فكر ونظر

فكر ونظر

منذ يومين

التّعلُّم الإنسانيّ، والتّعلُّم الرّبانيّ


التّعلُّم الإنسانيّ، والتّعلُّم الرّبانيّ

عِلمُ المعصوم أسْمَى أنواع العلوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفقيه العارف السّيّد حيدر الآمليّ رحمه الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 تحت عنوان: «حصول العلم من طريقَين: التّعلُّم الإنساني والتّعلُّم الرّبّانيّ»، كتب الفقيه الجليل والفيلسوف الإلهيّ السّيّد حيدر بن عليّ الآمليّ (ت: 782 للهجرة) في تحليلٍ نوعيّ لهذَين الطريقَين من التّعلّم، مقدِّماً الأدلّة على مراتب العلم وأقسامه، منتهياً إلى أنّ علم المعصوم عليه السّلام هو أسمى أنواع العلوم.

كلامُه هذا، جاء في تفسيره المعروف باسم (المحيط الأعظم والبحر الخَضَمّ)، وقد اخترناه من الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

«شعائر»

 

اِعلم أنّ العلمَ الإنسانيّ يحصل من طريقَين: أحدهما التّعلُّم الإنسانيّ، والثّاني التّعلُّم الرّبّانيّ.

أمّا الطّريق الأوّل وهو التّعليم الإنسانيّ، فطريقٌ مشهور مسلوك محسوس يُقِرّ به جميع العقلاء، وهذا العلم يكون على وجهَين:

أحدهما: من الخارج وهو التّحصيل بالتّعلّم.

والآخر: من الدّاخل وهو التّحصيل بالتّفكّر.

والتّفكّر من الباطن بمنزلة التّعلُّم من الظّاهر.

فإنّ التّعلُّم هو استفادة الشّخص من الشّخص الجزئيّ. والتّفكّر هو استفادة الرّوح من النّفس الكلّيّ، والنّفس الكلّيّ أشدّ تأثيراً وأقوى تعليماً من جميع العلماء والعقلاء.

والعلوم مركوزة في أصل النّفوس بالقوّة كالبذر في الأرض، والجوهر في قعر البحر وفي قلب المعدن، والتّعلُّم هو طلب خروج ذلك الشّيء الّذي بالقوّة إلى الفعل، والتّعليم هو إخراجه من القوّة إلى الفعل، فنفسُ المتعلِّم تتعلَّم بنفس العالم وتتقرّب إليها بالنّسبة بها.

فالعالم بالإفادة كالزّارع، والمتعلِّم بالاستفادة كالأرض، والعلم الّذي بالقوّة كالبذر، والّذي بالفعل كالنّبات، وإذا كملت نفس المتعلِّم تكون كالشّجر المثمر وكالجوهر الظّاهر من قعر البحر.

وإذا ظهرت [غلبت] القوى البدنيّة على النّفس يحتاج المتعلِّم إلى زيادة التّعلُّم وطول المدّة، ويحتمل المشقّة والتّعب في طلب الفائدة، وإذا غلب (ظهر) نور العقل على أوصاف الحسّ، يستغني الطالب بقليل الفكر عن كثرة التّعلُّم، فإنّ نفس العاقل تجد من الفوائد بتفكُّر ساعة ما لا تجد نفس الجاهل بتعلُّم سنة.

فبعض النّاس، إذاً، يحصّلون العلوم بالتّعلُّم وبعضهم بالتّفكُّر، والتّعلُّم يحتاج إلى التّفكُّر، فإنّ الإنسان لا يقدر أن يتعلَّم جميع الأشياء من الجزئيّات والكلّيّات وجميع العادات، بل يتعلَّم شيئاً ويَستخرج بالتّفكّر من العلوم شيئاً [آخَر]، وأكثر العلوم النّظريّة والصّنائع العمليّة استَخرجَتها نفوسُ الحكماء بصفاء ذهنهم، وقوّة فكرهم، وحدّة حَدسِهم، من غير زيادة تعلُّمٍ وتحصيل، ولولا أنْ يستخرج العالِمُ بالتّفكّر شيئاً من معلومه الأوّل لكان يطولُ الأمر على النّاس، ولمَا كانت تزول ظلمةُ الجهل عن القلوب، لأنّ النّفوس لا تقدر أن تتعلَّم جميع مهمّاتها الجزئيّة والكلّيّة بالتّعلُّم، بل بعضها تتعلَّمُه بالتّحصيل وبعضها تتعلَّمُه بالنّظر، كما ترى عادات النّاس في الأمور المستحسنة، وبعضها تستخرجه عن ضميره بصفاء الفكر.

وعلى هذا جرت عادة العلماء (وصارت) قاعدة العلوم، حتّى إنّ المهندس لا يتعلّم جميع ما يحتاجُ إليه في طول عمره، بل يتعلَّم كلّيّات علمِه وموضوعات فنّه، ثمّ بعد ذلك يَستخرج و...

وكذلك الطّبيب، لا يقدر أن يتعلَّم جزئيّات أدواء الأشخاص وأدويتهم، بل يتفكّر في معلوماته الكلّيّة ويعالج كلَّ شخصٍ بحسب مزاجه.

وكذلك المُنجّم، يتعلّم كلّيّات النّجوم، ثمّ يتفكّر ويحكم الأحكام المختلفة.

وكذلك الفقيه والأديب، وهكذا في بدائع الصّنائع، فواحدٌ وضع آلة الضّرب، وهو العود، بتفكّره، وآخَر استَخرج من تلك الآلة آلةً أخرى، وكذلك جميع الصّنائع البدنيّة والنّفسانيّة أوائلها مُحصَّلة من التّعلُّم، والبواقي مُستخرَجة بالتّفكّر، وإذا انفتح باب التّفكّر على النّفس، وعلمت كيفيّة طريقه وكيفيّة الرّجوع بالحدس إلى المطلوب، ينشرح قلبه [الضّمير عائد إلى صاحب النّفس] وتنفتح بصيرته، فيخرج ما في نفسه بالقوّة إلى الفعل من غير زيادة تعبٍ وطولِ نَصَب.

التّعلُّم الرّبانيّ بالوحي والإلهام

الطّريق الثّاني، وهو التّعلُّم الرّبّانيّ، وذلك على وجهَين:

الأوّل: إلقاء الوحي، وهو أنّ النّفس إذا كَملت ذاتُها، وزال عنها دَرَن الطّبيعة ودنَس الحرص والأمل والافتخار، وانفصل نظرُها عن شهوات الدّنيا، وانقَطَع نسبُها عن الأماني الفانية، أقبلَت بوجهها على بارئها ومُنشِئها، وتمسّكت بِجُود مُبدعِها، واعتَمَدت على إفادته وفيضِ نوره، فالله عزَّ وجلَّ بِحُسنِ عنايته يُقبِلُ على تلك النّفس إقبالاً كلّيّاً وينظر إليها نظراً إلهيّاً، ويتّخذ من تلك النّفس لوحاً، ومن النّفس الكلّيّ (العقل) قَلَماً، وينقش فيها جميع علومه، ويَصير العقلُ الكلّيّ كالمعلِّم، والنّفسُ القدسيّ كالمتعلِّم، فتحصل جميع العلوم لتلك النّفس، وتنقش فيها جميع الصُّور من غير تعلُّمٍ وتفكُّر، ومصداق هذا قول الله عزّ وجلّ لنبيِّه صلّى الله عليه وآله: ﴿..وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ النّساء:113.

فعِلمُ الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق، لأنّ محصوله عن الله تعالى بلا واسطةٍ، ووسيلةٍ، وبيان.

هذه الكلمة توجد في قصّة آدم عليه السّلام والملائكة؛ فإنّهم تعلَّموا طول عمرهم وحظوا بفنون الطّريق وكثير العلوم، حتّى صاروا أعلم المخلوقات وأعرف الموجودات، وآدم لمّا جاء ما كان عالماً، لأنّه ما تعلَّمه، [و] لأنّه ما رأى معلّما، فتفاخرت عليه الملائكة ".." وقالوا [لله تعالى]: ﴿..وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ..﴾ البقرة:30، ونعلم حقائق الأشياء، فرفع آدم إلى باب خالقه، وأخرج محبّته عن جملة المكوّنات وأقبل بالاستعانة على الرّبّ تعالى، فعلَّمه الأسماء كلّها، ثمّ عرضهم على الملائكة فقال: ﴿..أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ البقرة:31.

فصغر حالهم عند آدم وقلّ علمهم ".." فغرقوا في بحر العجز، وقالوا: ﴿..لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا..﴾ البقرة:32.

فقال تعالى: ﴿..يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ..﴾ البقرة:33، فأنبأهم آدم عن مكنونات العلم ومستترات الأمر.

فتقرّر الأمر عند العقلاء أنّ العلم العينيّ المتولِّد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المُكتَسَبة، وصار علمُ الوحي إرثَ الأنبياء وحقّ الرّسل عليهم السّلام، حتّى أَغلق الله سبحانه باب الوحي في حقّ [بعد] محمّد صلّى الله عليه وآله، فكان رسول الله خاتَم النّبيّين، وكان أعلم النّاس وأفصح العرب، وكان يقول: «أدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي»، وقال لقومه: «أنَا أَعْلَمُكُم بِاللهِ وأَخْشَاكُم مِن الله».

وإنّما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى لأنّه حصل من التّعلُّم الرّبّانيّ، وما اشتَغل قطّ بالتّعلُّم الإنسانيّ؛ فقال تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ النّجم:5-7.

معنى الإلهام والعِلم اللَّدنيّ

الوجه الثّاني: هو الإلهام، وهو تنبيه النّفس الكلّيّ للنّفس الجزئيّ الإنسانيّ على قدر صفاته، وقبوله، وقوّته، واستعداده.

والإلهام أثر الوحي، فإنّ الوحي تصريح [بـ] الأمر الغيبيّ، والإلهام تعريضه [بمعنى الإيحاء به]، والعِلم الحاصل من الوحي يُسمّى علماً نبويّاً، والّذي يتحصّل عن الإلهام يسمّى عِلماً لدنّيّاً.

والعلم اللّدُنّيّ هو الّذي لا واسطة في حصوله بين النّفس والباري تعالى، وإنّما هو كالضّوء في سراج الغَيب؛ يقع على قلبٍ صافٍ لطيفٍ فارغ، وذلك أنّ العلوم كلّها موجودة في جوهر النّفس الكلّيّ الأزليّ، الّذي هو من الجواهر المفارقة الأوّليّة المَحْضة، وهو بالنّسبة إلى العقل الأوّل كنسبة حوّاء إلى آدم، وقد تبيّن أنّ العقل الكلّيّ أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى الباري تعالى من النّفس، والنّفس الكلّيّ أعزّ وألطف وأشرف من سائر المخلوقات.

فمن إفاضة العقل الكلّيّ يتولَّد الوحي، ومن إشراف النّفس الكلّيّ يتولد الإلهام، والوحي حِلْيَة الأنبياء، والإلهام زينة الأولياء، وكما أنّ النّفس دون العقل، والوليّ دون النّبيّ، فكذلك الإلهام دون الوحي، فهو ضعيف بنسبة الوحي، قويّ بنسبة الرّؤيا، والعلم اللَّدنّيّ علم الأنبياء والأولياء، وأمّا علم الوحي فخاصّ بالرّسل، موقوفٌ عليهم، كما كان لآدم عليه السّلام، وإبراهيم، وموسى، ومحمّد، عليهم السّلام، وغيرهم من الرُّسل.

الفرق بين الرّسالة والنّبوّة

وفرقٌ بين الرّسالة والنّبوّة، فإنّ النّبوّة هي قبول النّفس القدسيّ حقائق المعلومات والمعقولات عن جوهر العقل الأوّل، والرّسالة تبليغ تلك المعلومات والمعقولات إلى المستفيدين والتّابعين، وإنّما يتّفق القبول لنفسٍ من النّفوس، ولا يتأتّى لها التّبليغ لِعذرٍ من الأعذار وسببٍ من الأسباب، والعلم اللَّدنّيّ يكون لأهل النّبوّة والولاية، كما حصل للخضر عليه السّلام حيث أخبر الله تعالى، فقال: ﴿..وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ الكهف:65.

وقال أمير المؤمنين عليه السّلام عن [العلوم التي خصّه بها رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولقّنه إيّاها] «.. فَانْفَتَحَ فِي قَلْبِي أَلفُ بابٍ مِنَ العِلْمِ، مع كُلِّ بابٍ ألفُ باب».

وقال أيضاً: «لَوْ ثُنِيَت لِي وسادةٌ لَجَلَسْتُ عَلَيْها، وَحَكَمْتُ لِأَهْلِ التَّوْراةِ بِتَوْراتِهِم، وَلِأَهْلِ الِإنْجِيلِ بِإنْجِيلِهِم، وَلِأَهْلِ الزَّبُورِ بِزَبُورِهِم، وَلِأَهْلِ الفُرْقَانِ بِفُرْقَانِهِم».

ظهور أسرار المكنونات

حين يَرتفعُ الحجاب بين نفس العبد والنّفس الكلّيّة، تظهر فيها [في الأولى] أسرارُ المكنونات، وهذه المرتبة لا تُنال بمجرّد التّعلُّم الإنسانيّ، بل يتمكّن المرءُ في هذه المرتبة بقوّة العلم اللَّدنّيّ، كذلك قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنَّهُ حُكِيَ عَنْ وَلِيِّ عَهْدِ مُوسى أَنَّهُ شَرَحَ كِتَابَهُ فِي أَرْبَعِينَ حِمْلاً، فَلَوْ يَأْذَنُ اللهُ لِي لِأَشْرَع فِي شَرْحِ مَعانِي أَلِفِ (الفاتحة)، حتّى يَبْلُغَ مِثْلَ ذَلِكَ، لَفَعَلْت».

يعني أربعين وِقراً، وهذه الكثرة والسّعة والانفتاح في العلم لا تكون إلَّا لدنّيّاً إلهيّاً سماويّاً.

فلو أراد اللهُ بعبدٍ خيراً رَفَعَ الحجابَ بين نفسه وبين النّفس الكلِّيّ الَّذي هو اللَّوح، فتظهر فيها أسرار المكنونات، وتنتقش فيها معاني تلك المكوّنات، فتعبّر النّفس عنها كما تشاء إلى مَن يشاء من عباده، وحقيقة الحكمة تُنال من العلم اللَّدنّيّ، وما لم تبلغ النّفس هذه المرتبة لا يكون حكيماً، لأنّ الحكمة من مواهب الله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ البقرة:269.

وأولوا الألباب هم الواصلون إلى مرتبة العلم اللَّدنّيّ، المستغنون عن التّحصيل وتعب التّعلُّم، فيتعلَّمون قليلاً ويعلمون كثيراً، ويتعبون قليلاً ويستريحون كثيراً.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

منذ يومين

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات