«..أضلّك اللهُ على عِلم»
هكذا، خاطبَ فقيهُ تونس، ابنَ عبد الوهّاب
ـــــ إعداد: «شعائر» ـــــ
في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بعث محمّد بن عبد الوهّاب (مؤسّس الفرقة الوهّابيّة) رسالةً إلى عددٍ من الأقطار الإسلاميّة -ومن بينها تونس- يدعو فيها الأعيانَ والعلماء إلى الولاء له، واتّباع دعوته، والعمل بموجبِها، ويتّهمُ في رسالته هذه كلَّ مَن خالفه بالشّرك، متوعّداً إيّاه بالقتال، حيث كتبَ ما نصُّه: «فَمَن لم يُجِب الدّعوةَ بالحجّة والبيان، دعوناه بالسّيف والسّنان..».
وتدور هذه الرّسالة -عدّها بعضُ المتتبّعين موجزاً لما أورده في كتابه (التوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد)- على النّهي عن زيارة قبور الأولياء والصّالحين، والتوسُّل بهم إلى الله تعالى، في قضاء الحاجات وكشْف الكرُبات، زاعماً أنّ ذلك من حوادث الأمور، ومن مصاديق عبادة الأوثان التي نهى عنها رسول اللهصلّى الله عليه وآله.
رسالةُ ابن عبد الوهّاب، أحدثتْ -بما تضمّنته- اضطراباً واسعاً في تونس، ممّا حدا بـ «حمّودة باشا»، باي* تونس (ت: 1814 م)، أن يطلبَ من علماء مصره أن يتداركوا الأمر، فكان أن تصدّى لذلك الفقيه المالكي عمر بن قاسم المحجوب، أبو حفص (ت: 1807 م)، حيث سطّرَ رسالةً جوابيّة دحضَ فيها مزاعم ابن عبد الوهّاب، مستدلّاً بالقرآن والسنّة النبويّة، وسيرة السّلَف، ومعرّضاً في الوقت نفسه بجنوح الوهّابي إلى هدم قبابِ مشاهد الأولياء، واصفاً ذلك بما يلي: «..فهي الدّاهية الدّهياء، والعظيمة العظمى من الظّلم التي أضلّك اللهُ فيها على عِلم: ﴿ومَنْ أظلمُ مِمّن منَعَ مساجِدَ اللهِ أن يُذْكَرَ فيها اسمُهُ وسعى في خرابِها..﴾البقرة:114».
والمُلفت في رسالة ابن المحجوب الجوابيّة - فضلاً عن قوّة الاستدلال- أنّه لا يُخاطب ابنَ عبد الوهّاب بما يُوحي أنّه يُكاتب عالماً مسلماً، أو حتّى رجلاً من عامّة الأمّة، بل يُخاطبُه بعبارة «يا أخَا العرب»، يكرّرُها في غير موضع، كما يردّ على تهديد الوهّابي بمثلِه، فيقول: «وإن أطلتَ في لُجّة الغواية سبْحَك، وشيّدتَ في الفتنة صرحَك، واختلتَ عارضاً رُمحَك، فإنّ بني عمّك فيهم رماح، وما منهم إلّا مَن يتقلّدُ الصّفاح، ويُجيل في الحرب فائز القِداح».
ولم يَفُت الفقيه المالكيّ أن يُنكر على الوهّابيّين إفسادَهم في الأرض، في سبيل أن يستتبّ لهم التسلّطُ على أرض الحرَمين، فيقول: «أما ما أقدمتَ عليه من قتال أهل الإسلام، وإخافةِ أهل البلد الحرام، والتسلّط على المعتصمين بكلمتَي الشّهادة، وأدمتم إضرامَ الحرب بين المسلمين وإيقادَه، فقد اشتريتم في ذلك حُطام الدّنيا بالآخرة، ووقعتم بذلك في الكبائر المتكاثرة، وفرّقتم كلمةَ المسلمين، وخلعتم من أعناقكم رِبقةَ الطّاعة والدّين..».
***
يُشار إلى أنّ المؤرّخ التونسي أحمد بن أبي الضياف (ت: 1874 م) أوردَ نصّ الرّسالتين في كتابه (إتحاف أهل الزمان)، وعلّق عليهما بالقول: «وبعثَ حمّودة باشا بهذه الرّسالة إلى القائم الوهّابي، فلم يُجِب عنها..». ويُشير ابن أبي الضياف إلى أنّ العلّامة إسماعيل التميمي، أبا الفداء (ت: 1833 م) ألّف كتاباً في الردّ على رسالة ابن عبد الوهّاب سمّاه (المنح الإلهيّة في طمس الضلالة الوهّابيّة).
وتجد نصّ الرسالة الجوابيّة أيضاً في كتاب (سعادة الدّراين) لإبراهيم السمنودي (ت: 1902 م)، وقد وسمَها بـ «الرسالة الرحمانيّة».
والطريف، أنّ المنشورات الوهّابيّة -وحتّى يومنا هذا- تُدرج وتروّج لرسالة ابن عبد الوهّاب، وتتجاهل بالكامل رسالة ابن المحجوب، وغيرها من الرّدود.
_____________________
* «باي» أو «بآي» لقب يُطلق على سلالة من الملوك التوانسة عُرفوا بـ «البايات»، وهم تسعة عشر ملكاً، آخرُهم الملقّب بـ «الأمين»، عُزل سنة 1957 م، مع قيام النظام الجمهوري في تونس.