طهارةُ القلبِ من غير الله، وعطرُ الذِّكر والصّلوات
المولدُ النّبويّ، كما يراه السيّد ابنُ طاوس، والتّبريزي «صاحب المراقبات»
______إعداد: «أسرة التّحرير»______
لا يخفى على المؤمنِ المراقب لقلبِه وفعلِه أنَّ تعظيمَ شعائر الله تعالى، لا يقتصرُ على الإحياء الظّاهري فحسب، بل الأصل والمنطَلَق هو القلب السّليم، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ الحج:32.
في رحاب المولد النبويّ الشّريف، تأمُّلاتٌ ذاتُ صِلة، لسيّد العلماء المراقبين، السيّد ابن طاوس من كتابه (إقبال الأعمال)، ومن كتاب (المراقبات) للميرزا الملكي التّبريزي قدّس سرّهما. |
(إقبال الأعمال): لا يقوى قلبي ولا عقلي ولا لساني ولا قلمي، على شرح مِنَن اللهِ جلَّ جلالُه بإظهار أنوار الولادة المقدَّسة، وعظيمة الشَّأن، لسيِّدنا ومولانا رسول ربِّ العالمين صلّى الله عليه وآله، فقد اشتَمَلت هذه الولادة الشَّريفة، كما الرِّسالة النّبويّة المعظَّمة على فضلٍ من اللهِ جلَّ جلالُه لا يَبلُغ وَصْفي إليه.
* فمِن ذلك أنَّه صلّى الله عليه وآله جاء بعد مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبيّ:
منهم: مَن اصطفاه اللهُ تعالى، وأَسْجَدَ له ملائكتَه.
ومنهم: مَن اتَّخذَه اللهُ جلَّ جلالُه خليلاً.
ومنهم: مَن سَخَّر الله جلَّ جلالُه له الجبال، ﴿..يسبِّحن معه بالعشيّ والإشراق﴾ ص:18.
ومنهم: مَن آتاه مَن المُلك ما لم يؤتِ أحداً من العالمين.
ومنهم: مَن كَلَّمَه اللهُ جلَّ جلالُه تكليماً، ووَهَبه مقاماً جليلاً عظيماً.
ومنهم: مَن جعلَهُ اللهُ جلَّ جلالُه رُوحاً منه، ومكَّنَه من إحياء الأموات.
وهؤلاء -من الأنبياء والأوصياء- انقَضَت أيَّامُهم وأحكامُهم وشرائعُهم وصنائعُهم، ولم يَتَّفق لأحدٍ منهم أن يَفتح من أبواب العلوم الدِّينيّة والدُّنيويّة، وأن يُنجِح من أسباب الآداب الإلهيّة والبشريّة ما بلغ إليه سيِّدُنا محمَّد صلوات الله عليه. ثمّ إنَّه صلّى الله عليه وآله بلَغَ بِأُمّته -وبَلَغَت أمَّتُه به صلوات الله عليه- إلى حالٍ يعجزُ الإمكان والزَّمان عن شرح ما جَرَت علومُه وعلومُهم منه عليه السلام، وقد ملَأوا أقطارَ المشارق والمغارب بالمعارف.
* ومنها: [من الفضائل] أنَّ زمان تمكينِه من هذه العلوم المبسوطة في البلاد والعباد كانت مدَّةً يسيرةً لا تكفي في العادة لهذا المراد، إلّا بآياتٍ باهرة أو معجزاتٍ قاهِرةٍ من سلطان الدُّنيا والمعاد. لأنَّه أيّامَ مقامه صلّى الله عليه وآله بمكّة رسولاً -مدّة ثلاثة عشرة سنة- كان ممنوعاً من التَّمكين. وكان صلّى الله عليه وآله مدّةَ مقامه بالمدينة -وهي عشر سنين- مشغولاً بمحاربة الكافرين، ومقاساة الضّالّين والمنافقين والجاهلين. ولو أنَّه صلوات الله عليه كان في هذه الثّلاثة وعشرين سنة متفرِّغاً لِما بَلَغ حالُ علومِه إليه، لكان ذلك الزَّمان قليلاً -في الإمكان- بالنِّسبة إلى ما جرى من الفضل، وبَسْط لسان العقل والنَّقل. فَلِهذا عُدَّ ذلك من آيات الله جلَّ جلالُه العظيمة الشَّأن، وآياته صلوات الله عليه التي تعجز عنها عبارةُ القلم واللّسان.
* ومنها أنَّه صلّى الله عليه وآله أحيا العقولَ والألباب، وقد ماتت وصارت كالتُّراب، وصار أصحابُها كالدَّواب.
* ومنها: أنَّه صلّى الله عليه وآله نَصَر العقلَ بعد إحيائه، وقد كان انكسرَ عسكرُه، واستولت عليه يدُ أعدائه.
* ومنها: أنّه صلوات الله عليه كَشَف من حال شرف مواضعِ الأنبياء السابقين، وتُحَفِ شرائعِهم وأسرارهم وأنوارهم، ما لم يبلغ إليه المدَّعون لنقل أخبارهم وآثارهم.
* ومنها: أنَّه صلوات الله عليه شُرِّف باثنَي عشر من مقدَّس ذريّته، قائمون بأمره وسرِّه على منهجٍ واحدٍ كامل، لابسين لِخلَع العصمة، ومُتوَّجين بتاج الكرامة والفضائل، منهم المهديّ عليه السلام الذي يُنادَى باسمِه من السَّماء.
لباسُ التّقوى، وعمائمُ المراقبة |
(المراقبات): يجبُ على المسلم الموالي -في هذا اليوم الشَّريف- أن يتدبّر في خَلَجات قلبِه، وأن يكون عليه خَجَلُ القُصور، وحياءُ التَّقصير، ويعمل عملاً يُخرجُه من حدّ الغفلة والتَّضييع، ويبالغ في صدق الإخلاص مع خجلٍ وحياءٍ، ويكون هذا اليوم في نفسه عظيماً بقدر عظَمته الواقعيّة، وإنْ كان في أداء حقّ شكرِه قاصراً أو مقصِّراً.
ثمّ إنّ من المهمّات أن يُظهر الموالي في هذا اليوم المراسِمَ المعروفة الشّرعيّة للأعياد العظيمة، حتّى يعرفَه العوامُّ والنّساء والأطفالُ بالعيد، ولكن يعوِّدهم بعملِه في الأعياد بِما يوافقُ حقيقةَ العيد، وكما ورد به الشّرع، لا بما يُخالفه، كما عُرِف من سُنَنِ الجهّال من اللَّعب واللَّهو، بل وبعض المحرّمات، فإنّ العيد عبارةٌ عن وقتٍ جَعَلَه ملكُ الملوك تعالى موسماً للإذن العامّ، يشملُ البرَّ والفاجر، للحضور بين يدَيه، وعَرْضِ الاستكانة لديه، وإظهار مَراسِم العبوديّة، وإطلاق الجائزة والموهبة، ولبْس خلَع الأمان، وأخذ صككَ الملِك والسّلطان.
فحقٌّ لِمَن عرف ذلك أن يتدارك لحضور هذا المحضر الجليل الشّريف، ويتهيّأ بكلِّ ما يُمكن التَّهيّؤ به لمثل هذا المجلس المنيف، ويَتزيَّن بما هو مرسومٌ عند أهل هذا المحفل النّظيف، فإنّ لكلِّ مجلسٍ لباساً مخصوصاً وزينةً تناسبُه، ولِباسُ هؤلاء لباسُ التّقوى، والأخلاقُ الحَسَنة، وتاجُهم تاج الكرامة والوقار، وتاجُ المعارف الربّانية، وتطهيرُهم تطهيرُ القلب عن الشّغل بغير الله، وعِطرُهم ذكرُ الله، والصّلواتُ على رسول الله وآله الطَّاهرين.
وإيّاك وإيّاك أن تَحضر مجلس الأطهار، وقلبُك مُتدنِّس بِذِكْر الدّنيا، وبَدَنُك عارٍ من لباس التّقوى، ورأسُك مكشوفٌ من عَمائم المراقبة، ويفُوح منك نَتَنُ قاذورات محبّة الدّنيا، وخُلُقُك مشوَّهٌ بقبائح الأعمال السيّئة، ورأسُكَ خالٍ من عقل المعرفة، وقلبُكَ خالٍ من الإيمان، وبصرُك أرمدُ من النّظر إلى محارمِ الله، ولسانُكَ أبكمٌ عن التكلّم في ما يُرضي الله تعالى، وسَمْعُك أصمُّ عن استماع ذِكْر الله، ويَدُك مغلولةٌ بالبُخل عن مساعي الجُود والسَّخاء، والإنفاقِ في سبيل الله، ومفلوجةٌ عن القدرة على الجهاد في نُصرةِ دِين الله، وبطنُكَ مبطونةٌ من أكلِ السُّحت وما حرَّمَ الله، وقَدَمُك زَمِنٌ [به عاهة] عن السّعي في قضاء حوائج أولياء الله، ومُقْعَدٌ عن المشي إلى بيوت الله.
رُوي عن الإمام الحسن عليه السّلام أنّه نظر إلى النّاس يوم الفِطر يضحكون ويلعبون، فقال لأصحابه: «إنّ اللهَ عزَّ وجلَّ خَلَقَ شهرَ رمضان مضماراً لِخَلْقه، يَستبقون فيه بطاعتِه ورضوانه، فَسَبَق قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعَجَب كلُّ العَجَب من الضّاحك واللَّاعب في اليوم الَّذي يُثاب فيه المُحسنون، ويَخسرُ فيه المقصِّرون، وأَيْمُ الله لو كُشِف الغطاءُ لَشُغِلَ محسنٌ بإحسانِه، ومسيءٌ بإساءته».
وفي روايةٍ أُخرى: «والله لو كُشف الغطاء، لَشُغِلَ محسنٌ بإحسانه ومسيءٌ بإساءته، عن ترجيل شعرٍ، وتَصقيل ثوب».
(بتصرُّف واختصار)