الملف

الملف

20/04/2015

إقامةُ الحَدّ على الدّنيا بجُرم التّغرير والتَّدليس

إقامةُ الحَدّ على الدّنيا بجُرم التّغرير والتَّدليس

 

§        السيد حبيب الله الهاشمي الخوئي

* السيّد حبيب الله بن محمد بن هاشم الخوئي (ت: 1324 للهجرة) عالمٌ متبحّر وأديبٌ جليل، هاجر من إيران الى النجف الأشرف لتلقّي العلوم الدينيّة.

* من تلاميذ الميرزا حبيب الله الرشتي، والمجدّد الشيرازي رضوان الله عليهما.

* له كتاب (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) في واحد وعشرين مجلّداً. يعرض في مقدّمة كتابه رأيه في شروح مَن تقدّمه على (نهج البلاغة) كالقطب الراوندي، وابن ميثم البحراني، وابن أبي الحديد المعتزلي.

* اقتطعنا من شرحه لكتاب أمير المؤمنين عليه السّلام لابن حُنيف كلامه في الفقرة الأولى من الكتاب، حيث كانت له وقفة عند الداعي لتوجيه اللّوم والعتاب لابن حنيف على إجابته دعوةٍ إلى طعام، والتشديد عليه في لَفْظِ ما يشتبه عليه علمُه منه، وما يرتبط بدعوة الامام عليه السلام للاقتداء به والاستضائة بنور علمه. كذلك اخترنا من شرحه للفقرة الأخيرة التي يخاطب فيها الإمام عليه السلام الدنيا، موجّهاً كلامه في نقدها وعزمه إقامة الحدّ عليها.

 

ما هو جوهر هذه المخالفة الَّتي ارتكبها هذا الوالي الَّذي فُوِّض إليه إدارة أمور ثغر مهمّ من الثّغور الإسلاميّة في ذلك الزّمان؟ فالبصرة أحد الثّغور المهمّة الإسلاميّة في تينك العصور، تضاهي مركزيّة الكوفة ومصر والشّام، وقد انتخبه، عليه السّلام، والياً له وفوّض إليه إدارة شؤونه وسياسة نظامه في هذا الموقف الرّهيب، فكيف يوبّخه ويؤنبّه بهذه الجمل القاسية التي ملؤها الوهن والاستضعاف، فهذه المخالفة تحتمل وجوهاً:

1) أنّها مجرّد إجابة دعوة المشاركة في وليمة لذيذة هيِّئت للتّفريح والأنس مع الأحباب والأقران.

2) أُعدّت هذه الوليمة على حساب استمالة الوالي والنّفوذ عنده للاستفادة منه في شتّى المقاصد المرجوعة إليه، وللاعتماد عليه في تنفيذ الحوائج، كما هي عادة ذوي النّفوذ والجاه في كلّ بلد، فإنّ شأنهم تسخير عمّال الدّولة بالتّطميع والإحسان للاستمداد منهم في مقاصدهم.

3) إنّ هذه الوليمة أُعدّت من عصابة مخالفة لعليّ عليه السّلام وموالية لمعاوية وأعوانه، فهي حفلة مؤامرة ضدّ عليّ، عليه السّلام، والهدف منها جلب الوالي إلى الموافقة مع مقاصد سياسيّة مُهمّة، وصرْف عثمان بن حنيف عن موالاته، عليه السّلام، إلى معاداته كما فعل معاوية مع زياد ابن أبيه بعد ذلك، فإنّه كان أحد أعوان عليّ عليه السّلام وأحد ولاته المُسيَّسين، وله يدٌ في تقوية حكومته، فاستجلبه معاوية بالمكائد والمواعيد وأثبته أخاً له، لجلبه من موالاة عليّ، عليه السّلام، إلى معاداته، واستفاد منه أكثر استفادة في حكومته. وما ذكره عليه السّلام في كتابه هذا يناسب الوجه الثّالث، فإنّه موقف خطر يحتاج إلى الحذر منه أشدّ الحذر.

فشرع عليه السّلام يوبّخ عثمان في قبول هذه الدّعوة والإسراع إليها، وتقبُّل ما أعدوّه له من إعداد الأطعمة الطّيّبة المختلفة الألوان، وتقديم الأقداح الكبيرة في الخوان، وأشار عليه السّلام إلى أنّ هذه الوليمة ممّا لم يُقصد به رضى الله وإكرام والي وليّ الله، وإلَّا فكان يُدعى إليها ذَوو الحاجة والفقراء من الجيران وسائر المسلمين، ولم يُخَصَّص بالدّعوة الأغنياء وذَوو النّفوذ والثّروة. ثمّ أشار، عليه السّلام، إلى أنّ الحاضرين حول هذه الخوان من الغافلين المنهمكين في اللّذّات المادّيّة، فعبّر عن الخوان بالمقضم، وهو ما يعدّ فيه علف الدّابّة من التّبن والشّعير، وتعبيره، عليه السّلام، يعمّ كلّ خوان ومطعم مهيّأ لأمثال هؤلاء المفتونين بأمر الدّنيا.

لكلِّ مأمومٍ إمامٌ يقتدي به

* قوله عليه السّلام (فمَا اشْتَبَه عليكَ عِلمُه فَالفظهُ) يحتمل وجهَين:

1) أن يكون المقصود منه بيان الأصل في الأموال، وأنّ الأصل فيها التّحريم ولزوم الاحتياط والتّحرّز، إلَّا ما ثبت حِلُّه بوجه شرعيّ.

2) أن يكون المقصود تحقيق الحلال الواقعيّ وعدم الاكتفاء بالأمارات والأدلَّة المحتملة للخلاف تحصيلاً للورع عن الحرام الواقعيّ، كما يستفاد من قوله عليه السّلام (وما أيقنتَ بطيبِ وجوهِه فنَلْ مِنه) فيُستفاد منه أنّه قرّر على عمّاله احتياطاً في الدّين فوق حدّ العدالة الَّتي كانت شرطاً في تصدّي هذه المناصب الجليلة.

فحمْلُ كلامه، عليه السّلام، على الوجه الثّاني أوضح، لأنّ مقام هذا الصّحابيّ الكبير أجَلّ من أن ينال ما لا يحلّ له من الطّعام جهلاً بالمسألة أو تسامحاً في أمر دينه، فكان هذا التّشدّد منه، عليه السّلام، عليه لعلوّ رتبته، فنبّهه أنّه لا يليق هذا العمل بمثله، وإن كان لا بأس عليه لغيره ممّن لم يَنل مقامه في العلم والورع.

ثمّ توجّه عليه السّلام إلى بيان قاعدة منظِّمة لعمّاله أو مطلق شيعته، ولخصّها في كلمتين:

1) الاقتداء بالإمام في العمل والسّيرة.

2) الاستضائة من نور علمه والأخذ بدستوره في كلّ الأمور. والاقتداء بالإمام عملاً وأخذ دستور العمل منه، كلاهما سلوك طريق النّجاة ولكنّ الثّاني أعمّ، فإنّه يشمل الغائب عن محضر الإمام، ويشمل التّكاليف الخاصّة بالمأموم دون الإمام، وهي كثيرة جدّاً.

ثمّ لخصّ عليه السّلام سيرته في كلمتَين، لتكون مدار العمل لعمّاله وللاقتداء به عليه السّلام:

1) الاكتفاء من رياش الدّنيا ولباسها وزينتها بطمرَين، أي ثوبين باليَين؛ إزار ورداء.

2) الاكتفاء من طعامها وغذائها ولذائذها بقرصَين من خبز الشّعير اليابس الفارغ عن الإدام. وقد مثّل عليه السّلام في هاتين الكلمتين الزّهد بأدقّ معانيه وأشقّ ما فيه، بحيث جعله من كراماته وأنّه ممّا لا يقدر على العمل به غيره، فقال عليه السّلام: (ألا وإنّكم لا تَقدِرونَ على ذلك).

ثمّ نظّم برنامجاً تربويّاً لعمّاله ومَن يتصدّى إدارة أمور حكومته، في أربع موادّ:

1) الوَرَع: وهو تحصُّن النّفس عن الرّذائل، والاجتناب عن المحارم والمحرّمات.

2) الاجتهاد في تحرّي الحقيقة والعمل على مقتضى الوظيفة، وتحمّل الكدّ والأذى في سبيل الحقّ.

3) العفّة: وهي ضبط النّفس عمّا لا يحلّ ولا ينبغي من المشتهيات، وما فيها من الرّغبات.

4) السّداد: وهو تحكيم المعرفة بالأمور، والأخذ باليقين، وتحكيم العمل، والدّقة في تقرير شرايطه وكيفيّاته، وعدم التّسامح فيه.

.. كَيومٍ حانَ انسلاخُه

لقد كتب أمير المؤمنين عليه السّلام هذا الكتاب إلى أحد عمّاله في ناحية كبيرة من دار حكومته الواسعة، وهو في إبّان قدرته وعلى عرش حكومته الإسلاميّة الَّتي حازها بحقّ، فينبغي أن يتوجّه إليها ويطمئنّ بها. ولكنّه توجّه إليها بلحاظ أنّها مظهر من مظاهر الدّنيا الغرّارة الفتّانة، يكاد يُغلَب على الحاكم أو الوالي المفتون بها وبزينتها وعواملها الخلَّابة؛ من توجّه عموم النّاس إلى بابه، ومن انقياد الأمراء والحكَّام إلى جنابه، ومن ورود سيل الخراج والأموال والغنائم من شتّى نواحي البلاد الإسلاميّة تحت يده.

فمَن هو الرّجل الَّذي لا يُغرّ بهذه المظاهر الفتّانة الدّنيويّة، ويقدر على ضبط نفسه عن التّأثّر بها والافتتان منها؟ فكان، عليه السّلام، يلقّن بهذه الجمل النّافذة كُرهَ الدّنيا وكيدها وغرورها وعواقبها على قلوب أعوانه وحكَّامه، ويطرد الدّنيا عن حوله وعن فنائه بقوله عليه السّلام: (إليكِ عنّي يا دنيا) فأنت مطلَّقة عنّي لا سبيل لك إليّ، ويهدّدها أشدّ التّهديد بأنّها لو كانت جسماً محسوساً كالواحد من البشر، لكان أقام عليها الحدّ، وعرّضها للمجازات بما ارتكبته من الخلاف في حقّ ذويها:

1) بجرم التّغرير وإراءة ما لا واقع له لطلَّابها، فكانت مدلِّسة يتوجّه إليها مجازات التّدليس.

2) التّسبيب إلى الهلاك والتّلَف لأبنائها وجرّهم إلى موارد البلاء والدّمار. ثمّ بيّن أنّه لا نجاة لمن اغترّ بها وصار في طلبها، فليس لها إلَّا مزالق هائلة ولُجج مهلِكة، فمَن سلم عنها فهو على طريق النّجاة، وإنْ ضاق عليه أمر الدّنيا، فإنّ الدّنيا لمحة يسيرة تنصرم عاجلاً ويفوز المؤمن السّالم فيها من مكائدها إلى الفوز الأبديّ والراحة الطويلة.

ثمّ يبيّن عليه السّلام سيرته في معيشة الدّنيا مقروناً بالحلف بالله تعالى في التّمسّك بالرّياضة وتقليل الطّعام، إلى حيث تفرح نفسه بأكل قرص من الشّعير لسدّ جوعتها، وتقنع بالملح للإدام، ومع ذلك يبكي من خشية الله وموقف الحساب إلى حيث تنضب عينُه من الدّموع، وأشار صلوات الله عليه إلى أنّ النّفس الإنسانيّة أشرف من الاقتداء بالبهائم من الإبل والبقر والغنم في الأكل وطلب الرّاحة، فلا بدّ من حفظ الامتياز، وهو ملازمة الجوع، والخوف من الله، والعبادة في جوف اللّيل، والهَمْهَمة بذكر الله بالشّفاه، وغَسل الذّنوب بالاستغفار في باب الله.

                        (بتصرّف)

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

20/04/2015

دوريات

نفحات