنيا] وجذباً لها عن الدّنيا إلى الأعمال الصّالحة بذكر غاية النّفوس منها، وهي صيرورتها إلى الجَدَث، ولوازم تلك الغاية من انقطاع الآثار وغيبة الأخبار فيها، وسائر ما عدّده من صفات الجدث، وإنّما عدّد هذه الأمور لأنّ الأوهام تنفر عنها وتخشع القلوب لذكرها، فتفزع إلى الله تعالى، ويجذب إلى الأعمال الصّالحة الَّتي بها الخلاص من أهوال الموت وما بعده.

العاشر: لمّا نبّه على أنّ فدك وغيرها من قينات الدّنيا لا حاجة إليها، أشار إلى حصر حاجته وغايته لنفسه وهي رياضتها بالتّقوى. واعلم أنّ رياضة النّفس تعود إلى نَهيها عن هواها وأمرها بطاعة مولاها، وتمرينها على ما يوافق مراده من الحركات. والقوّة الحيوانيّة الَّتي هي مبدأ الإدراكات والأفاعيل الحيوانيّة في الإنسان، إذا لم تكن لها طاعة القوّة العاقلة مَلَكة، كانت بمنزلة بهيمة لم تروَّض، فهي تتّبع الشّهوة تارة والغضب أخرى، وغالب أحوالها أن تخرج في حركاتها عن العدل إلى أحد طرفَي الإفراط والتّفريط بحسب الدّواعي المختلفة المتخيّلة والمتوهّمة، وتستخدم القوّة العاقلة في تحصيل مراداتها فتكون هي أمّارة، والعاقلة مؤتمِرة لها. أمّا إذا راضتها القوّة العاقلة ومنعتها عن التّخيّلات والتّوهّمات والإحساسات والأفاعيل المثيرة للشّهوة والغضب، ومرّنتها على ما يقتضيه العقل العمليّ، وأدّبتها بحيث تأتمر بأمرها وتنتهي لها، كانت العقليّة مطمئنّة لا تفعل أفعالاً مختلفة المبادئ، وكانت باقي القوى مؤتمرة مسالمة لها.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ للرياضة أغراضاً ثلاثة:

أحدها: حذف كلّ محبوب ومرغوب عدا الحقّ الأوّل سبحانه عن درجة الاعتبار، وهي الموانع الخارجيّة.

الثّاني: تطويع النّفس الأمّارة للنّفس المطمئنّة ليجذب التّخيّل والتّوهّم عن الجانب السُّفليّ إلى العلويّ، ويتبعهما سائر القوى، فتزول الدّواعي الحيوانيّة المذكورة. وهي الموانع الداخليّة.

الثّالث: بعث السّرّ وتوجيهه إلى الجنّة العالية لتلقّي السّوانح الإلهيّة، وتهيئتُه لقبولها. ويعين على الغرض الأوّل الزّهد الحقيقيّ، وهو الإعراض عن متاع الدّنيا وطيّباتها بالقلب، وعلى الثّاني العبادة المشفوعة بالفكر في ملكوت السّماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، وعظمة الخالق سبحانه والأعمال الصّالحة المنويّة لوجهه خالصاً. وعبّر عليه السّلام بالتّقوى الَّتي روّض بها نفسه عن هذه الأمور المعيّنة والأسباب المعدّة، ونبّه على غرضه الأقصى من الرّياضة وهو الكمال الحقيقيّ واللذّة به، بذكر بعض لوازمه؛ وهو أن تأتي نفسه آمنةً من الفزع يوم الخوف الأكبر وهو يوم القيامة، وأن يثبت على جوانب المزلق وهو الصّراط المستقيم، فلا تميل به الدّواعي المختلفة عنه إلى أبواب جهنّم ومهاوي الهلاك. واستعار لفظ المزالق: لمظانّ زلل أقدام العقول في الطّريق إلى الله، وجذب الميول الشّهويّة والغضبيّة عنها إلى الرّذائل الموبقة.

الحادي عشر: نبّه على أنّ زهده في الدّنيا ليس عن عجزه عن تحصيل طيّبات مطعوماتها وملبوساتها، وأنّه لو شاء لاهتدى إلى تحصيل تلك الطّيّبات ولُباب القمح ومصفّى العسل، وإنّما تركه مع القدرة عليه رياضةً لنفسه وإعداداً لها لتحصيل الكمالات الباقية.

الثّاني عشر: نبّه على بعض العلل الحاملة له على ترك الطّيّبات والزّهد في الدّنيا؛ وهو كونه لم يخلق ليشغله أكلُ الطيّبات عمّا يراد منه.

الثّالث عشر: أشار إلى بعض ما عساه يعرض للأذهان الضّعيفة من الشّبهة، وهي اعتقاد ضعفه عن قتال الأقران، ثمّ نبّه على الجواب عن ذلك من خمسة أوجه:

الأوّل: التّمثيل بالشّجرة البرّيّة، قياس نفسه عليها في القوّة.

الثّاني: تمثيل خصومه وأقرانه كمعاوية بالرّوائع الخضرة، والحكم اللّازم عن ذلك هو رقّة الجلود ولينها، والضّعف عن المقاومة، وقلَّة الصّبر على المنازلة، والميل إلى الدّعة والرّفاهيّة.

الثّالث: تمثيله بالنّباتات العذيّة وهو كتمثيله بالشّجرة البرّيّة، والحكم هنا هو كونه أقوى على سعير نار الحرب وأصبر على وقدها وأبطأ فتوراً فيها وخموداً كالنّباتات العذيّة في النّار.

الرّابع: تمثيله نفسه من رسول الله صلَّى الله عليه وآله بالضّوء من الضّوء، وعلَّته الجامعة هي كون علومه وكمالاته النّفسانيّة المشرقة مستفادة ومقتبسة من مصباح علم النّبوّة وكمالاتها، كالمعلول من العلَّة، والمصباح من الشّعلة.

الخامس: تمثيله منه صلَّى الله عليه وآله بالذّراع من العضد.

ثمّ لمّا أثبت ذلك الحكم ونفى عنه الضّعف المتوهّم فيه، أكدّ ذلك بالقسم البارّ أنّه لو تعاونت العرب على قتاله لما ولَّى عنها.

الرّابع عشر: تواعد أن يجتهد في تطهير الأرض من هذا الشّخص المعكوس والجسم المركوس، وأراد معاوية، وإنّما قال: شخصاً وجسماً ترجيحاً لجانب البدن على النّفس، باعتبار عنايته بكمال بدنه دون كمال نفسه، فكأنّه جسم وشخص فقط.

وقوله: (حتّى تخرجَ المدرَة من بين حبّ الحصيد)، إشعار لفظ المدرَة لمعاوية وحبّ الحصيد للمؤمنين، ووجه المشابهة أنّه مخلّص المؤمنين من وجود معاوية بينهم، ليزكو إيمانهم ويستقيم دينهم.

الخامس عشر: تمثّل الدّنيا بصورة مَن يعقل، وخاطبها بخطاب العقلاء ليكون ذلك أوقع في النّفوس لغرابته. ثمّ أمرها بالتّنحّي والبعد عنه كالمطلِّق لها. ثمّ جعلها ذات مخالب استعارة بالكناية عن كونها كالأسد في جذبها للإنسان، بما فيها من الشّهوات والقينات إلى الهلاك الأبديّ كما يجرّ الأسد فريسته، وكذلك جعلها ذات حبائل، وكنّى بهذا الوصف المستعار عن كونها تصيد قلوب الرّجال بشهواتها الوهميّة، فهي لها كحبائل الصّايد، واستعار لفظ مداحضها لشهواتها وملذّاتها أيضاً باعتبار كونها مزالق أقدام العقول عن طريق الله ومصارع لها، وعبّر بجميع ذلك عن زهده فيها وإبعادها فيها عن نفسه. ثمّ أخذ في سؤالها عن القوم الَّذين غرّتهم بمداعبها، والأمم الَّذين فتنتهم بزخارفها سؤالاً على سبيل التّوبيخ لها، والذمّ على فعلها ذلك بهم في معرض التّنفير عنها، وهو من قبيل تجاهل العارف، واستعار لها لفظ المداعب - جمع مدعبة - بمعنى دعابة، ووجه المشابهة أنّها عند صفاء لذّاتها للخلق، واغترارهم بها، ثمّ كرّها عليهم بعد ذلك بالأمر الجدّ يشبه مَن يمزح مع غيره وينبسط معه بالأقوال والأفعال اللّيّنة ليغترّ به، ثمّ يأتيه بعد ذلك بالأمر الجدّ فيؤذيه أو يهلكه، وإنّما نسب الغرور إليها لكونها سبباً مادّيّا لذلك.

السّادس عشر: أشار إلى غايتهم الَّتي صاروا إليها، وهي كونهم رهائن القبور ومضامين اللّحود.

السّابع عشر: أقسم أنّها لو كانت شخصاً مرئيّاً وقالباً حسّيّاً لأقام عليها حدود الله في عباد غرّتهم بالأمانيّ وأوردتهم موارد البلاء. ثمّ لمّا كان في هذا الخطاب كالمعلّم لها، أنّه قد اطَّلع على خداعها وغرورها، قال كالمؤيس لها من نفسه: (هيَهات). ثمّ نبّه على بعض العِلل الحاملة على البُعد عنها والنّفرة عن قربها، وهي ما يلزم وطئ دحضها من الزّلق، وركوب لُججها من الغرق، والازورار عن حبائلها من التّوفيق للسّلامة، وما يلزم السّالم منها من عدم مبالاته بضيق مناخه، وكلّ مناخ أناخ به من فقرٍ وسجنٍ ومرضٍ وبلاءٍ بعد السّلامة منها، فهو فسيح رحْب بالقياس إلى ما يستلزم التّفسّح في سعَتها والجري في ميادين شهواتها من العذاب الأليم في الآخرة، وهي عنده في القصر وعدم الالتفات إليها كيومٍ حان انسلاخه. وألفاظ المداحض واللُّجج والحبال مستعارة لشهواتها ولذّاتها.

فالأوّل: باعتبار كون شهواتها مظنّة أن تُحَبّ فينجرّ الإنسان عند استعمالها إلى الاستكثار منها أو تجاوز القدر المعتدل إلى المحرّم، فتزلّ قدم نفسه عن صراط الله، فيقع في مهاوي الهلاك والمآثم.

والثّاني: باعتبار أنّ مطالبها والآمال فيها غير متناهية؛ فمن لوازم المشتغل بها والمنهمك في الدّنيا أن يغرق نفسه في بحرٍ لا ساحل له منها، فينقطع عن قبول رحمة الله إلى الهلاك الأبديّ، كالملقي نفسه في بحرٍ لجّيّ.

الثالث: باعتبار أنّ الانسان إذا اغترّ بها عاقته عن النّهوض والتّخلّص إلى جناب الله، ومنعته أن يطير بجناحَي قوّته العقليّة في حضرة قدس الله ومنازل أوليائه الأبرار، كما تعوق حبائل الصّائد جناح الطّائر.

ثمّ كرّر الأمر لها بالبُعد عنه وأقسم أنّه لا يذلّ لها فيستذلَّه، ولا يُسلِس لها قياده تقوده، وفيه تنبيهٌ على أنّها لا يذلّ فيها إلَّا مَن أذلّ نفسه وعبّدها لها، ولا تملك إلَّا قياد من أسلس لها قياده، وهو ظاهر.

الثّامن عشر: أقسم ليوقّعن ما صمّم عزمه عليه وهو بصدده من رياضة نفسه. ووصف تلك الرّياضة في قوّتها باستلزام أمرَين:

أحدهما: كون نفسه يهشّ معها إلى القرص، وترضى به إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً. وتلك رياضة القوّة الشهويّة. ولمّا كانت عدوّاً للنّفس وأكثر الفساد يلحق بسببها خصّها بالذّكر وقوّة العزم، ويحتمل أن يريد رياضة جميع القوى وإنّما وصفها بكون النّفس تهشّ معها إلى القرص، لأنّ ضبط الشّهوة أعظم من ضبط سائر القوى، وأصعب، وكانت الإشارة إلى ضبطها إلى الحدّ المذكور أبلغ في وصف الرّياضة بالشّدّة. واستثنى في يمينه بمشيئة الله أدباً لقوله تعالى ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله..﴾ الكهف:23-24، وتنبيهاً على استناد جميع الأمور في سلسلة الحاجة إلى الله تعالى.

الثّاني: كونه يدَع مقلتَه في تلك الرّياضة كعينِ ماءٍ نضب ماؤها، ووجه الشّبه أن يفنى دموعها ويستفرغها بالبكاء شوقاً إلى الملأ الأعلى، وما أُعدّ لأولياء الله من السّعادة الأبديّة وخوفاً من حرمانها. ومَن كان في مقام الغربة ومحلّ الوحشة كيف لا يشتاق إلى وطنه الأصليّ، ومقام أنسه الأوّلىّ.

وقوله: (قرّت إذن عينُه). إخبارٌ في معرض الإنكار والاستهزاء باللذّة كقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ الدّخان:49.

التّاسع عشر: نبّه على أنّ النّفس إذا كانت بالصّفات المذكورة، فلها استحقاق طوبى، وجمع في تلك الصّفات أكثر مكارم الأخلاق:

فالأولى: القيام بواجب طاعة الله وما افترضه عليها.

الثّانية: قوله: (وعركتْ بجَنبِها بؤسَها)، كناية عن الصّبر على نزول المصائب.

الثّالثة: أن تهجر باللّيل غُمضَها، وهو كناية عن إحياء ليلها بعبادة ربّها واشتغالها بذكره، حتّى إذا غلب النّوم عليها افترشت أرضَها وتوسّدت كفّها: أي لم يكن لها كلفة في تهيئة فراش وطِيب وساد، بل كانت بريّةً عن كلّ كلفة عريّةً عن كلّ قينة، منزّهةً عن كلّ ترفة.

وقوله: (في معشَرٍ..)، يصلح تعلَّقه بكلّ من أفعال النّفس المذكورة: أي فعلت هذه الأفعال في جملةِ معشرٍ من شأنهم كذا. وعرّفهم بصفات أربع:

أحدها: كونهم أسهر عيونَهم خوفُ معادهم.

الثّاني: (وتجافتْ جنوبُهم من مضاجعهم). وهو كناية عن اشتغالهم ليلاً بعبادة ربّهم كقوله تعالى: ﴿تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ..﴾ السجدة:16.

الثّالث: (وهَمهَمتْ بذِكر ربّهم شفاهُم)، كقوله تعالى: ﴿..يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وطَمَعاً..﴾ السجدة:16.

الرّابع: (وتقشّعتْ بطول استغفارِهم ذنوبُهم)، وهو لازم عن الثّلاثة الأولى أو ثمرَة لها، واستعار لفظ التقشّع لانمحاء ذنوبهم، كلّ ذلك للتّرغيب في طاعة الله، والجذب إلى الدّخول في زمرة أوليائه، وبالله التوفيق.

***

 

إقامةُ الحَدّ على الدّنيا بجُرم التّغرير والتَّدليس

 

§        السيد حبيب الله الهاشمي الخوئي

* السيّد حبيب الله بن محمد بن هاشم الخوئي (ت: 1324 للهجرة) عالمٌ متبحّر وأديبٌ جليل، هاجر من إيران الى النجف الأشرف لتلقّي العلوم الدينيّة.

* من تلاميذ الميرزا حبيب الله الرشتي، والمجدّد الشيرازي رضوان الله عليهما.

* له كتاب (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) في واحد وعشرين مجلّداً. يعرض في مقدّمة كتابه رأيه في شروح مَن تقدّمه على (نهج البلاغة) كالقطب الراوندي، وابن ميثم البحراني، وابن أبي الحديد المعتزلي.

* اقتطعنا من شرحه لكتاب أمير المؤمنين عليه السّلام لابن حُنيف كلامه في الفقرة الأولى من الكتاب، حيث كانت له وقفة عند الداعي لتوجيه اللّوم والعتاب لابن حنيف على إجابته دعوةٍ إلى طعام، والتشديد عليه في لَفْظِ ما يشتبه عليه علمُه منه، وما يرتبط بدعوة الامام عليه السلام للاقتداء به والاستضائة بنور علمه. كذلك اخترنا من شرحه للفقرة الأخيرة التي يخاطب فيها الإمام عليه السلام الدنيا، موجّهاً كلامه في نقدها وعزمه إقامة الحدّ عليها.

 

ما هو جوهر هذه المخالفة الَّتي ارتكبها هذا الوالي الَّذي فُوِّض إليه إدارة أمور ثغر مهمّ من الثّغور الإسلاميّة في ذلك الزّمان؟ فالبصرة أحد الثّغور المهمّة الإسلاميّة في تينك العصور، تضاهي مركزيّة الكوفة ومصر والشّام، وقد انتخبه، عليه السّلام، والياً له وفوّض إليه إدارة شؤونه وسياسة نظامه في هذا الموقف الرّهيب، فكيف يوبّخه ويؤنبّه بهذه الجمل القاسية التي ملؤها الوهن والاستضعاف، فهذه المخالفة تحتمل وجوهاً:

1) أنّها مجرّد إجابة دعوة المشاركة في وليمة لذيذة هيِّئت للتّفريح والأنس مع الأحباب والأقران.

2) أُعدّت هذه الوليمة على حساب استمالة الوالي والنّفوذ عنده للاستفادة منه في شتّى المقاصد المرجوعة إليه، وللاعتماد عليه في تنفيذ الحوائج، كما هي عادة ذوي النّفوذ والجاه في كلّ بلد، فإنّ شأنهم تسخير عمّال الدّولة بالتّطميع والإحسان للاستمداد منهم في مقاصدهم.

3) إنّ هذه الوليمة أُعدّت من عصابة مخالفة لعليّ عليه السّلام وموالية لمعاوية وأعوانه، فهي حفلة مؤامرة ضدّ عليّ، عليه السّلام، والهدف منها جلب الوالي إلى الموافقة مع مقاصد سياسيّة مُهمّة، وصرْف عثمان بن حنيف عن موالاته، عليه السّلام، إلى معاداته كما فعل معاوية مع زياد ابن أبيه بعد ذلك، فإنّه كان أحد أعوان عليّ عليه السّلام وأحد ولاته المُسيَّسين، وله يدٌ في تقوية حكومته، فاستجلبه معاوية بالمكائد والمواعيد وأثبته أخاً له، لجلبه من موالاة عليّ، عليه السّلام، إلى معاداته، واستفاد منه أكثر استفادة في حكومته. وما ذكره عليه السّلام في كتابه هذا يناسب الوجه الثّالث، فإنّه موقف خطر يحتاج إلى الحذر منه أشدّ الحذر.

فشرع عليه السّلام يوبّخ عثمان في قبول هذه الدّعوة والإسراع إليها، وتقبُّل ما أعدوّه له من إعداد الأطعمة الطّيّبة المختلفة الألوان، وتقديم الأقداح الكبيرة في الخوان، وأشار عليه السّلام إلى أنّ هذه الوليمة ممّا لم يُقصد به رضى الله وإكرام والي وليّ الله، وإلَّا فكان يُدعى إليها ذَوو الحاجة والفقراء من الجيران وسائر المسلمين، ولم يُخَصَّص بالدّعوة الأغنياء وذَوو النّفوذ والثّروة. ثمّ أشار، عليه السّلام، إلى أنّ الحاضرين حول هذه الخوان من الغافلين المنهمكين في اللّذّات المادّيّة، فعبّر عن الخوان بالمقضم، وهو ما يعدّ فيه علف الدّابّة من التّبن والشّعير، وتعبيره، عليه السّلام، يعمّ كلّ خوان ومطعم مهيّأ لأمثال هؤلاء المفتونين بأمر الدّنيا.

لكلِّ مأمومٍ إمامٌ يقتدي به

* قوله عليه السّلام (فمَا اشْتَبَه عليكَ عِلمُه فَالفظهُ) يحتمل وجهَين:

1) أن يكون المقصود منه بيان الأصل في الأموال، وأنّ الأصل فيها التّحريم ولزوم الاحتياط والتّحرّز، إلَّا ما ثبت حِلُّه بوجه شرعيّ.

2) أن يكون المقصود تحقيق الحلال الواقعيّ وعدم الاكتفاء بالأمارات والأدلَّة المحتملة للخلاف تحصيلاً للورع عن الحرام الواقعيّ، كما يستفاد من قوله عليه السّلام (وما أيقنتَ بطيبِ وجوهِه فنَلْ مِنه) فيُستفاد منه أنّه قرّر على عمّاله احتياطاً في الدّين فوق حدّ العدالة الَّتي كانت شرطاً في تصدّي هذه المناصب الجليلة.

فحمْلُ كلامه، عليه السّلام، على الوجه الثّاني أوضح، لأنّ مقام هذا الصّحابيّ الكبير أجَلّ من أن ينال ما لا يحلّ له من الطّعام جهلاً بالمسألة أو تسامحاً في أمر دينه، فكان هذا التّشدّد منه، عليه السّلام، عليه لعلوّ رتبته، فنبّهه أنّه لا يليق هذا العمل بمثله، وإن كان لا بأس عليه لغيره ممّن لم يَنل مقامه في العلم والورع.

ثمّ توجّه عليه السّلام إلى بيان قاعدة منظِّمة لعمّاله أو مطلق شيعته، ولخصّها في كلمتين:

1) الاقتداء بالإمام في العمل والسّيرة.

2) الاستضائة من نور علمه والأخذ بدستوره في كلّ الأمور. والاقتداء بالإمام عملاً وأخذ دستور العمل منه، كلاهما سلوك طريق النّجاة ولكنّ الثّاني أعمّ، فإنّه يشمل الغائب عن محضر الإمام، ويشمل التّكاليف الخاصّة بالمأموم دون الإمام، وهي كثيرة جدّاً.

ثمّ لخصّ عليه السّلام سيرته في كلمتَين، لتكون مدار العمل لعمّاله وللاقتداء به عليه السّلام:

1) الاكتفاء من رياش الدّنيا ولباسها وزينتها بطمرَين، أي ثوبين باليَين؛ إزار ورداء.

2) الاكتفاء من طعامها وغذائها ولذائذها بقرصَين من خبز الشّعير اليابس الفارغ عن الإدام. وقد مثّل عليه السّلام في هاتين الكلمتين الزّهد بأدقّ معانيه وأشقّ ما فيه، بحيث جعله من كراماته وأنّه ممّا لا يقدر على العمل به غيره، فقال عليه السّلام: (ألا وإنّكم لا تَقدِرونَ على ذلك).

ثمّ نظّم برنامجاً تربويّاً لعمّاله ومَن يتصدّى إدارة أمور حكومته، في أربع موادّ:

1) الوَرَع: وهو تحصُّن النّفس عن الرّذائل، والاجتناب عن المحارم والمحرّمات.

2) الاجتهاد في تحرّي الحقيقة والعمل على مقتضى الوظيفة، وتحمّل الكدّ والأذى في سبيل الحقّ.

3) العفّة: وهي ضبط النّفس عمّا لا يحلّ ولا ينبغي من المشتهيات، وما فيها من الرّغبات.

4) السّداد: وهو تحكيم المعرفة بالأمور، والأخذ باليقين، وتحكيم العمل، والدّقة في تقرير شرايطه وكيفيّاته، وعدم التّسامح فيه.

.. كَيومٍ حانَ انسلاخُه

لقد كتب أمير المؤمنين عليه السّلام هذا الكتاب إلى أحد عمّاله في ناحية كبيرة من دار حكومته الواسعة، وهو في إبّان قدرته وعلى عرش حكومته الإسلاميّة الَّتي حازها بحقّ، فينبغي أن يتوجّه إليها ويطمئنّ بها. ولكنّه توجّه إليها بلحاظ أنّها مظهر من مظاهر الدّنيا الغرّارة الفتّانة، يكاد يُغلَب على الحاكم أو الوالي المفتون بها وبزينتها وعواملها الخلَّابة؛ من توجّه عموم النّاس إلى بابه، ومن انقياد الأمراء والحكَّام إلى جنابه، ومن ورود سيل الخراج والأموال والغنائم من شتّى نواحي البلاد الإسلاميّة تحت يده.

فمَن هو الرّجل الَّذي لا يُغرّ بهذه المظاهر الفتّانة الدّنيويّة، ويقدر على ضبط نفسه عن التّأثّر بها والافتتان منها؟ فكان، عليه السّلام، يلقّن بهذه الجمل النّافذة كُرهَ الدّنيا وكيدها وغرورها وعواقبها على قلوب أعوانه وحكَّامه، ويطرد الدّنيا عن حوله وعن فنائه بقوله عليه السّلام: (إليكِ عنّي يا دنيا) فأنت مطلَّقة عنّي لا سبيل لك إليّ، ويهدّدها أشدّ التّهديد بأنّها لو كانت جسماً محسوساً كالواحد من البشر، لكان أقام عليها الحدّ، وعرّضها للمجازات بما ارتكبته من الخلاف في حقّ ذويها:

1) بجرم التّغرير وإراءة ما لا واقع له لطلَّابها، فكانت مدلِّسة يتوجّه إليها مجازات التّدليس.

2) التّسبيب إلى الهلاك والتّلَف لأبنائها وجرّهم إلى موارد البلاء والدّمار. ثمّ بيّن أنّه لا نجاة لمن اغترّ بها وصار في طلبها، فليس لها إلَّا مزالق هائلة ولُجج مهلِكة، فمَن سلم عنها فهو على طريق النّجاة، وإنْ ضاق عليه أمر الدّنيا، فإنّ الدّنيا لمحة يسيرة تنصرم عاجلاً ويفوز المؤمن السّالم فيها من مكائدها إلى الفوز الأبديّ والراحة الطويلة.

ثمّ يبيّن عليه السّلام سيرته في معيشة الدّنيا مقروناً بالحلف بالله تعالى في التّمسّك بالرّياضة وتقليل الطّعام، إلى حيث تفرح نفسه بأكل قرص من الشّعير لسدّ جوعتها، وتقنع بالملح للإدام، ومع ذلك يبكي من خشية الله وموقف الحساب إلى حيث تنضب عينُه من الدّموع، وأشار صلوات الله عليه إلى أنّ النّفس الإنسانيّة أشرف من الاقتداء بالبهائم من الإبل والبقر والغنم في الأكل وطلب الرّاحة، فلا بدّ من حفظ الامتياز، وهو ملازمة الجوع، والخوف من الله، والعبادة في جوف اللّيل، والهَمْهَمة بذكر الله بالشّفاه، وغَسل الذّنوب بالاستغفار في باب الله.

                        (بتصرّف)

 

َكالضّوءِ من الضّوء، والذِّراعِ من العَضُد

§        ابن أبي الحديد المُعتَزلي

* عزّ الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني (ت: 656 للهجرة)، أديبٌ وكاتب، أشهر مؤلَّفاته (شرح نهج البلاغة) في عشرين مجلّداً، صنّفه مستفيداً من خزانة كتبٍ تحوي عشرة آلاف كتاب من نفائس المخطوطات.

* يأتي كلامه في المقطع من كتاب أمير المؤمنين عليه السلام لعثمان بن حُنيف: «وأَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّه كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ، والذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُد، واللَّه لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا ".." وسَأَجْهَدُ فِي أَنْ أُطَهِّرَ الأَرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْكُوسِ والْجِسْمِ الْمَرْكُوسِ..»، ليبيّن الموقف الإسلاميّ العامّ من مكانة الوصيّ عليه السّلام من رسول الله صلّى الله عليه وآله – كون ابن أبي الحديد معتزليّاً - حيث تعضد ما ورد في الكتاب عشراتُ الرّوايات من مصادر المسلمين أثبت بعضَها، كما سخّر قدرته البيانيّة في تقريب حقيقة «الضّوء من الضّوء»، غير متحفّظٍ على وصف معاوية بما يناقض الصّورة الإنسانيّة.

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه لابن حُنيف:

(وَأَنا مِنْ رَسولِ اللهِ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ وَالذِّراعِ مِنَ العَضُدِ): وذلك لأنّ الضّوء الأوّل يكون علّةً في الضّوء الثّاني، ألا ترى أنّ الهواء المقابل للشّمس يصير مُضيئاً من الشّمس؟ فهذا الضّوء هو الضّوء الأوّل. ثمّ إنّه يقابلُ وجهَ الأرض فيُضيء وجه الأرض منه، فالضّوء الذي على وجه الأرض هو الضّوء الثّاني. وما دام الضّوء الأوّل ضعيفاً فالضّوء الثّاني ضعيف، فإذا ازداد الجوّ إضاءةً ازداد وجه الأرض إضاءةً، لأنّ المعلول يتبع العلّة.

فشبَّه، عليه السّلام، نفسه بالضّوء الثّاني، وشبَّه رسول الله، صلّى الله عليه وآله، بالضّوء الأوّل، وشبَّه منبع الأضواء والأنوار، سبحانه وجلَّت أسماؤه، بالشّمس التي توجِب الضّوء الأوّل، ثمّ الضّوء الأوّل يوجب الضّوء الثّاني.

وها هنا نكتة: وهي أنّ الضوء الثّاني يكون أيضاً علّة لضوءٍ ثالث؛ وذلك أنّ الضّوء الحاصل على وجه الأرض، وهو الضّوء الثّاني، إذا أشرق على جدارٍ، ومقابل ذلك الجدار - قريباً منه - مكانٌ مظلِم، فإنّ ذلك المكان يصير مضيئاً بعد أن كان مظلماً، وإن كان لذلك المكان المظلم باب وكان داخل البيت مقابل ذلك الباب جدار، كان ذلك الجدار أشدّ إضاءةً من باقي البيت. ثمّ ذلك الجدار إن كان فيه ثقب إلى موضِعٍ آخَر، كان ما يحاذي ذلك البيت أشدّ إضاءةً ممّا حواليه. وهكذا لا تزال الأضواء يوجب بعضُها بعضاً على وجه الانعكاس بطريق العلّيّة، وبشرط المقابلة، ولا تزال تضعف درجةً درجة إلى أن تضمحلّ ويعود الأمر إلى الظّلمة. وهكذا عالم العلوم والحِكَم المأخوذة من أمير المؤمنين، عليه السّلام، لا تزال تضعف كلّما انتقلت من قومٍ إلى قومٍ إلى أن يعود الإسلام غريباً كما بدأ، بموجب الخبر النّبويّ الوارد في الصّحاح.

***

وأمّا قوله: (والذّراع من العَضُد) فلأنّ الذّراع فرعٌ على العضد، والعضُد أصل. ألا ترى أنّه لا يُمكن أن يكون ذراعٌ إلّا إذا كان عضد، ويمكن أن يكون عضُد لا ذراع له، ولهذا قال الرّاجز لولده:

يا بِكْرَ بِكْرَيْنِ ويا خِلْبَ الكَبِدْ    

أَصْبَحْتَ مِنّي كَذِراعٍ مِنْ عَضُدْ

 

فشبَّه، عليه السّلام، بالنّسبة إلى رسول الله، صلّى الله عليه وآله، بالذّراع الذي العضد أصله وأُسّه. والمراد من هذا التّشبيه الإبانة عن شدّة الامتزاج والاتّحاد والقرب بينهما.

فإنّ الضّوء الثّاني شبيهٌ بالضّوء الأوّل، والذّراع متّصل بالعضد اتّصالاً بيِّناً. وهذه المنزلة قد أعطاه إيّاها رسول الله، صلّى الله عليه وآله، في مقامات كثيرة، نحو قوله في قصّة براءة: (قَدْ أُمِرْتُ أَنْ لا يُؤَدِّيَ عَنّي إِلّا أَنا أَوْ رَجُلٌ مِنّي)، وقوله: (لَتَنْتَهُنَّ يا بَني وَليعَةَ أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلاً مِنّي) أو قال: (عَديل نَفْسي)، وقد سمّاه الكتاب العزيز (نفسه) فقال: ﴿..وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ..﴾ آل عمران:61، وقد قال له: (لَحْمُكَ مُخْتَلَطٌ بِلَحْمي، وَدَمُكَ مَسوطٌ (منوط) بِدَمي، وَشِبْرُكَ وَشِبْري واحِدٌ).

فإن قلت: أمّا قوله: (لَوْ تَظاهَرَتِ العَرَبُ عَلى قِتَالِي لَما وَلَّيْتُ عَنْها) فمعلوم، فما الفائدة في قوله: (وَلَوْ أَمَكَنَتِ الفُرَصُ مِنْ رِقابِها لَسارَعْتُ إِلَيْها)، وهل هذا ممّا يفخر به الرّؤساء ويعدّونه منقبة؟ وإنّما المنقبة أن لو أمكنَته الفرصة تجاوز وعفا!

قلت: غَرَضُه أن يقرّر في نفوس أصحابه وغيرهم من العرب أنّه يحارب على حقٍّ، وأنّ حربه لأهل الشّام كالجهاد أيّام رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأنّ مَن يجاهد الكفّار يجب عليه أن يغلظ عليهم ويستأصل شأفتَهم.

***

قوله عليه السّلام: (وَسَأَجْهَدُ في أَنْ أُطَهِّرَ الأَرْضَ..) الإشارة في هذا إلى معاوية، سمّاه شخصاً معكوساً وجِسماً مركوساً، والمراد انعكاس عقيدته وأنّها ليست عقيدة هدى بل هي معاكسة للحقّ والصّواب. وسمّاه مَركوساً من قولهم: ارتكس في الضّلال، والرّكس ردّ الشّيء مقلوباً، قال تعالى: ﴿..وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا..﴾ النساء:88، أي قلبهم وردّهم إلى كفرهم. فلمّا كان معاوية تاركاً للفطرة التي كلّ مولود يولَد عليها، كان مرتكِساً في ضلاله. وأصحابُ التّناسخ يفسّرون هذا بتفسير آخر، قالوا: الحيوان على ضربَين، منتصب ومنحنٍ، فالمنتصب الإنسان، والمُنحني ما كان رأسه منكوساً إلى جهة الأرض كالبهائم والسّباع. قالوا: وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ الملك:22.

قالوا: فأصحاب الشّقاوة تنتقل أنفسهم عند الموت إلى الحيوان المكبوب، وأصحاب السّعادة تنتقل أنفسهم إلى الحيوان المنتصب؛ ولمّا كان معاوية عنده عليه السّلام، من أهل الشّقاوة سمّاه معكوساً ومركوساً رمزاً إلى هذا المعنى.

قوله عليه السلام: (حَتّى تَخْرُجَ المَدَرَةُ مِنْ بَيْنِ حَبِّ الحَصيدِ) أي حتّى يتطهّر الدّين وأهله منه، وذلك لأنّ الزّرّاع يجتهدون في إخراج المَدَر والحجر والشّوك والعَوسج ونحو ذلك من بين الزّرع كي لا تفسد منابته فيفسد الحبّ الذي يخرج منه. فشبّه معاوية بالمدَر ونحوه من مفسِدات الحَبّ وشبَّه الدّين بالحبّ الّذي هو ثمرةُ الزّرع. (مختصَر)

 

 

 

رياضةُ النفس بالتقوى

حبُّ الخير لكلّ النّاس

§        العلّامة الشيخ محمّد جواد مغنية رحمه الله

 

من كتابه (في ظلال نهج البلاغة) اخترنا للعلّامة الراحل الشيخ محمد جواد مغنية، تعليقاته على فقرات من كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى واليه على البصرة عُثمان بن حُنيف.

 

الإمام يحكم باسم الله والإسلام، وإذاً فلا بِدعَ أن يحاسب عاملَه على أكل الطيّبات من الرزق، لأنّها تحلّ وتطيب لغير الحاكم، أما للحاكم فهي خبيثة وقبيحة ما دام في الرعيّة محروم واحد، لأنّ «اللهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُه»، كما في بعض خُطب نهج البلاغة.

قال العقّاد في كتابه (عبقريّة الإمام): «وقد بلغ من حساب الإمام للولاة أنّه كان يُحاسبهم على حضور الولائم التي لا يجمل بهم حضورها، فكتب إلى عثمان بن حنيف الأنصاري: فَقَد بَلَغَني إلخ... واستكثرَ على شُريح قاضيه أن يبني داراً بثمانين ديناراً، وهو يُرزَق خمسمائة درهم، وحاسب على أقلّ من هذا مَن هو أقلّ من شريح أمانةً في القضاء».

***

قوله عليه السلام: (فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ‏ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ..): المراد بالقضم والمقضم هنا الأكل والمأكول، وأطلق الإمام عليه هذا الوصف للتنبيه إلى أنّ الغرض من القُوت مجرد حفظ الحياة. والمعنى: حّتى القوت الضروري لا يحلّ لك إلّا إذا جزمتَ وأيقنتَ بأنه حلال زلال، ويحرم إذا كان فيه أدنى شبهة للحرام... ومن هنا قال الفقهاء: «الأصل في الأموال التحريم حتّى يثبت العكس، وأنّها لا تحلّ أبداً إلّا من حيث أحلّها اللَّه».

***

قوله عليه السلام: (وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى..): التّقوى هي دعوة الاسلام والقرآن: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ..﴾ النساء:1. وقوله تعالى: ﴿.. مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ..﴾ يشير إلى أنّ التقوى عند الله أن تساوي نفسك بكلّ نفس، ولا ترى لها فضلاً على سواك، كائناً مَن كان، إلا بالتقوى.

ومعنى ترويض النفس بالتقوى أن تطهّرها من كلّ شائبة؛ كالبُغض والكذب والحسد، وأن تُحيي ضميرك بحب الخير للنّاس، كلّ الناس.

***

قوله عليه السلام: (أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ..): يسأل الإمام كلّ حاكم: هل الغرض من الحُكم الألقاب الفارغة، والمظاهر الكاذبة، وهل أنت مقتنع بينك وبين نفسك بذلك، أو تستطيع أن تقنع به واحداً على وجه الأرض؟

وجواب الحاكم عن هذا السؤال قولاً وفعلاً هو الذي يحدّد حقيقته وشخصيّته، وبعد هذا السؤال حدّد الإمام وظيفته ومكانته في الحُكم، حدّدها بالوحدة الإنسانية، ومساواة الحاكم للرعية في كلّ شيء حتّى في مكاره العيش، ومن البديهة أنّ هذه المساواة تضمن الحرية للجميع، والتعاون على مصلحة الجميع.

***

قوله عليه السلام: (طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا..): أداء الفرض هو أن تترك أثراً ينتفع به الناس من بعدك، وعلى الأقلّ أن تكفّ الأذى عن الناس، ولا تُفسد في الأرض. قال الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله: «كُفَّ أَذَاكَ عَنِ النّاسِ، فَإِنّه صَدَقَةٌ تَتَصَدّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ». فسلبُ الشرِّ خيرٌ في دين الإسلام.

 

اخبار مرتبطة

  فرائد

فرائد

  دوريات

دوريات

منذ 4 أيام

دوريات

نفحات