فكر و نظر

فكر و نظر

31/08/2016

عقيدتُنا في الدعاء


انقطاعٌ إلى الله على وجه العبادة

عقيدتُنا في الدعاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــ العلامة الشيخ محمد رضا المظفّر رحمه الله ـــــــــــــــــــــــــــــــ


قال الشيخ الطوسي قدّس سرّه في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ..﴾ أنه دعاءٌ للطلب والانقطاع إلى الله تعالى على وجه العبادة، فكأنّه سبحانه يقول: «إنما خلقتُكم لتعبدوني وتنقطعوا إلى دعائي ومسألتي»، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.

هذه المقالة حول عقيدة المسلمين الشيعة في الدعاء، نوردها مختصرة نقلاً عن كتاب (عقائد الإمامية) للعلامة الراحل الشيخ محمد رضا المظفّر.

 

قال النُّبيّ صلّى الله عليه وآله: «الدُّعاءُ سِلاحُ المُؤْمِنِ، وَعَمودُ الدّينِ، وَنورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ»، وكذلك هو، وقد أصبح من خصائص الشيعة التي امتازوا بها، وقد ألّفوا في فضله وآدابه وفي الأدعية المأثورة عن آل البيت عليهم السلام ما يبلغ عشرات الكتب من مُطَوّلة ومُختصرة. وقد أُودع في هذه الكتب ما كان يهدف إليه النبيّ وآل بيته صلّى الله عليهم أجمعين من الحثّ على الدعاء والترغيب فيه. حتى جاء عنهم: «أَفْضَلُ العِبادَةِ الدُّعاءُ». و«أَحَبُّ الأَعْمالِ إِلَى اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، في الأَرْضِ الدُّعاءُ»، بل ورد عنهم عليهم السلام: «إِنَّ الدُّعاءَ يَرُدُّ القَضاءَ وَالبَلاءَ»، و«أَنَّهُ شِفاءٌ مِنْ كُلِّ داءٍ».

وقد ورد أنَّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه كان رجلاً (دَعّاءً)، أي كثير الدُّعاء. كيف لا وهو سيّد المُوَحِّدين وإمام الإلهيّين. وقد جاءت أدعيته كخُطَبه آيةً من آيات البلاغة العربيّة، كـ«دعاء كُميل بن زياد» المشهور، وقد تضمّنت من المعارف الإلهيّة والتوجيهات الدينيّة ما يصلح أن تكون منهجاً رفيعاً للمسلم الصحيح.

وفي الحقيقة إنّ الأدعية الواردة عن النبيّ وآل بيته عليهم الصلاة والسلام خيرُ منهجٍ للمسلم، إذا تدبّرها تبعث في نفسه قوّة الإيمان والعقيدة وروح التضحية في سبيل الحقّ، وتعرّفه سرّ العبادة، ولذّة مناجاة الله تعالى والانقطاع إليه، وتُلقّنه ما يجب على الانسان أن يعلمه عن دينه وما يقرّبه إلى الله تعالى زُلفى، ويُبعده عن المفاسد والأهواء والبِدع الباطلة.

وبالاختصار، إنّ هذه الأدعية قد أُودعت فيها خلاصة المعارف الدينية من الناحية الخُلقية والتهذيبية للنفوس، ومن ناحية العقيدة الإسلامية، بل هي من أهمّ مصادر الآراء الفلسفية والمباحث العلمية في الإلهيات والأخلاقيات.

ولو استطاع الناس - وما كلهم بمستطيعين - أن يهتدوا بهذا الهدى الذي تثيره هذه الأدعية في مضامينها العالية، لما كنتَ تجد من هذه المفاسد المثقلة بها الأرضُ أثراً، ولحَلَّقَت هذه النفوس المُكبّلة بالشرور في سماء الحقّ حرّةً طليقة، ولكن أنّى للبشر أن يُصغوا إلى كلمة المصلحين والدعاة إلى الحقّ، وقد كشف عنهم قوله تعالى: ﴿..إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ..﴾، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.

وهذه الأدعية المأثورة، التي تستمدّ من منبع الوحي، تجاهد أن تحمل الإنسان على الاختلاء بنفسه والتجرّد إلى الله تعالى، لتلقّنه الاعتراف بالخطأ وأنّه المذنب الذي يجب عليه الانقطاع إلى الله، تعالى، لطلب التوبة والمغفرة، ولتلمّسه مواقع الغرور والاجترام في نفسه.

ولو تمّ ذلك للإنسان، فله شأنٌ كبير في تخفيف غلواء نفسه الشريرة وترويضها على طلب الخير. ومن يريد تهذيب نفسه، لا بدّ أن يصنع لها هذه الخلوة والتفكير فيها بحرّيّةٍ لمحاسبتها، وخيرُ طريقٍ لهذه الخلوة والمحاسبة أن يواظب على قراءة هذه الأدعية المأثورة التي تصل بمضامينها إلى أغوار النفس، مثل أن يقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي رضوان الله تعالى عليه: «أي رَبِّ! جَلِّلْني بِسِتْرِكَ، وَاعْفُ عَنْ تَوْبيخي بِكَرَمِ وَجْهِكَ!»

فتأمل كلمة «جَلِّلْني..» فَإِنَّ فيها ما يُثير في النفس رغبتها في كتم ما تنطوي عليه من المساوئ، ليتنبَّه الإنسان إلى هذه الدخيلة فيها، ويستدرجه للاعتراف بذلك حين يقرأ بعد ذلك: «فَلَوِ اطَّلَعَ اليَوْمَ عَلَى ذَنْبي غَيْرُكَ ما فَعَلْتُهُ، وَلَوْ خِفْتُ تَعْجيلَ العَقوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ».

وهذا الاعتراف بدخيلة النفس وانتباهه إلى الحرص على كتمان ما عنده من المساوئ يستثيران الرغبة في طلب العفو والمغفرة من الله، تعالى، لئلّا يفتضح عند الناس لو أراد الله أن يعاقبه في الدنيا أو الآخرة على أفعاله، فيلتذّ الإنسان ساعتئذٍ بمناجاة السرّ، وينقطع إلى الله، تعالى، ويحمده أنّه حلم عنه وعفا عنه بعد المقدرة فلم يفضحه، إذ يقول في الدعاء بعد ما تقدم: «فَلَكَ الحَمْدُ عَلى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَعَلى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ».

ثمّ يوحي الدعاء إلى النفس سبيل الاعتذار عما فرَط منها على أساس ذلك الحِلم والعفو منه، تعالى، لئلّا تنقطع الصِّلةُ بين العبد وربّه، ولتلقين العبد أنّ عصيانه ليس لنكران الله واستهانةً بأوامره إذ يقول: «وَيَحْمِلُنِي وَيُجَرِّئُنِي عَلى مَعْصِيَتِكَ حِلْمُكَ عَنِّي، وَيَدْعُونِي إِلى قِلَّةِ الحَياءِ سِتْرُكَ عَلَيَّ، وَيُسْرِعُنِي إِلى التَّوَثُّبِ عَلى مَحارِمِكَ مَعْرِفَتِي بِسَعَةِ رَحْمَتِكَ وَعَظِيمِ عَفْوِكَ».

وعلى أمثال هذا النمط تنهج الأدعية في مناجاة السّرّ لتهذيب النفس وترويضها على الطاعات وتَرْك المعاصي. ولا تسمح الرسالة هذه بتكثير النماذج من هذا النوع. وما أكثرها.

ويعجبني أن أُورد بعض النماذج من الأدعية الواردة بأسلوب الاحتجاج مع الله تعالى لطلب العفو والمغفرة، مثل ما تقرأ في دعاء «كميل بن زياد»: «وَلَيْتَ شِعْرِي يا سَيِّدِي وَإِلهِي وَمَوْلايَ! أَتُسَلِّطُ النّارَ عَلى وُجُوهٍ خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً، وَعَلى أَلْسُنٍ نَطَقَتْ بِتَوْحِيدِكَ صادِقَةً وَبُشُكْرِكَ مادِحَةً، وَعَلى قُلُوبٍ اعْتَرَفَتْ بِإِلهِيَّتِكَ مُحَقِّقَةً، وَعَلَى ضَمائِرَ حَوَتْ مِنَ العِلْمِ بِكَ حَتّى صارَتْ خاشِعَةً، وَعَلى جَوارِحَ سَعَتْ إِلى أَوْطانِ تَعَبُّدِكَ طائِعَةً، وَأَشارَتْ باِسْتِغْفارِكَ مُذْعِنَةً؟! ما هكَذا الظَنُّ بِكَ وَلا أُخْبِرْنا بِفَضْلِكَ عَنْكَ يا كَرِيمُ».

كرّر قراءة هذه الفقرات، وتأمّل في لطف هذا الاحتجاج وبلاغته وسحر بيانه، فهو في الوقت الذي يُوحي للنفس الاعترافَ بتقصيرها وعبوديّتها، يلقّنها عدم اليأس من رحمة الله تعالى وكرمه، ثمّ يكلّم النفس، ومن طرفٍ خفيّ لتلقينها واجباتها العليا، إذ يفرض فيها أنّها قد قامت بهذه الواجبات كاملة، ثمّ يعلّمها أنّ الإنسان بعمل هذه الواجبات يستحقّ التفضّل من الله بالمغفرة، وهذا ما يشوّق المرء إلى أن يرجع إلى نفسه فيعمل ما يجب أن يعمله إن كان لم يؤدِّ تلك الواجبات.

ثمّ تقرأ أسلوباً آخر من الاحتجاج من نفس الدعاء: «فَهَبْنِي يا إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي، صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ؟ وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلى كَرامَتِكَ؟».

وهذا تلقينٌ للنفس بضرورة الالتذاذ بقُرب الله تعالى ومشاهدة كرامته وقدرته، حبّاً له وشوقاً إلى ما عنده، وبأنَّ هذا الالتذاذ ينبغي أن يبلغ من الدرجة على وجهٍ يكون تأثير تركِه على النفس أعظم من العذاب وحرّ النار، فلو فرض أنّ الإنسان تمكّن من أن يصبر على حرّ النار فإنّه لا يتمكّن من الصبر على هذا الترك، كما تُفهمنا هذه الفقرات أنّ هذا الحبّ والالتذاذ بالقرب من المحبوب المعبود خيرُ شفيعٍ للمذنب عند الله لِئن يعفو ويصفح عنه. ولا يخفى لطفُ هذا النوع من التملّق إلى الكريم الحليم قابل التوب وغافر الذنب.

وإنّي لمُوصٍ إخواني القرّاء ألّا تفوتهم الاستفادة من تلاوة هذه الأدعية، بشرط التدبّر في معانيها ومراميها وإحضار القلب والإقبال والتوجّه إلى الله بخشوعٍ وخضوع، وقراءتها كأنّها من إنشائه للتعبير بها عن نفسه، مع اتّباع الآداب التي ذُكرت لها من طريق آل البيت عليهم السلام، فإنّ قراءتها بلا توجّهٍ من القلب صرفُ لقلقةٍ في اللسان، لا تزيد الإنسان معرفةً، ولا تقرّبه زُلفى، ولا تكشف له مكروباً، ولا يستجاب معها له دعاء.

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

31/08/2016

دوريات

نفحات