«السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ الله..»
..من شرح «زيارة وارث»
______الفقيه الشيخ حبيب الله الكاشاني قدّس سرّه______
مقتطف من كتاب (جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث) للفقيه المولى الشيخ حبيب الله الكاشاني (ت: 1340 للهجرة)، اقتصرنا فيه على شرحه للمستَهلّ: «السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ الله»، وللمؤلّف قدّس سرّه شروحٌ أخرى على أمّهات الأدعية والزيّارات، وله عدّة مؤلّفات في الرّجال والمنطق واللّغة وغيرها. |
قد عَلِمَ أولو الألباب أنّ السّلام تحيَّةُ الإسلام، وأنّ التَّسليم مطيّةُ التّعظيم والتّكريم، وقد وَرَد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «ابدؤوا بالسَّلام قبل الكلام، فمَن بدأ بالكلام قبل السَّلام فلا تُجيبوه».
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: «..أفشُوا السَّلام وأطيبُوا الكلامَ..»، وعن الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ الله يحبُّ إفشاء السَّلام»، وعن الإمام الصّادق عليه السلام: «البادي بالسَّلام أَوْلى بالله ورسولِه».
فإن قال قائلٌ: أَوَليسَ حياةُ المُسلَّمِ عليه وحُضوره وقُربه شروطاً لصحّة التَّسليم، فما معناه في هذه الزّيارات؟
قلتُ: بلى، والكلّ متحقِّقٌ بالنسبة إلى آل الله المعصومين، فإنّهم أحياءٌ عند ربّهم في بساط القُرب وعرش القُدس، يُرزَقون بموائد العلم والمعرفة، فيُطعَمون بألوان أطعمة الرّوحانيّين، ويُسقون من كأس المقرَّبين، يَروْن مقام شيعتِهم، ويسمعون كلامَهم، ويردّون سلامَهم كما في بعض زيارات الإمام الرّضا صلوات الله عليه: «أَشهدُ باللهِ أنّكَ تشهدُ مَقامي، وتسمعُ كلامي، وَتَردُّ سلامي، وأنتَ حيٌّ عند ربّكَ مَرزوقٌ».
ويدلُّ عليه من العقل براهينُ ساطعة، ومِن النَّقل أخبارٌ كثيرة لائحة، يطول المختصر بذكرها، وقد كفاك شاهداً على هذا ما في الزّيارة الجامعة، وكذا ما في حديث النورانيّة: «يا سلمان، إنّ ميّتنا إذا مات لم يمُت، ومقتولنا إذا قُتِل لم يُقتَل، وغائبنَا إذا غابَ لم يَغِب..».
وما ورد من التّسليم على أهل القبور ممّا يرفع الاستبعاد المذكور. فإنّ المخاطَب به هو أرواحُهم الباقية، ونفوسُهم النّاطقة التي خُلِقت للبقاء دون أجسادهم البالية التي يُصيبُها التّلاشي والفناء، فإذا صحّ التّسليمُ على مَن هذا حالُه، فكيف يُنكر صحّتَه بالنّسبة إلى المعصومين الذين لا تفنى أرواحُهم، ولا تبلى أجسادُهم المصونة عند عرش الله العظيم، إذ ﴿..كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْههُ..﴾ القصص:88. وقد ورد تفسيرُه بهم عليهم السلام، فهم الباقون بعد فناء الأشياء، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْكْرَامِ﴾ الرحمن:26-27.
رُوي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لأصحابه: «حياتي خيرٌ لكم، تُحدّثون ونُحدّث لكم. ومماتي خيرٌ لكم، تُعرَض عليَّ أعمالُكم، فإنْ رأيتُ حسناً جميلاً حمدتُ الله على ذلك، وإنْ رأيتُ غيرَ ذلك استغفرتُ اللهَ لكم».
وكيف كان فعلى الزَّائر أنْ يُذعن بحياتهم عليهم السلام وحضورِهم، وإحاطةِ علمهم بأحوال شيعتِهم، وأطوارهم وحركاتهم وسكَناتهم وجميع تنقّلاتهم. فَلْيُراعِ الأدبَ عند زيارتهم، وَلْيكُن بين يديهم خاشعاً خاضعاً ضارعاً مسكيناً مستكيناً، كالعبد الذّليل الواقف بين يدَي مولاه الجليل، كيف وهُم موالي الخَلْق، والخَلْقُ كلُّهم عبيدٌ لهم عبيدَ الطّاعة كما في بعض الأخبار، بل عبيدَ الرِّقّ كما في أخرى.
في تفسير كلمة «وَارِث»
إعلم أنّ الوارث هو الذي يبقى بعد موت آخر مع استحقاقه لقيامِه مقامَه، ونزوله في منزلته، فكأنّه هو. وسُمِّيَ تعالى بالوارث، لأنّه باقٍ بعد فناء الأشياء، ولأنّه يَرِث الأرضَ ومَن عليها وهو خيرُ الوارثين. والمؤمنون هم الوارثون لأنّهم يرِثون منازل الكفّار في الجنّة، أو لأنّهم يُمكَّنون في الأرض في زمان الرَّجعة كما قال تعالى: ﴿..أنَّ اْلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ الأنبياء:105.
وفي الدُّعاء: «واجعلهما -أي السَّمع والبَصَر- الوارثَين منّي»، أي أبقِهِما صحيحَين إلى زمان الموت بعد ضعف جميع أعضائي، وكونه عليه السلام وارثاً للأنبياء كسائر الأئمّة النقباء ممّا لا رَيب فيه، والأخبار والزّيارات مشحونةٌ بذلك كما لا يخفى على المُتَتبّع فيها.
O وأمّا معنى كونهم عليهم السلام وَرَثة للأنبياء فيحتملُ وجوهاً :
1- منها: أنّهم عليهم السلام ورِثوا ما أعطاهم الله تعالى من العلوم والمعارف والأسرار، فَعَلَّمُوه كما عُلِّموه، فإنّ العلم لا يموتُ بموت العالم، بل يصير إلى عالَمٍ آخر.
عن الإمام الباقر عليه السلام: «كانت في عليٍّ عليه السلام سُنّةُ ألفِ نبيّ»، وقال: «إنّ العلم الذي نزل مع آدم لم يُرفَع، وما ماتَ عالمٌ فذهب علمُه، وإنّ العلمَ لَيُتَوارَث». 2- ومنها: أنّهم عليهم السلام اتّصفوا بما اتّصف به الأنبياء السَّابقون من الصِّفات المحمودة والأخلاق الفاضلة، وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله بقوله: «.. مَن أرادَ أن ينظر إلى آدم في جلالتِه، وإلى شيث في حكمتِه، وإلى إدريسَ في نباهتِه ومهابتِه، وإلى نوحٍ في شكرِه لربِّه وعبادتِه، وإلى إبراهيمَ في وفائه وخِلَّتِه، وإلى موسى في بغضِ كلِّ عدوٍّ لله ومنابذتِه، وإلى عيسى في حبِّ كلِّ مؤمنٍ ومعاشرتِه، فَلْيَنظر إلى عليِّ بن أبي طالب».
3- ومنها: أنّ الرّوح الأعظمَ القدسيّ الذي كان قد تجلّى في أبدان السّابقين، فقدِروا به على خرْق العادات وإظهار المعجزات من إحياء الأموات، وشفاء المرضى ونحو ذلك، قد انتقل إلى أبدانِ محمّدٍ وآله، فظهرتْ منهم عليهم السلام الآياتُ الباهرات والمعجزاتُ الظَّاهرات؛ بل التّجليّاتُ السّابقة كانت بالصُّورة والظِّلّ، وما كان في هذه الأبدان الشّريفة إنّما هو بالحقيقة والأصل، فلذا كانت قدرتهم على الأمور العجيبة أشدّ وأقوى، وعلمُهم بما كان وما يكون أكثر وأجلى، بل الصَّادر عن السَّابقين رَشْحةٌ من رَشَحات جودهم عليهم السلام.
4- ومنها: أنّ عندهم عليهم السلام ما كان عند الأنبياء من الذّخائر التي خصّهم اللهُ بها دون سائر خلقه؛ مثل عصا موسى، وعمامة هارون، وخاتم سليمان، والتَّابوت وغير ذلك ممّا ورد في الأخبار.
5- ومنها: أنّ من شأن الأئمّة الإرشادَ والإبلاغ والإنذار، ووجوبَ طاعتِهم على النّاس كما كان ذلك شأن الأنبياء عليهم السلام.
في تفسير «صَفوة الله»
صفوةُ الله: خِيَرَةُ الله، أي مصطفاه ومختاره من خلقِه، وإنّما لُقِّبَ آدمُ عليه السلام بالصّفوة مع عدم الاختصاص لكونه أوّلَ الأصفياء بحسب الظّاهر، وإلّا فجميعُ الأنبياء أصفياءُ الله.
وإنّما صار آدمُ عليه السلام صفيَّ الله، لأنّه تعالى جعلَ بدنَه الشّريف مظهراً لأنوارِ محمّدٍ وآله عليهم السلام، ولذا أمر ملائكتَه بالسّجود له تعظيماً وإكراماً لهذه الأنوار، كما دلَّ عليه جملةٌ وافرةٌ من الأخبار.
فإن قيل: تركُ الانتهاء يُنافي مقامَ الاصطفاء، وقد قال تعالى: ﴿..وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ طه:121.
قلنا: قد أجابوا عن ذلك بوجوهٍ كثيرة لا يليقُ بهذا المختصر. وفي بعضها أنّ النَّهيَ كان من النّواهي التّنزيهيّة، فعدمُ الانتهاء لا ينافي العصمة.
وروي أيضاً: أنّ الله تعالى خلق آدم عليه السلام حجّةً في أرضه وخليفةً في بلاده، ولم يخلقه للجنّة، وكانت «المعصية» من آدم عليه السلام في الجنّة لا في الأرض ليتمّ مقادير أمرِ الله، فلمّا أُهبِط إلى الأرض وجعله حجّةً وخليفة، عُصِم بقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً..﴾ آل عمران:33، فتدبّر ولا تغفل.
والتحقيق، أنّ معاصي الأنبياء ليست من قبيل المعاصي المتعارَفة المعروفة، بل هي من قبيل ما أُشير إليه في المرويّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «حسناتُ الأبرار سيّئات المقرّبين»، وقد فصّلنا هذا الإجمال في بعض رسائلنا. (مختصر بتصرّف)