طريق «موكب السبايا»

طريق «موكب السبايا»

25/12/2011

مشاهدُ حسينيّة بين كربلاء والشّام

طريق «موكب السبايا»
مشاهدُ حسينيّة بين كربلاء والشّام


ـــــ تحقيق: أحمد الحسيني ـــــ

قال العلّامة ابن شهراشوب المازندراني في (مناقب آل أبي طالب): «ومن مناقبه -أي الإمام الحسين عليه السلام- ما ظهرَ من المشاهد التي يُقال لها مشهد الرّأس [وغير ذلك من التسميات] من كربلاء إلى عسقلان، وما بينهما في الموصل ونَصيبين وحماه وحمص ودمشق وغير ذلك».
يتناول هذا التحقيق، التعريفَ بمشاهدَ شُيّدت في مواقعَ نزل فيها موكب سبايا آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، في طريقه من كربلاء إلى الكوفة (موقع واحد)، ومن ثمّ في الطريق من الكوفة إلى دمشق الشام ضمناً (ثمانية مواقع)، مع الإشارة إلى المشهد المشيّد في مدينة عسقلان في فلسطين. تلي ذلك، وقفة موجزة مع كيفيّة دخول الموكب النبويّ إلى الشام.
وقد اعتُمد في إعداد هذا التحقيق -حصراً- على كتاب (نفَس المهموم في مصيبة سيّدنا الحسين المظلوم) للمحدّث الشيخ عبّاس القمّي قدّس سرّه، وعلى كتاب (موكب الأحزان: خريطة الطريق) للشيخ الدكتور جعفر المهاجر، الصادر سنة 2011 م، والذي يتناول المشاهد المشيّدة ما بين كربلاء والشام.


بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام في العاشر من المحرّم سنة 61 للهجرة (يوم الجمعة 9 تشرين أوّل 680 م) بقِي عمر بن سعد مع جيشه في كربلاء إلى الزّوال من اليوم الحادي عشر، ثمّ أمر بالخروج إلى الكوفة ومعه السبايا من نساء أهل البيت خاصّة، إذ أنّ القبائل والعشائر عملت على استنقاذ نسائها اللّواتي كنّ في عداد الرّكب الحسيني.
قال المحدّث الشيخ عباس القمّي قدّس سرّه في كتابه (نفَس المهموم): «ثمّ رحل [ابن سعد] بمَن تخلّف من عيال الحسين عليه السلام، وحمل نساءه صلوات الله عليه على أحلاس أقتاب الجمال بغير وِطاء، مكشّفات الوجوه بين الأعداء وهنّ ودائع الأنبياء، وساقوهنّ كما يُساق سبيُ الترك والروم في أشد المصائب والهموم.
وفي (كامل البهائي) للشيخ عماد الدين الطبري: أنّ حُرَمَ رسول الله كنّ عشرين نسوة، وكان لزين العابدين عليه السلام في ذلك اليوم اثنان وعشرون سنة، ولمحمد الباقر عليه السلام أربع، وكانا كلاهما في كربلاء فحفظهما الله تعالى».

وصل موكب السبايا إلى تخوم الكوفة ليل الثاني عشر من محرّم، فبات هناك، ولم يدخل المدينة، لِحِرْصِ عبيدالله بن زياد على أن يكون دخولهم إلى المدينة استعراضيّاً بالجُند والسلاح ومظاهر الزينة. والرّاجح أنّ الموضع الذي باتوا فيه هو الذي يُعرف اليوم «بمشهد الحنانة».

***

1- مشهد/ مسجد الحنانة: موقعه شمال شرق «النجف» على يسار الذاهب إلى «الكوفة». ومن الثابت أنّه كان قديماً عبارة عن «قائم»، أي نصب مبنيّ عموديّاً، في الموضع الذي أُودع فيه رأس الإمام الحسين عليه السلام قبل دخول موكب السبايا «الكوفة».
قال المحدّث القمّي في (نفس المهموم): وفي ظهر الكوفة عند «قائم» الغريّ مسجدٌ يُسمّى بالمسجد الحنانة، فيه يستحب زيارة الحسين عليه السلام، لأنّ رأسه عليه السلام وُضِع هناك.


قال المفيد والسيّد [ابن طاوس] والشهيد [الأوّل] في باب زيارة أمير المؤمنين صلوات الله عليه: فإذا بلغتَ العَلم -وهي الحنانة- فصلِّ هناك ركعتين. فقد روى محمد بن أبي عمير عن مفضل بن عمر قال: جازَ الصادق عليه السلام بالقائم المائل في طريق الغَريّ فصلّى ركعتين، فقِيل له: ما هذه الصلاة؟ فقال: هذا موضعُ رأس جدّي الحسين بن عليّ عليهما السلام، وضعوه هَهنا لمّا توجّهوا من كربلاء، ثمّ حملوه إلى عبيد الله بن زياد.

2- مشهد المُوصل: وهي مدينة في شمال «العراق» اليوم على شاطىء نهر دجلة. تبعد عن الكوفة زهاء 600 كلم. وكان فيها إلى القرن السابع للهجرة/ الثالث عشر للميلاد مشهدٌ يُسمّى «مشهد رأس الحسين»، «وكان [الرأس الشريف] به لمّا عبروا بالسبي» كما في (الإشارات) للهَروي.
قال في (نفَس المهموم): وأما مشهد الموصل ".." فإنّ القوم لمّا أرادوا أن يدخلوا الموصل أرسلوا إلى عامله أن يُهيّئ لهم الزاد والعلوفة وأن يزيّن لهم البلدة، فاتّفق أهل الموصل أن يهيّئوا لهم ما أرادوا وأن يستدعوا منهم أن لا يدخلوا البلدة، بل ينـزلون خارجها ويسيرون من غير أن يدخلوا فيها، فنـزلوا ظاهر البلد على فرسخٍ منها ووضعوا الرأس الشريف على صخرة، فقطرَت عليها قطرة دم من الرّأس المكرّم فصارت تنبع ويغلي منها الدم كلّ سنة في يوم عاشوراء، وكان الناس يجتمعون عندها من الأطراف ويُقيمون مراسم العزاء والمآتم في كلّ عاشوراء، وبقِي هذا إلى عبد الملك بن مروان فأمر بنقل الحجر فلم يُرَ بعد ذلك منه أثر، ولكن بنوا على ذلك المقام قبّة سمّوها مشهد النقطة.
وفي (الكامل البهائي): أنّ حاملي الرأس الشريف كانوا يخافون من قبائل العرب أن يخرجوا عليهم ويأخذوا الرّأس منهم،
فتركوا الطريق المعروف وأخذوا من غير الطريق لذلك، وكلّما وصلوا إلى قبيلةٍ طلبوا منهم العلوفة وقالوا معنا رأسُ خارجيّ.

3- مشاهد نَصيبين: وهي مدينة في «تركية اليوم»، على نهرٍ صغيرٍ بين نهرَي دجلة والفرات، يفصلُها عن مدينة «القامشلي» السوريّة خطّ الحدود، وفيها ثلاثة مشاهد:
أ‌- مسجد زين العابدين عليه السلام.
ب‌- مشهد الرّأس في أحد أسواقها، حيث عُلّق الرأس الشريف في طريق الموكب إلى الشام.
ت‌- مشهد النقطة، يُقال إنّه من دَم الرّأس هناك. قال في (نفَس المهموم): لمّا وصلوا إلى نَصيبين أمر منصور بنُ إلياس بتزيين البلدة، فزيّنوها بأكثر من ألف مرآة، فأراد الملعون الذي كان معه رأس الحسين عليه السلام أن يدخل البلد فلم يُطِعْه فرسه، فبدّله بفرس آخر فلم يُطِعه، وهكذا. فإذا بالرأس الشريف قد سقط إلى الأرض، فأخذه إبراهيم الموصلي فتأمل فيه فوجده رأس الحسين عليه السلام فلامهم ووبّخهم فقتله أهل الشام، ثمّ جعلوا الرأس في خارج البلد ولم يدخلوه به. قلت: ولعلّ مسقطَ الرأس الشريف صار مشهداً.

4- مشاهد بالس/ المسكنة: هي أوّل بلدٍ من بلدان «الشام» من جهة الغرب للقادم من «الجزيرة». كانت يوم نزل فيها موكب السبايا على شاطىء نهر الفرات، لكنّ مجرى النهر صار بعيداً عنها مع مرور الزمن، ثمّ غطّى أطلالَها بعد بناء السدّ الذي أنشأ «بحيرة الأسد»، والقرية المعروفة اليوم بالإسم نفسه قرية جديدة. أمّا ما بقي من القرية القديمة، فمَشهدان:
أ‌- «مشهد الطُّرح». أي الحمْل الذي طرحته أمّه قبل أوانه. فهذا مشهدٌ بُنيَ على المكان الذي دُفن فيه أحدُ الأجنّة.
ب‌- «مشهد الحجر. يقال إنّ رأس الحسين رضي الله عنه وُضع هناك عندما عبروا بالسّبي» كما في (الإشارات) للهَروي.
وكِلا المشهدين على الضفّة اليُمنى لـ «بحيرة الأسد»، على تلٍّ تحيط به مياه البحيرة من ثلاث جهات، يتوسّط مقبرة قديمة. ممّا يدلّ على أنّ الناس كانوا يدفنون موتاهم قُرب المشهد تبرّكاً به.

5- مشاهد «جبل جوشن»: هو مرتفعٌ صخريّ غرب «حلب» القديمة. كان خارجَ السّور يوم مرور الموكب، وغدا اليوم ضمن أحد أحياء المدينة المستحدَثة. وكان في الموقع -عند مرور موكب السبايا- ديرٌ يُسمّى «دير البيعتين» أو «دير مرّوثا»، ذكره الحموي في (معجم البلدان) وقال: «ذهبَ ذلك الدّير ".." وقد استجدّ في موضعِه الآن مشهد».
والظاهر أنّ واقعة تحوّل هذا الدير إلى مشهد هي أصل الرّوايات الكثيرة التي تقول إنّ الرّأس الشريف وُضع في بعض مراحل الطريق لدى راهبٍ في دير.
والموجود الآن في الموقع، المشهدُ المُسمّى «مشهد رأس الحسين»، لكنّ ابنَ أبي طيّ الحلبي وهو من مؤرّخي القرن السابع يتحدّث عن مشهدين، أحدهما «عامرٌ مسكون» وهو مشهد الرّأس نفسه، والثاني «إلى الخراب أقرب»، «هو المشهد المعروف بمشهد النقطة» قِبليّ المشهد الأوّل.
وفي المشهد القائم اليوم الصخرة التي وُضع عليها الرّأس الشريف، وكان عليها أثرٌ من دمه، فالظاهر أنّها ضُمّت إلى المشهد الأساسي بعد أن آل مشهد الصخرة أو «النقطة» إلى الخراب.

ويتحدّث الهَروي عن مشهدٍ ثالث في الموضع عينه هو «مشهدُ الدّكّة» فيقول: «وبها [حلب] غربيّ البلد مشهد الدّكّة. به قبر المُحسّن بن الحسين رضي الله عنه».
قال المحدّث القمّي: إعلم أنّ في قرب حلب مشهداً يُسمّى بمشهد السّقط على جبل جوشن ".." وهو جبل مطلّ على حلب في غربيّها ".." قال الحموي في (معجم البلدان): ".." جوشن جبل في غربي حلب ومنه يُحمل النحاس الأحمر وهو معدنه، ويُقال إنه بطلَ منذ عبر عليه سبي الحسين بن علي عليه السلام ونساؤه، وكانت زوجة الحسين عليه السلام حاملاً فأسقطت هناك فطلبت من الصنّاع في ذلك الجبل خبزاً وماءً فشتموها ومنعوها فَدَعَت عليهم، فمن الآن مَن عمل فيه لا يربح. وفي قِبليّ الجبل مشهدٌ يُعرف بمشهد السّقط ويُسمّى مشهد الدّكّة، والسقط يُسمّى محسن بن الحسين رضي الله عنه.
أضاف المحدّث القمّي أنّ في الموضع المذكور مقابر ومشاهد للشيعة، منها مقبرة ابن شهراشوب صاحب (المناقب)، ومقبرة أحمد بن منير العاملي المترجَم له في (أمل الآمل)، ثمّ تمثّل رضوان الله عليه بهذا البيت:

فانظُر إلى حظّ هذا الاسم كيف         لقِي من الأواخر ما لاقى من الأوّلِ.

6- مشهد حماه: وفيها مشهد للرأس أيضاً، في حيٍّ من أحياء المدينة، بالقرب من قلعتِها. والمُلاحَظ أنّ هذا أوّل مشهدٍ داخل تجمّع سكّاني كبير بحجم مدينةٍ في ذلك الأوان. الأمر الذي كان قادة الرّكب يتجنّبونه، خشيةَ اتّصال النّاس ببعض مَن كان في الرّكب، ممّا قد يترتّب عليه معرفة الهويّة الحقيقيّة لأصحاب الرّؤوس وللسبايا.
والذي يبدو أنّ العلّة في هذه الخصوصيّة هي وجود القلعة، التي يبدو أنّ قادة الرّكب نزلوها بمن معهم من نسوة أهل البيت عليهم السلام، بحيث لم يكونوا مضطرّين إلى نزول مكانٍ منعزل، لأنّ نزولهم داخل القلعة يمنع اتّصال الناس بهم.
إنّ أوّل ذكرٍ لهذا المشهد نجده لدى ابن شهرآشوب المازندراني صاحب (المناقب) والذي عاش السنوات الأخيرة من عمره في «حلب»، وفيها دُفن كما مرّ في كلام المحدّث القمّي.
والمشهد اليوم غدا مسجداً اسمُه «مسجد الحسنين»، وذلك بعد أن جدّده محمود بن زنكي، ونزع عنه صفة المشهد -فُعِلَ نظيرُه بمشهدِ بعلبك- وسُجّل ذلك [التجديد] على رَقيم حجري في المدخل الخارجي.
ومع ذلك فإنّ هذا التزييف لصِفة المشهد الأساسيّة لم يؤدِّ إلى نسيانها، فبعد ستة قرون من تجديد ابن زنكي له جُدّد أيضاً على يد أحد رجال الدولة العثمانيّة، الذي سجّل رقيماً آخر على المدخل نفسه، قال فيه:
«جدّدَ المشهدَ الشهيرَ برأس الحسين ".." أحمد آغا المعروف بابن الشّرابدار ".." 1023 هـ».

كما وردَ ذكرُه بالصّفة نفسها في قصيدة نوري باشا الكيلاني على التُّرب والقامات الموجودة في «حماة»، ومطلعُها:
دارُ السعادة هذه وحماها   فالدارُ أينَ غدتْ وأينَ حماها
إلى أن يقول:

وبتاجِ فخري مَن له ختم العبا  مَن جدُّه أسنى الخلائق جاها
أعني الحسينَ وذاك موضعُ رأسِه لمّا به قصدوا يزيدَ سفاها
قسماً لحتّى الآن مسكٌ عابقٌ بمكانِه فينا يُؤجّج آها


             

وفي (نفَس المهموم): في بعض الكتب [رياض الأحزان للمولى حسن القزويني] نقلاً عن بعض أرباب المقاتل أنّه قال: لمّا سافرتُ إلى الحجّ فوصلتُ إلى حماه رأيت بين بساتينها مسجداً يُسمّى مسجد الحسين عليه السلام. قال: فدخلتُ المسجد فرأيت في بعض عماراته سِتراً مسبلاً من جدار، فرفعتُه ورأيت حجراً منصوباً في جدار، وكان الحجر مؤرّباً فيه موضعُ عنقِ رأسٍ أثّر فيه، وكان عليه دمٌ متجمّد، فسألت من بعض خدّام المسجد ما هذا الحجر والأثر والدّم؟ فقال لي: هذا الحَجر موضع رأس الحسين عليه السلام، وضعَه القوم الذين ساروا به إلى دمشق، إلخ.

7- مشهد حمص: أوّل من أشار إلى وجود مشهد للإمام الحسين عليه السلام فيها هو ابن شهرآشوب المازندراني أيضاً. مكان المشهد اليوم في شارع أبي الهول بالمدينة القديمة. عُرف لمدّة بـ «الزاوية الحسنويّة»، وهو عبارة عن قطعة أرض موقوفة.
والأمر الذي كان معروفاً بين أهل المدينة حتّى وقتٍ غير بعيد أنّ الزاوية الحسنويّة كانت مِن قبلُ مشهداً للإمام الحسين عليه السلام، ثمّ عُرف المكان باسم «جامع عليّ والحسين»، ثمّ جُعل زاوية، وانتهى قطعة أرضٍ بور، محميّةٍ لما لها من صفة وقفيّة.
ويجدر هنا الإلفات إلى التغيّرات الجذريّة التي نزلت بالمدينة بعد أن حال أمرُ التشيُّع في شمال ووسط «سوريا» ومنها «حمص»، على يد العناصر العسكريّة القادمة من أطراف العالم الإسلامي، على موجة جهاد الصليبيّين. وكان من آثاره أن بدّل صفة الكثير من معالمها. وهذا منها.

8- مشهد بعلبك: وفيها مسجدٌ قديم خرِب، موقعه إلى جانب البركة المتكوّنة من نبع «رأس العين» المعروف. وما بقي منه يدلّ على ما كان عليه في الماضي من عَظَمة وجلال.
والمتداول بين أهل المدينة أنّ أصلَه مشهدٌ أُنشىء في المكان الذي نزله موكب السبايا القادم من «حمص» في طريقه إلى «دمشق». ومن الثابت المؤكّد أنّ الرّكب مرّ بـ «بعلبك» ونزلها، وأنّ أهل المدينة المضلّلين استقبلوه بمظاهر الزّينة والفرح. والمكان يتوفّر فيه الشّرط الذي يطلبه قادة الرّكب بكونه بعيداً عن البلد بحيث يمتنع أو يصعب على أهلها الاتّصال بالسبايا، وبالتالي معرفة هويّتهم الحقيقية.


الإسم المتداول على ألسِنة الناس لهذا المكان هو «مسجد/ مشهد رأس الإمام الحسين عليه السلام» ولكنّ الإسم المدوّن في سجلّات مديريّة الآثار اللبنانيّة هو «مسجد الظاهر بيبرس»، نسبةً إلى الظاهر بيبرس المملوكي البندقداري (حكم: 658 – 676 هـ).
لكن الذي يؤخذ من الأدلّة والوثائق أنّ بيبرس هذا لا شأن له ببناء المشهد من قريب أو بعيد، وإنّما جرى تجديده بأمرٍ منه، يؤيّد ذلك المؤرّخ المعاصر عزّ الدين بن شدّاد (ت: 684 هـ) في الجزء الثاني من كتابه (الأعلاق الخطيرة).
ويُستفاد من نصَّي رقيمَين أحدهما موجود حتّى اليوم على بعض جدران المسجد، والآخر منقول نقلاً موثّقاً أنّ أعمال التجديد الأولى بدأت في العام نفسه الذي مات فيه بيبرس، ومن ثمّ تابعها ابنه الملك السعيد، غايتهما من ذلك كلّه نزع صفة المشهديّة الأصليّة من خلال إضافة المحراب الذي يشهدُ بروزُه عن جسم البناء أنّه مضافٌ على هندستِه الأصليّة. وكذا المنبر الذي ما يزال أساسُه ظاهراً إلى يمين المحراب.
إلّا أنّ الملاحظة الأبرز هي انعدام أثر المئذنة في خرائب هذا المسجد، مع أنّ جسمها من الأجزاء الأساسيّة في أيّ مسجد، كما أنّ أساسها تكون أمتن وأوثق بنياناً، وبالتالي أقدر على مقاومة عوامل الخراب المختلفة، لأنّها تحمل ثقلاً هائلاً على مساحةٍ ضيّقة نسبيّاً. فعدمُ وجود أيّ أثر لمئذنة دليل على أنها لم تكن أصلاً.
فهذه أدلّةٌ على صحّة الإسم المتداول على ألسنة الناس وهو «مسجد/ مشهد رأس الحسين عليه السلام». يُضاف إلى هذه الأدلّة أنّه من المستبعد جدّاً ومن غير المألوف أن يُشاد مسجدٌ خارجَ البلد، كان يبعد عن سورها الجنوبيّ مسافة كيلو متر تقريباً.
هذا، ولقد انبعثت الهِمم قبل عدّة سنوات إلى تجديد بنائه، والأمل بعون الله تعالى في زوال العقبات التي تحول دون ذلك.

9- مَشهدا دمشق:
1- «مشهد الرأس» وهو في بناءٍ مستقلّ، ملاصقٍ للجامع الأموي من شرقيّه، وقد بُني مؤخّراً بناءً متقناً وزُيّن من الداخل بهندسة إسلاميّة جميلة، وهو اليوم من المزارات المعروفة المقصودة. ذكرَه ابن عساكر في (تاريخ دمشق)، قال: «يُقال إنّ رأس الحسين بن عليّ عليه السلام وُضع به حين أُتي به إلى دمشق»، وذكره الهرَوي في (الإشارات) وسمّاه «مشهد الحسين وزين العابدين» فزاوجَ بينه وبين المشهد الآتي ذكرُه.
2- «مشهد زين العابدين» ومكانه ما بين المسجد الأموي و«مشهد الرّأس»، وله ذكرٌ عريض في تواريخ «دمشق»، وقد يُسمّى في بعضها القليل «مشهد عليّ بن الحسين». والظاهر أنّ تخصيص المشهد باسمه عليه السلام لأنّه كان يُشاهد فيه وهو يُصلّي أو يجلس، أثناء المدّة التي قضاها في «دمشق»، فكان أن أطلق أهلُ المدينة اسمَه على المكان بعد أن غادرها. ودلالة ذلك تُدهِش المتأمّل، إذ أنّها تكشف عن مودّةٍ مضمرةٍ تجاه أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله في قلب عاصمة الأمويّين.



10- مشهد عسقلان: وأمّا «مشهدُ عسقلان» الذي ذكرَه ابنُ شهراشوب، فقد ورد ذِكرُه أيضاً في تاريخ ابن خلّكان، وأيّده ابن بطوطة فذكره في رحلتِه، وقال: «مسجد عظيم سامي العلوّ»، مشيراً إلى أنّ الرّأس الشريف دُفن فيه قبل نقله إلى القاهرة [على الرواية التي تقول بذلك]، وكذا قال الهرَوي في (الإشارات)، وأنّ الرأس الشريف نُقل إلى القاهرة عندما استولى الفرنجة على عسقلان سنة 549 للهجرة.


موكبُ السَّبي النبويّ في الشّام
قال الشيخ إبراهيم الكفعمي في (المصباح) والشيخ البهائي في (توضيح المقاصد) وغيرهما أنّ دخول السّبايا إلى دمشق كان في غرّة صفر، وفي (كامل البهائي) أنّه كان يوم الأربعاء السادس عشر من ربيع الأوّل سنة 61 للهجرة.
قال السيد ابن طاوس قدس سره في (اللّهوف): وسار القوم برأس الحسين عليه السلام والأُسراء من رجاله، فلمّا قربوا من دمشق دَنَت أمّ كلثوم من شمر وكان من جملتهم، فقالت له: لي إليك حاجة. فقال: ما حاجتك؟ قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النّظّارة [النظّارة: القوم ينظرون إلى الشيء]، وتقدَّمْ إليهم أن يُخرِجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحوّنا عنها، فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال. فَأَمَرَ في جواب سؤالها أن تُجعَل الرؤوس على الرّماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً، وسلك بهم بين النّظّارة على تلك الصّفة حتى أتى بهم باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السّبي.
وفي (أمالي) الصّدوق، أنّ الرأس الشريف نُصِب على باب مسجدِ دمشق.
وفي (الكامل البهائي) عن سهل بن سعد -أدرك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسمعَ حديثه، وكان في الشّام يومَ وصلها موكب السبايا فشاهدَ مظاهر الفرح- أنّه قال: واعجباً يُهدى رأس الحسين عليه السلام والناس يفرحون. [ثمّ قال]: من أيّ بابٍ يدخل؟ فأشاروا إلى بابٍ يُقال له باب السّاعات ".." [أضاف سهل]: ورأيت الرّؤوس على الرماح ويقدمهم رأسُ عبّاس بن عليّ عليهما السلام. ورأسُ الإمام عليه السلام كان وراءَ الرؤوس أمامَ المخدّرات، وللرّأس الشريف مهابةٌ عظيمة ويُشرق منه النور، بِلِحيةٍ مدوّرة قد خالطَها الشّيبُ وقد خُضبت بالوسمة، ".." مُتبسِماً إلى السّماء شاخصاً ببَصره إلى نحو الأُفُق، والرّيحُ تلعبُ بلحيتِه يميناً وشمالاً كأنّه أميرُ المؤمنين.


اخبار مرتبطة

  آلُ محمّد صلّى الله عليه وآله  بين الحُبِّ والنّصب

آلُ محمّد صلّى الله عليه وآله بين الحُبِّ والنّصب

  سببُ ازديادِ حُبِّ الدّنيا

سببُ ازديادِ حُبِّ الدّنيا

  دوريات

دوريات

25/12/2011

دوريات

نفحات