في آخر السّنة الثانية من عمر الحسين عليه السلام
أوّلُ مجلسِ عزاءٍ نبويٍّ عامّ؟
عندما اكتمل عمرُ الإمام الحسين سنتَين، أقام النّبيُّ صلّى الله عليه وآله ما يبدو أنّه أوّلُ مجلسِ عزاءٍ حسيني عامّ، كان المُعزَّى فيه هو المُعزِّي والقارىء، والمبلِّغ عن الله تعالى للأجيال. إنّه سيّدُ النبيين صلّى الله عليه وآله يتحدّث على المنبر عن شهادة سبطِه الإمام الحسين عليه السلام.
* ما يلي بحثٌ حول رواية هذا المجلس النبويّ التّأسيسي. |
يرتبط الحديث عن هذا المجلس بالحديث عن السّنوات الأولى من عمر الإمام الحسين عليه السلام، لأنّ الرّواية تصرّح بما يلي:" فلمّا أَتَتْ على الحسين من مولده سنتان كاملتان خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله في سفرٍ له ". وتعرض الرواية -وهي طويلة- حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله عن الحسين عليه السلام أثناء السفر مرّة، وعند رجوعه صلّى الله عليه وآله من هذا السّفر، إلّا أنّ الحديث هذه المرّة كان على المنبر!
ولعلّ هذا أقدم نصٍّ مرويّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله يتحدَّث عن الإمام الحسين عليه السلام، في الملأ العام و«على المنبر».
ولا يخفى أهميّة ذلك فإنّ من دلالاته -بالإضافة إلى ما تقدّمت الإشارة إليه من أنّ هذا الحديث النّبويّ على المنبر كان بمثابة أوّل مجلس عزاءٍ حسينيّ عام، والقارىء رسول الله صلّى الله عليه وآله- أنّ التأسيس النّبويّ لكربلاء، كان أقوى بكثيرٍ ممّا يتصوّره -لأوّل وهلة - مَن يتتبِّع الحديث الشّريف الخاصّ بالحسين عليه السلام، فضلاً عن الجهل المركّب الذي يغرق فيه المُنبهرون بالغزو الثّقافي والوهابيّة المكشوفة.
يدلّ بوضوح على ذلك -أي على غاية عناية الوحي والنّبوّة بهذا التّأسيس- هذه العناية الإلهيّة - النّبويّة مرّاتٍ متعدّدة وفي سياق سفرٍ واحد: قبل السّفر، وأثناءَه، وبعد الرّجوع منه. ولكن هذه المرّة على المنبر!
فإذا لاحظنا أنّ عمر الإمام الحسين عليه السلام كان سنتين، اتّضحَ أنّ باقي السّنوات من عمر سيّد النبيّين صلّى الله عليه وآله -بعد هذا السَّفر- كانت حافلةً بمثل هذا التحضير للأمّة والتّحذير لها ورسم طريقِ الأجيال في اتّباع أهل البيت عليهم السلام، وتوضيح أنّ قضيتَهم المركزيّة هي كربلاء الحسين وعاشوراؤه عليه السلام.
ما تقدّم يستدعي وقفاتٍ طويلة مع هذا النّصّ المتضمّن لهذه التّأكيدات النبويّة العامّة، كما يشتمل على تأكيداتٍ خاصّة في حديثه صلّى الله عليه وآله مع «أمّ الفضل».
وإنّما عبّرت عنه بالنّصّ -وليس بالرّواية أو الحديث- لكونه يتضمّن عدّة روايات جُمعت كلُّها في نصٍّ واحد.
وينبغي تقويم النَّصّ على ثلاثة مستويات:
الأول: المصادر التي تداولته.
الثاني: هل هو مسنَد؟ وما هي قيمة السند؟
الثالث: ما هي قيمة مضمون النّصِّ عموماً؟ هل يتطابق مضمون الرّوايات الواردة فيه مع الرّوايات المعتبرة، والثّوابت المُجمَع عليها؟
***
في المستوى الأول: المصادر التي تداولت هذا النّص |
* أورد هذا النَّص -في ما وجدتُه- من الأَقدمين:
1- إبنُ أَعثم (ت: 314 هجريّة)، أي في أوائل القرن الرّابع، في كتابه الشهير (الفتوح).
2- أورد الخوارزمي (ت: 568 هجريّة) في (مقتل الحسين عليه السلام: ص 236 - 241) شطراً كبيراً من هذا النّص، وقد رواه عن «ابن أعثم» فقال: «ذكرَ الإمام أحمدُ بنُ أعثم الكوفي في (تاريخه) بأسانيد له كثيرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله..».
3- كما أورده السيّد ابن طاوس (ت: 664 هجرية) في (اللّهوف).
4- ونقل بعضَه عن (اللّهوف) إبن نما الحلّي (ت: 645 هجريّة) في (ذوب النَّضار)..
في المستوى الأول: المصادر التي تداولت هذا النّص
1- المرجع الدّيني الكبير الرّاحل السيّد محمّد هادي الميلاني قدّس سرّه، في كتابه (قادتنا كيف نعرفهم) نقلاً عن «الخوارزمي».
2- العلّامة الرّاحل الشيخ الأميني قدّس سرّه في كتابه المختصَر القيّم الذي ألّفَه بعد موسوعة (الغدير) الشهيرة، واسمُ كتابه هذا (سيرتُنا وسنّتُنا سيرةُ نبيّنا وسنّته)، وقد نقلَه أيضاً عن «الخوارزمي».
3- المرجع الدّيني الرّاحل السيّد المرعشي قدّس سرّه في (شرح إحقاق الحقّ: ج 11، ص 411)، وقد نقله -كذلك- عن «الخوارزمي».
4- المحقّق الكبير العلّامة السيّد مرتضى العسكري قدّس سرّه في كتابه (معالم المدرستين). وهو بدوره ينقله أيضاً عن «الخوارزمي».
يتّضح ممّا تقدّم أنّ أقدمَ مصدرٍ -في ما وجدت- نقلَ هذه الرّوايات وجمعَها في نصٍّ واحد، هو كتاب (الفتوح) لابن أعثم، وعنه نقل الخوارزمي والسيّد ابن طاوس وغيرهما.
***
وفي المستوى الثّاني: هل هذا النّصّ مسنَد؟ وما هي قيمةُ السَّند، أو الأسانيد؟ |
وردَ هذا النّصُّ مسنداً بل هو -كما تقدّم عن الخوارزمي- متعدِّدَ الأسانيد، كما يلي:
تحت عنوان «ابتداء أخبار مقتَل مسلم بن عقيل والحسين بن عليّ وولده وشيعتِه من ورائه وأهل السنة وما ذكروا في ذلك من الاختلاف» -وهو العنوان الذي اختارَه لإيراد ما جرَت عادةُ مؤلّفي الموسوعات على إيراده باسم «مقتل الحسين عليه السلام»- قال ابنُ أعثم:
أ- حدّثني أبو الحسن أحمد بن الحسين النيسابوري، قال: حدّثني محمّد بن القاسم المديني، عن أبي حازم مولى ابنِ عبّاس، عن ابن عبّاس.
ب- قال: وحدّثني عليُّ بن عاصم، عن الحصين بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عبّاس.
ج- قال: وحدّثني أبو حاتم سهلُ بن محمّد الصّانع، قال: حدّثني نعيمُ بن مزاحم المنقري، عن محمّد بن عمرو بن واقد الواقدي، قال الواقدي: وحدّثني معاذ بنُ محمّد بن يعقوب بن عتبة القرشي، عن محمّد ابن الحنفيّة، أبو الوليد بن رزين، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: وحدّثني أبو عمر حفص بن محمّد، عن جعفر بن محمّد الصّادق، عن أبيه عن آبائه.
د- قال الواقدي أيضاً: وحدّثني محمّد بن عبيد الله بن عنبسة، عن محمّد بن عبيد الله، عن عمرو، عن أبيه، وعبد الله بن بجير السّهمي، عن سعيد بن قيس الهمذاني، ومحمّد بن خالد الهاشمي، عن يعقوب بن سليمان من بني عبد الله الأوسي، عن عبد الرّحمن بن المنذر من بني عديّ بن النّجار، عن العلاء بن يعقوب العجلاني.
هـ- وأبو المنذر هشام بن محمّد بن السّائب، عن أبي مخنف لوط بن يحيى بن سعيد الأزدي، عن الحسين بن كثير الأزدي، عن أبيه.
و- وأبو المنذر أيضاً، عن محمّد بن عوانة بن الحكم بن الهيثم بن عديّ، عن عبد الملك بن سليمان، عن أيوب بن بشير بن عبد الله المعافري، والهيثم بن عديّ، عن غالب بن عثمان الهمداني، عن عبد الله بن المعافى المعافري وعبد الرّحمن بن المنذر الأنصاري وعبد الواحد بن أبي عون وهبيرة ابن مريم.
ز- وعيسى بن دأب، عن رجاله.
ح- وأبو البختري عن رجاله، كلّهم قد حدّث بهذا الحديث، وبعضُهم [أوعى] له من بعض، وزيادتُه ونقصانه على مَن نقلَه إلينا وقرأَه علينا.
يتّضح أنّ أسانيد هذا النَّصّ، تبلغ ثمانية أسانيد، تتضمّن أسماءَ عددٍ من كبار المؤرِّخين الموثوقين كالواقدي، وأبي مِخنف، وابن هشام، وابن دأَب، وغيرهم.
سأكتفي هنا بالدّراسة العامّة لقيمة الأسانيد التي تقدّمت -مع ملاحظة المستوى الثّالث الآتي، وهو التّطابق مع رواياتٍ معتبرَة- فإنّ هذه الدّراسة العامّة يُمكنها أن توصلنا إلى درجةٍ من الإطمئنان تكفي عندما يكون مجالُ البحث هو التاريخ، حيث تختلفُ قيمة أسانيد البحث التاريخيّ عن الأبحاث الفقهيّة الشرعيّة كما هو المشهور.
في التّقويم العام للأسانيد: لا بدّ من ملاحظة ما يلي: |
1- أنّ «ابن أعثَم» المتّفَق على أنّه من أبرز قدامى المؤرّخين، يروي هذا النّصّ بسندَين متّصلَين إلى ابنِ عباس.
2- ويرويه عن «الواقدي» -الذي هو من شيوخ المؤرّخين الثّقاة- بسندَين من أسانيد الواقدي، ينتهي أحدُهما إلى الإمام الصّادق عن آبائه عليهم السلام.
3- كما يرويه عن «عيسى بن دأَب» عن رجاله.
4- ويرويه كذلك عن «أبي البختري» عن رجاله.
يسجَّل على النَّصّ و(الفتوح) ما يلي:
1- أنّ ابن أعثم أوردَ حشداً من الأسانيد ثمّ مزجَ بين متونها.
ويُمكن أن يجاب على هذا بقوله في آخر الأسانيد: «كلُّهم قد حدَّث بهذا الحديث، وبعضُهم {أوعى} له من بعض، وزيادتُه ونقصانُه على مَن نقلَه إلينا وقرأَه علينا». فهو يصرِّح بأنّ جميع هذه الأسانيد قد حدّثت بجميع هذا المتن، ولا اختلافَ بينها إلّا في التّفاصيل التي ترجعُ إلى درجة وعي الرّاوي لما يروي، ثمّ إنّه لم يزِد فيه ولم يُنقص منه. فإنْ كان مِن نقصٍ أو زيادة فهما مرتبطتان بدرجة هذا الوعي المتفاوت للرُّواة.
2- أنّ كتاب (الفتوح) المتداوَل مترجمٌ عن الفارسيّة كما جاء في مقدّمة المطبوع منه بتحقيق الأستاذ شيري، فلا يُمكننا الإعتماد على نصّه.
والجواب: أنّ الخوارزمي نقلَ عن الأصل العربيّ، وكذلك المجلسيّ في (البحار) والسيِّد ابن طاوس في (اللّهوف)، ويُمكن اعتماد نصوصِه التي نقلَها هؤلاء الأعلام وغيرُهم.
3- أنّ قسماً كبيراً من هذا النّص منقولٌ عن «كعب الأحبار» وفيه ما فيه!
والجواب: أولاً: لقد عرض الرّاوي كلامَ «كعب» على الصحابيّ الجليل سلمان الفارسيّ فأقرَّه، وفي ما صحَّ عن غير سلمان من الصّحابة رضي الله عنهم، ما يؤكّد بعضَ مضامين كلام «كعب» كما يأتي -بعد قليل- عن أبي ذر رضوان الله تعالى عليه.
***
وفي المستوى الثّالث: تطابق مضامين النَّصّ مع الثّوابت |
وهذا بيتُ القصيد، فعندما نأخذُ كلّ روايةٍ في النَّصّ ونبحثُ عنها نجد أنّها مستفيضة ومرويّة بأسانيد متعدّدة. ولن تواجه الباحث في هذا النَّصّ مشكلةٌ أغرب من رواية «كعب الأحبار» لمضامين غريبة، ومع ذلك فإنّ ما يهوّن الأمرَ فيها شيئان:
* الأوّل: عرْضُ الرّاوي كلامَ «كعب» على سلمان الفارسيّ، وإقرارُه له، كما تقدّم.
* الثّاني: ورودُ بعض أهمِّ مضامين كلام «كعب» في نصٍّ مرويٍّ عن أبي ذرّ رضوان الله تعالى عليه، وهو ما أوردَه «ابنُ قُولويه» في (كامل الزّيارات) حيث قال:
«حدّثني أبو الحسين محمّد بن عبد الله بن عليّ النّاقد، قال: حدّثني عبد الرّحمن الأسلمي، عن عبد الله بن الحسن، عن عروة بن الزّبير، قال: سمعتُ أبا ذرّ، وهو يومئذٍ قد أخرجَه عثمان إلى الرَّبذَة، فقال له النّاس: يا أبا ذرّ، أَبشِر، فهذا قليلٌ في الله تعالى، فقال: ما أيسرَ هذا، ولكن كيف أنتم إذا قُتِلَ الحسين بنُ عليٍّ عليهما السلام قتلاً -أو قال: ذَبْحاً- واللهِ لا يكونُ في الإسلام بعد قتلِ الخليفة أعظم قتيلاً منه، وإنّ اللهَ سيسلُّ سيفَه على هذه الأمّة لا يُغمدُه ابداً، ويبعثُ قائماً من ذرِّيِّته فينتقمُ من النّاس، وإنّكم لو تعلمون ما يدخلُ على أهل البحار وسكّان الجبال في الغِياض والآكام، وأهلِ السّماء من قتْله لَبَكَيْتُمْ واللهِ حتّى تزهقَ أنفسُكم. وما من سماءٍ يمرُّ به روح الحسين عليه السلام إلّا فزعَ له سبعون ألف ملَك، يقومون قياماً ترعدُ مفاصلُهم إلى يوم القيامة، وما من سحابةٍ تمرُّ وترعدُ وتبرق، إلّا لَعَنَتْ قاتلَه، وما من يومٍ إلّا وتُعرَضُ روحُه على رسول الله صلّى الله عليه وآله فيلتقيان». (جعفر بن محمّد بن قولويه، كامل الزيارات: ص 153 - 154)
***
المجلس النبويّ العامّ الأوّل، برواية ابن عباس، و«المسوّر بن مخرمة» |
يجب التنبّه جيّداً إلى أنّ الرّواية الواردة في النّصّ عن «كعب الأحبار» لا تشمل الحديث عن تعزية رسول الله صلّى الله عليه وآله الأمّةَ والأجيالَ بالحسين عليه السلام على المنبر، بل كلّ ما يتعلّق بهذا المجلس، وردَ برواية ابن عبّاس، و«المسوّر بن مخرمة» الذي يروي عنه «ابنُ أعثَم» بسندَين كما مرّ، وأختم بإيرادِ هذا القسم من النَّصّ حيث لا يتّسع المقام لإيراده كلّه.
O جاء في (فتوح) ابن أعثم: |
قال «المسوّر بن مخرمة»: «فلمّا أَتَتْ على الحسين من مولدِه سنتان كاملتان خرج النّبيُّ صلّى الله عليه وآله في سفرٍ له، فلمّا كان في بعض الطريق وقفَ فاسترجعَ ودمعتْ عيناه، فسُئل عن ذلك، فقال: هذا جبريلُ يُخبرني عن أرضٍ بشاطىءِ الفرات يُقال لها كربلا، يُقتَل بها ولدي الحسين ابنُ فاطمة، فقيل: مَن يقتلُه يا رسولَ الله؟ فقال: رجلٌ يُقال له يزيد، لا باركَ اللهُ له في نفسِه! وكأنّي أنظرُ إلى مصرعِه ومدفنِه بها، وقد أُهدي برأسِه، وَوَاللهِ ما ينظرُ أحدٌ إلى رأس ولدي الحسين فيفرح، إلّا خالفَ اللهُ بين قلبِه ولسانِه.
قال: ثمّ رجعَ النّبيُّ صلّى الله عليه وآله من سفره ذلك مغموماً، ثمّ صعد المنبر فخطبَ ووعظ، والحسينُ بن عليّ بين يدَيه مع الحسن، قال: فلمّا فرغَ من خطبتِه وضع يدَه اليُمنى على رأس الحسن، واليُسرى على رأس الحسين، ثمّ رفع رأسَه إلى السّماء فقال:
أللهمّ إنّي محمّدٌ عبدُك ونبيُّك، وهذان أطايبُ عترتي وخيارُ ذرّيتي وأرومتي، ومَن أخلفهم في أمّتي. أللّهمّ وقد أخبرني جبريلُ بأنّ ولدي هذا مقتولٌ مخذول. أللّهمّ، فبارك له في قتْلِه واجعله من سادات الشّهداء، إنّك على كلّ شيءٍ قدير، أللّهمّ ولا تبارك في قاتلِه وخاذلِه. قال: وضجَّ النّاسُ في المسجد بالبكاء، فقال النبيُّ صلّى الله عليه وآله: أَتَبْكُونَ ولا تَنصرونُه! أللّهمّ فكنْ أنت له وليّاً وناصراً».
ثمّ يعرض ابنُ أعثم مجريات هذا المجلس برواية ابن عباس، فيقول:
قال ابنُ عبّاس: «ثمّ رجعَ وهو متغيّر اللّون محمَرُّ الوجه، فخطبَ خطبةً بليغةً موجزة وعيناه يهملان دموعاً، ثمّ قال: أيّها النّاس. إنّي قد خلّفتُ فيكم الثَّقلَين؛ كتابَ الله وعترتي وأرومتي ومراح مماتي وثمرتي، ولن يفترقا حتّى يرِدا عليَّ الحوض، ألا وإنّي لا أسألُكم في ذلك إلّا ما أمرني ربّي؛ أن أسألَكم المودّة في القربى، فانظروا أنْ لا تلقوني غداً على الحوض وقد أبغضتُم عترتي وظلمتُموهم، ألا وإنّه سيرِدُ عليّ في القيامة ثلاثُ راياتٍ من هذه الأمّة؛ رايةٌ سوداء مظلمة قد فزعت لها الملائكة، فتقفُ عليّ فأقول: مَن أنتم؟ فينسون ذكري ويقولون: نحنُ أهل التّوحيد من العرب، فأقول: أنا أحمدُ نبيُّ العرب والعجم، فيقولون: نحن من أمّتك يا أحمد!
فأقول لهم: كيف خلّفتموني من بعدي في أهلي وعترتي وكتاب ربّي؟ فيقولون: أمّا الكتاب فضيّعنا ومزّقنا، وأما عترتك فحرصنا على أن نبيدَهم من
حديد الأرض، فأولي عنهم وجهي، فيصدرون ظماء عطاشى مسودّةً وجوهُهم.
ثمّ يَرِدُ عليَّ رايةٌ أخرى أشدُّ سواداً من الأولى، فأقولُ لهم: من أنتم؟ فيقولون -كما تقول الأولى إنّهم من أهل التّوحيد- نحن من أمّتك، فأقول لهم: كيف خلّفتموني في الثَّقلين الأصغر والأكبر، في كتاب الله وفي عترتي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فخالفنا، وأمّا الأصغر فخذَلْنا ومزَّقناهم كلَّ ممزّق، فأقول: إليكم عنّي! فيصدرون ظماء عطاشًى مسودّةً وجوهُهم. ثمّ يرِد عليَّ رايةٌ أخرى تلمعُ نوراً، فأقول لهم: مَن أنتم؟ فيقولون: نحن كلمةُ التّوحيد، نحن أمّة محمّد، ونحن بقيّة أهل الحقّ الذين حملْنا كتابَ ربِّنا، فَأَحْلَلنا حلالَه وحرَّمنا حرامَه، وأحبَبنا ذريَّةَ نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله فَنَصرناهم بما نصَرْنا به أنفسَنا، وقاتَلنا معهم وقَتَلْنا مَن ناواهم، فأقولُ لهم: أبشِروا! فأنا نبيُّكم محمّد، ولقد كنتم في دار الدّنيا كما وَصفتم. ثمّ أَسقيهم من حوضي فيصدرون مَرويِّين. ألا! وإنّ جبريلَ عليه السلام قد أخبرَني بأنّ أُمّتي تقتلُ ولدي الحسين بأرضِ كربٍ وبلاء. ألا! فَلعنةُ الله على قاتلِه وخاذلِه آخرَ الدّهر.
قال: ثمّ نزلَ [عن] المنبر، ولم يبقَ أحدٌ من المهاجرين والأنصار إلّا واستيقنَ أنّ الحسين مقتول..».