مرابطة

مرابطة

09/01/2013

غزّة تحتلّ العقل «الإسرائيلي»


غزّة تحتلّ العقل «الإسرائيلي»
تعميقُ الشكّ في جدوى أُطروحة الاحتلال
_______محمود إبراهيم*_______


من غير الجائز بعد واقعة غزّة، أن يُنظر إلى حالة «إسرائيل» الجيوستراتيجيةّ، على النَّحو الذي كان يُنظَر إليها من قبل. فقد كان ختام العام 2012 علامةً فارقةً في نظريّة الأمن التي صاغَها العقل «الإسرائيلي» على امتداد ستّة عقود ويزيد. فالسُّؤال هو التالي:
ماذا لو بلغت «إسرائيل» حدّاً لا تعود معه تستطيعُ احتلالَ أرضٍ هي بالنّسبة إليها محلّ تهديدٍ لأمْنِها القومي؟

لدينا في سياق الجواب على التَّساؤل السَّابق ثلاثة منعطفات تأسيسيّة مُتقارِبة في الزَّمن، وهي لن تفارق النّفْس «الإسرائيليّة» بِيُسْرٍ: الأوَّل حرب لبنان في تمُّوز/ يوليو 2006، والثّاني حرب غزَّة في مُستهلِّ العام 2009، والثّالث الحرب الأخيرة على غزّة، وما لها من تداعيات جيوستراتيجيّة على الأمن «القومي الإسرائيلي».
المنعطفات الثلاثة ذات بُعْدٍ واحد، هي تبتعثُ كلاماً يتعدَّى مقام السّياسة والحرب إلى الحدّ الذي يبدو فيه العقل «الإسرائيلي» متّجهاً إلى مطارحات وأسئلة تتعلَّق بمصير المشروع التّاريخي «لإسرائيل» بِرُمَّته.
المشترَك في هذا المثلَّث التّاريخي أنَّه يولِّد حالاً من عدم اليقين حول قدرة «إسرائيل» في إعادة تشكيل مقولة الاحتلال. في لبنان كان الحصاد مدوِّياً في مجال السّيطرة الميدانيّة على جغرافيّة المقاومة. فلقد فشل التّقليد العسكري «الإسرائيلي» في إنجاز الرَّدع الإستراتيجي والقضاء على مصدر التّهديد في «الجبهة الشّماليّة». وفي غزَّة سيفشلُ التّقليدُ إيّاه في إعادة احتلال جغرافيّة مقاومة، هي بالنّسبة إليه مصدر التّهديد الأشدّ وطأة على الخاصرة الجنوبيّة للكيان الصهيوني.
ثمّة إذاً مجالان جغرافيّان استَعصَيَا على الاحتلال في خلال مسافة زمنيّة مكثَّفة ومحدودة. فإذا كان السُّؤال الاستراتيجي «الإسرائيلي» اليوم مركوزاً في وجوب تحقيق معنى القدرة على احتلال الأرض، فإنَّ حاصل المبادرات الحربيّة في لبنان وفلسطين عمَّقا اتِّجاهات الشّكّ في الجدوى التّاريخيّة لأطروحة الاحتلال.
علماءُ الاجتماع، وجنرالات الحرب السَّابقين والحاليِّين في «إسرائيل» يواجهون اليوم طَوْراً جديداً وغير مألوفٍ من الأسئلة. أبرزُها ما ينعقدُ في الكلام على الفراغ الحاصل في البُنية الإجماليّة للتّفكير الإستراتيجي. خصوصاً ما يتّصلُ منها بفاعليّة خيار الاحتلال في تجديد وصيانة أحزمة الحماية الجيو - استراتيجيّة لـ «دولة إسرائيل» في مطالع القرن الحادي والعشرين.
ما الصُّورة التي رَسَت عليها الأحوال «الإسرائيليّة» بعد ثلاثة حروبٍ مُتجاوِرة في الزَّمان والمكان، وانتهت إلى إخفاقات مدوِّية في مفاهيم الحرب واحتلال الأرض؟


هويّة جغرافيّة ملتَبسة

يُنظَر إلى مقولة الاحتلال من زاوية نظر اللَّاهوت السِّياسي «الإسرائيلي» بما هي مقولة تاريخيّة مركَّبة. فالاحتلال «الإسرائيلي» للأرض العربيّة، هو دون سواه من أشكال الاحتلال، ظاهرة استثنائيّة. فإنَّه في منطِقِهِ الدّاخلي وديناميّاته، وفي مقاصده الأيديولوجيّة والجيو - استراتيجيّة، بدا غير محكومٍ بقواعدٍ اللّعبة التّقليديّة، التي تحكمُ خلافات الحدود والنّزاع على الأرض بين الدُّول.
ولَئِن بَحَثْنا في الخطاب السّياسي والأيديولوجي في «إسرائيل»، عن ثوابتَ ما، ولا سيَّما لجهة ظهورات الهويَّة الجغرافيّة والدّستوريّة، فلن نعثر عليها بِيُسْر. كما لو كان استظهار هذه الهويّة، وجلاء لبْسها وإشكالها، هو بالنّسبة إلى «الإسرائيليين» بمنزلة الباب المفتوح على الهَلَع. ذاك أنَّ تعيين الصُّورة الواضحة للهويّة «الاسرائيليّة»، يوجبُ الكشفَ عن دستور الدّولة وحدودِها الجغرافيّة، وخريطتِها السُّكانيّة، وأمدائها الحيويّة والإستراتيجيّة. وهذا أمرٌ بدا كَشْفُه مستحيلاً طالما يجري التّعامل مع كلٍّ من هذه المجالات بخشيةٍ بيِّنة، أو بِما هو مجالٌ لمَّا يزَل في طَوْر التَّكوين.
سوف يَحملنا ذلك إلى القول، إنَّ عدم الاستقرار في الهويّة الجغرافيّة هو سِمَةٌ وُجوديّةٌ للكيان الصّهيوني. فإلى كَوْنه يلبّي حاجةً لاهوتيّةً إيديولوجيّة، فهو يمنحُ «إسرائيل» شحنةً من الذَّرائع، في طليعتِها توظيفُ عامل الاحتلال للإبقاء على مبدأ التفوُّق الإستراتيجي على العرب.
مع السَّنوات الأُولى من القرن الواحد والعشرين ستنتقل مقولة الاحتلال كمعادلٍ للإيديولوجي اللاَّمتناهي ومكمِّلٍ له، ثمَّ لِتَتمَوْضع في منزلةٍ مُغايِرة للتّقليد السّياسي «الإسرائيلي». ذلك أنَّ الأرض المُقتَطَعة من العرب هي -بحسب معايير الأمن «القومي الإسرائيلي»- حلقات انتقاليّة ضروريّة لتحقيق أرض «إسرائيل الكبرى»، وقاعدة لمساومة سياسيّة في المفاوضات. وفي هذا المعنى، يكون التّفاوض على السَّلام قد نقل «إسرائيل» من طَوْر التّفكير في الكلِّيّات السّياسيّة الإيديولوجيّة إلى طَوْرٍ أشدّ قرباً من التّفاصيل والحسابات الدّقيقة.
ملامحُ التَّطوُّر السّلبي في الاجتماع السّياسي «الإسرائيلي» سوف تأخذُ مداها المفتوح. ولقد أظهر «الإسرائيليّون»، على اختلافهم وتنوُّع تيّاراتهم، قلقاً بيِّناً أَخَذ يتضاعف مع الوقت حيال الآثار الجيو - سياسيّة المترتِّبة على مقولة «الأرض في مقابل السّلام». لأنَّ التّراجع عن الأرض، حتّى لو كان على شكل إعادة انتشار، عُدَّ خرقاً للجدار المعنوي الهائل الذي أقامته الإيديولوجيا الصّهيونية حول أطروحة «أرض إسرائيل العظمى».
إنَّ معادلة «التفّاوض من أجل السّلام» ولَّدت ما يمكن وصفُه بملامح جديدة لقواعد لعبة يبدو فيها منطق الجغرافيا، هو العامل المكوِّن والمقرِّر للمشهد «الإسرائيلي» في خلال العقود الآتية من القرن الواحد والعشرين.
عند هذا المَفصَل، ظَهَر الخطاب الإستراتيجي في «إسرائيل» على نشأةٍ جديدة. وعلى هذا النَّحو فقد انبرى كثيرون ممَّن يترجمون هذا الخطاب إلى فتح باب التَّشاؤم على مصراعَيه حول راهن ومقبل الأطروحة «الإسرائيليّة».
قبل أن يمضي رئيس مجلس الوزراء «الإسرائيلي» آرييل شارون في غيبوبتِه المتمادية بسنوات، بكَّر «الإسرائيليّون» في إطلاق السُّؤال التالي:
ما الذي جَناه شارون على «إسرائيل»؟
ربَّما كان يفترَض بهؤلاء ألَّا يصلوا إلى هذه الدّرجة من الشّكّ وقد مَنَحهم آرييل شارون للتوّ ما لم يَقدِر أسلافُه كلُّهم على منحِهم إيّاه، وهو الأمن. لكنَّ حَمَلَة هذا السُّؤال قفزوا فوق الجدران الوهميّة لاستطلاعات الرّأي التي أعطت شارون سوادَ «إسرائيل» الأعظم، وراحوا ينظرون إلى ما وراء الضّجيج الذي ولَّده رُكام المخيَّمات والمدن الفلسطينيّة وأشلاء أهلها.
بين يدَينا مثالٌ صريحٌ على مناخات التّشاؤم «الإسرائيلي». وهو جاء على لسان أحد كبار جنرالات الحرب المتقاعدين وهو مارتن فان كريفيلد، يقول: «إنَّ صراعنا ضد الفلسطينيِّين هو صراعٌ خاسر. لقد كان خاسراً منذ اليوم الأوّل؛ وسوف يؤدِّي إلى القضاء علينا».
ثمَّة مِن «الإسرائيليّين» اليوم مَن بات يتوقّع الفجيعةَ الكُبرى. والسُّؤال الذي يطرحونه على أنفسهم هو عمّا إذا كان بمستطاع «إسرائيل» استعادةَ قدرتها على احتلال أرضٍ عربيّة، حتى لو تعلَّق الأمر بمصيرِها ككيانٍ آيلٍ إلى الزَّوال.
______________
* باحث في الاستراتيجيّات الإقليميّة


اخبار مرتبطة

  الملف

الملف

منذ 3 أيام

إستهلال

نفحات