النِّظام الإلهيّ: ﴿..قد جعلَ اللهُ لكلِّ شيءٍ قدراً﴾
معنى الخزائن، والتّنزيل، والقدَر المعلوم
ـــــ العلّامة السّيّد محمّد حسين الطّباطبائيّ قدّس سرّه ـــــ
بحثٌ معمّق من (تفسير الميزان) للعلّامة الطّباطبائيّ، محورُه الآية الحادية والعشرين من سورة الحجر، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾.وقد وصفها قدّس سرّه بأنّها من غُرر كلامِه تعالى، وأنّها من آيات القَدَر، مستعرضاً أبرز ما قالَه المفسّرون بِشأنها، مبيّناً ما هو «أبعد غوراً ممّا فسَّروها به».
الخزائن جَمْع خِزانة، وهي مكانُ خَزْنِ المال وحفظِه وادِّخارِه.والقدر بفتحتَين [قَدَر] أو فَتْحٌ فَسُكُون [قَدْر] مَبْلَغُ الشَّيءِ وكمِّيَّتُه المُتعيِّنة.ولمَّا كانت الآيةُ واقعةً في سياقِ الكلامِ في الرِّزق الّذي يَعيشُ به الإنسانُ والحيوانُ، كان المُرادُ بـ «الشَّيء» الموصوفِ في الآية النَّباتَ وما يَتْبَعه من الحبوب والثَّمرات، فالمرادُ بخزانَتِه الّتي عند الله، وهو تعالى يُنزِّله بِقَدرٍ معلومٍ، المَطرُ النَّازِلُ من السَّماء الذي يَنبتُ به النَّباتُ فيأتي بالحبوب والأثمار، ويَعيشُ بذلك الإنسانُ والحيوانُ. هذا مُلخَّص ما ذَكَرَه جمعٌ من المفسِّرين.ولا يَخفى عليك ما فيه من التَّكلُّفِ، فتخصيصُ ما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ..﴾ الحجر:21 من العموم، وحصرُه في النَّباتِ من تخصيصِ الأكثر، من غير شكّ، والمورِدُ لا يُخصّص.وأردى منه تَسميةُ المطرِ خزائن النَّبات، وليس [المطرُ] إلّا سبباً من أسبابه، وجزءاً من أجزاء كثيرةٍ يتكوَّن النَّبات بتركُّبِها الخاصّ، على أنَّ المطرَ إنَّما يَتَكوَّنُ حينما يَنزل، فكيف يُسمَّى خزانةً وليس بموجود، ولا أنَّ الّذي هو خزانتُه موجودٌ فيه.
خزائنُ الله تعالى، قدرتُه على الإيجاد
وذَكَر بعضُ المفسِّرين أنَّ المُرادَ بِكَوْنِ خزائن كلِّ شيءٍ عند الله سبحانه، شمولُ قُدرتِه المُطلَقة له.فَلَهُ تعالى من كلِّ نوعٍ من أنواعِ الأشياءِ كالإنسانِ والفَرَسِ والنَّخلة وغير ذلك من الأعيان وصفاتِها وآثارِها وأفعالها، مقدوراتٌ في التّقدير غير متناهيةٍ عدداً، لا يَخرج منها دائماً من التّقدير والفَرْضِ إلى التَّحقُّقِ والفِعْلِيَّة إلَّا قَدَرٌ معلومٌ وعددٌ مُعَيَّنٌ محدود.وعلى هذا، فالمُرادُ من كلِّ شيء، نوعُه لا شَخْصُه؛ كالإنسانِ مثلاً، لا كَزيدٍ وعَمْرو، والمُراد من القَدَرِ المَعلومِ الكمّيّةُ المعيَّنةُ من الأفراد، والمُرادُ من وجودِ خزائنِهِ ووجودِهِ في خزائنه، وُجودُه بحسب التّقدير لا بحسب التَّحقُّق، فيَرجعُ إلى نوعٍ من التّشبيهِ والمَجاز.وأنت خبيرٌ بأنَّ فيه تخصيصاً للشّيء من غير مُخصِّص، وفيه قَصْرٌ للقدَر في العدد من غير دليل، والقدرُ في اللّغة قريبُ المعنى من الحَدِّ، وهو المفهوم من سياق قوله تعالى: ﴿..قد جعلَ اللهُ لكلِّ شيءٍ قدراً﴾ الطلاق:3، وقوله: ﴿..وكلُّ شيءٍ عندهُ بِمقدارٍ﴾ الرعد:8، وقوله: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ القمر:49، وقوله: ﴿..وخَلَقَ كُلَّ شيءٍ فقدَّرَهُ تقديراً﴾ الفرقان:2، إلى غيرِ ذلك.وفيه إرجاعُ الكلامِ إلى معنًى مجازيٍّ استعاريٍّ من غير موجِبٍ، مع ما فيه من وُرودِ الخزائنِ بصيغة الجَمْعِ من غير نُكْتَةٍ ظاهرة.
المرادُ بالشّيء، نوعُه لا شَخْصُه
وذَكَر بعضُ معاصِرِي المفسِّرين وجهاً آخر، وهو أنَّ المُراد بالخزائن العناصرُ المختلفةُ الّتي تتألَّفُ منها الأرزاق وغيرها، وقد أعدَّ اللهُ منها في عالمنا المَشهود كمّيّةً عظيمةً لا تنفدُ بِعُروضِ التَّركيب، و[المرادُ بالخزائن أيضاً] الأسبابُ الكلِّيَّة التي تعملُ في تركيبِ المركَّبات كالضّوء والحرارة والرِّياح الدّائمة المنظَّمة وغيرها، الّتي تتكوَّن منها الأشياء ممّا يَحتاجُ إليه الإنسانُ في إدامةِ حياتِه وغيره.فكلٌّ من هذه الأشياء مُدَّخرةٌ بأجزائها والقوى الفعَّالة فيها في تلك الخزائن غير القابلة للنَّفادِ من جِهةِ عَظَمَةِ مقدارِها، ومن جهةِ ما يَعود إليها من الأجزاء الجديدة بانْحِلالِ تركيبِ المركَّبات بموتٍ أو فسادٍ، ورجوعها إلى عناصرها الأوَّليّة؛ كالنَّبات يَفسد، والحيوان يَموت، فيَعودُ عناصرُها بانحلال التَّركيب إلى مقارِّها ويتَّسِعُ بذلك المكانُ لِكَيْنونةِ نباتٍ وحيوانٍ آخَر يَخلفان سَلَفَهما.فالضَّوءُ -وخاصَّةً ضوءُ الشَّمس الذي يعمل اللَّيل والنهَّار، والفصولَ الأربعة، ويُربِّي النّبات والحيوان وسائر المُركَّبات، ويَسوقُها إلى غاياتِها ومقاصِدِها- من خزائنِ الله تعالى، والرِّياحُ -التي تُلقِّح النَّباتَ، وتَسوقُ السُّحُبَ، وتَنقل الأَهْوِيَةَ من مكانٍ إلى مكانٍ، وتَدفعُ فاسِدَ الهواءِ، وتُجري السُّفُن- خزانةٌ أخرى، والماءُ -النّازلُ من السَّماء الذي تَحتاج إليه المركَّبات ذوات الحياةِ في كَيْنُونَتِها وبقائها- خزانةٌ أخرى، وكذلك العناصرُ البسيطة التي تَتركَّب منها المركَّبات، كلٌّ منها خزانةٌ تَنزلُ من مجموعِها أو من عدَّةٍ منها الأشياءُ المركّبة، ولا ينزل قطُّ إلّا عددٌ معلومٌ من كلِّ نوعٍ من غير أنْ تَنفدَ به الخزائن.وعلى هذا، فمُراد الآيةِ بالشَّيء هو نوعُهُ لا شَخْصُهُ، كما تقدَّم في الوجهِ [السّابق]، والمُرادُ بِخَزائِنِهِ مجموعُ ما في الكَوْنِ من أُصُولِه وعناصِرِه وأسبابِهِ العامَّة المادِّيّة، ومجموع الشَّيء موجودٌ في مجموعِ خزائنِهِ، لا في كلِّ واحدٍ منها، والمُراد بِنُزولِه بِقَدَرٍ معلومٍ كَيْنُونَةُ عددٍ محدودٍ منه في كلِّ حينٍ، من غير أن يَستوفيَ عددَ جميع ما في خزائِنه.وهذا وجهٌ حَسَنٌ في نفسِه تؤيِّدُه الأبحاثُ العلميَّةُ عن كَيْنُونَةِ هذه الحوادث، وتُصدِّقُهُ آياتٌ كثيرةٌ مُتفرِّقةٌ في الكتاب العزيز، كقولِهِ في الآية التّالية: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوه..﴾ الحجر:22، وقوله تعالى: ﴿.. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ..﴾ الأنبياء:30، وقوله: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ..﴾ إبراهيم:33، وقولِه سبحانه: ﴿..وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ..﴾ البقرة:164، إلى غير ذلك من الآيات.لكنّ الآية، وهي من آياتِ القَدَر كما يُعطيهِ سِياقُها، تَأبى الحَمْلَ عليه، كما تأبى عنه أخواتُها، وكيف يحمل عليه قوله: ﴿..وخَلَقَ كُلَّ شيءٍ فقدَّرَهُ تقديراً﴾ الفرقان:2، وقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ الأعلى:2-3، وقوله: ﴿..وكلُّ شيءٍ عندهُ بِمقدارٍ﴾ الرعد:8، وقوله: ﴿..إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ النمل:57، وقوله: ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ عبس:18-19، وقوله: ﴿إَّنا أنزلناهُ في لَيلَةِ القَدْرِ﴾ القدر:1 إلى آخر السُّورة، إلى غير ذلك من الآيات.على أنَّه يَرِدُ عليه بعض ما أُورد على الوجهَين السَّابقَين كَتخصيص عمومِ شيءٍ من غير مخصِّص، وغير ذلك.
ما يُفضي إليه التّدبُّر في الآية
والذي يُعطيه التَّدبُّرُ في الآية وما يُناظِرُها من الآيات الكريمة، أنَّها مِن غُرَرِ كلامِه تعالى، تُبَيِّنُ ما هو أدقُّ مسلكاً وأبْعَدُ غوراً ممَّا فَسَّرُوها به، وهو ظهورُ الأشياءِ بالقدرِ والأصلِ الّذي لها قبلَ إحاطته بها واشتماله عليها. وذلك أنّ ظاهرَ قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ..﴾ الحجر:21 على ما به من العموم -بسبب وقوعه في سياق النّفي- مع تأكيده بـ «من» كلُّ ما يصدق عليه أنّه شيء، من دون أن يخرجَ منه إلَّا ما يُخْرِجُه السِّياقُ نفسُه، وهو ما تدلُّ عليه لفظة «نا» و«عند» و«خزائن»، وما عدا ذلك ممَّا يُرى ولا يُرى مشمول للعامّ.فشخصُ زيدٍ -مثلاً وهو فردٌ إنسانيٌّ من الشّيء، ونوعٌ من الإنسانِ أيضاً، الموجودُ في الخارجِ بأفرادِهِ- من الشَّيء، والآيةُ تُثبِتُ لذلك خزائن عند الله سبحانه. فلننظُر ما معنى كَوْن زيد مثلاً، له خزائن عند الله؟والذي يُسهِّلُ الأمر فيه أنَّه تعالى يعدُّ هذا الشَّيء المذكور نازلاً من عنده، والنُّزولُ يَستدعي علوّاً وسُفلاً ورِفعةً وخَفْضةً وسماءً وأرضاً، ولم ينزل زيدُ المخلوق –مثلاً- من مكان عالٍ إلى آخَرٍ سافلٍ بشهادة العيان، فليس المُراد بإنزاله إلَّا خَلْقُه، لكنَّه ذو صفةٍ يَصْدُقُ عليه النُّزول بسببِها، ونظير الآية قولُه تعالى: ﴿..وأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ..﴾ الزُّمر:6، وقوله: ﴿..وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ..﴾ الحديد:25.
قَدَرُ الشّيء، ما يميّزُهثمَّ
قوله تعالى: ﴿..وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ الحجر:21 يُقرنُ النُّزول- وهو الخِلْقَة- بالقَدَرِ قَرْناً لازماً غيرَ جائزِ الانفكاك لِمَكانِ الحَصْرِ، والباء إمَّا للسّببيّة أو الآلة أو المُصاحبة، والمَآلُ واحد، فكينونةُ زيدٍ وظهورُه بالوجودِ إنَّما هو بما له من القدَرِ المعلوم، فوجودُه محدودٌ لا محالة. ".." وهذا القدَر هو الذي بسببِه يتعيّن الشّيءُ ويتميّز من غيره، ففي زيدٍ مثلاً شيءٌ به يَتميَّز من عمرو وغيره عن أفراد الإنسان، ويتميَّز به عن الفَرَسِ والبقرِ والأرضِ والسَّماءِ. ويجوز لنا به أن نقول ليس هو بعمرو ولا بالفَرَسِ والبقرِ والأرضِ والسَّماء، ولولا هذا الحدّ لكان هو هي، وارتفع التَّميُّز.وكذلك ما عنده من القوى والآثار والأعمال محدودةٌ مقدَّرةٌ، فليس إبصاره، مثلاً، إبصاراً مطلقاً في كلِّ حالٍ وفي كلِّ زمانٍ وفي كلِّ مكانٍ ولكلِّ شيءٍ وبكلِّ عضوٍ مثلاً، بل إبصارٌ في حالٍ وزمانٍ ومكانٍ خاصٍّ، ولشيءٍ خاصٍّ، وبعضوٍ خاصٍّ، وعلى شرائطَ خاصّة، ولو كان إبصاراً مطلقاً لأحاطَ بكلِّ إبصارٍ خاصٍّ وكان الجميعُ له، ونظيرُه الكلام في سائرِ ما يعود إليه من خصائص وجوده وتوابعه، فافهَم ذلك.ومن هنا يَظهرُ أنَّ القدرَ خصوصيَّةُ وجودِ الشَّيء وكيفيَّةُ خِلْقَتِه، كما يُستفادُ أيضاً من قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ الأعلى:2-3، وقوله: ﴿..الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ طه:50، فإنَّ الآيةَ الأولى رتَّبَت الهدايةَ وهي الدَّلالة على مقاصد الوجود على خَلْقِ الشَّيء وتَسوِيَته وتقديره، والآية الثّانية رتَّبَتها على إعطائه ما يختصُّ به من الخَلْق، ولازم ذلك على ما يعطيه سياق الآيتَين كَوْن قدرُ الشَّيء خصوصيّةُ خَلْقِه غير الخارجة عنه.ثمَّ إنَّه تعالى وصف قدر كلّ شيء بأنَّه معلومٌ، إذ قال: ﴿...وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ الحجر:21، ويُفيد بحسبِ سياق الكلام أنَّ هذا القدر معلومٌ له حينما يتنزَّلُ الشَّيءُ ولمّا يَتمُّ نزولُه ويظهرُ وجودُهُ، فهو معلومُ القَدَر معيّنُه قبل إيجادِه، وإليه يؤول معنى قولِه تعالى: ﴿..وكلُّ شَيءٍ عندهُ بِمقدارٍ﴾ الرعد:8، فإنَّ ظاهر الآية أنّ كلَّ شيءٍ بما له من المقدار حاضرٌ عنده معلوم له تعالى، فقوله هناك عنده بمقدار في معنى قوله هَهنا بقدرٍ معلوم، ونظير ذلك قوله في موضعٍ آخَر: ﴿..قد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ الطلاق:3، أي قدراً لا يتجاوزُه، معيَّناً غير مُبهَمٍ، معلوماً غير مجهولٍ.وبالجملة، للقدَر تَقدُّمٌ على الشَّيء بحسب العلم والمشيّة، وإن كان مقارناً له غير منفكٍّ عنه في وجودِه. ثمَّ إنَّه تعالى أثبت -بقوله: ﴿..عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقدَر..﴾ الحجر:21 للشّيء عندَه قبل نزولِه إلى هذه النّشأة واستقراره فيها- خزائنَ، وجعل القدَر متأخِّراً عنها، ملازماً لنزوله، فالشَّيءُ وهو في هذه الخزائن غيرُ مقدَّرٍ بِقَدر ولا محدودٍ بحدٍّ، وهوَ مع ذلك هو.وقد جمعَ في تعريف هذه الخزائن بين كَوْنِها فوق القدَر الذي يلحقُ الشَّيء، وبين كَوْنِها خزائن فوق الواحدة والاثنتَين، ومن المعلوم أنَّ العدد لا يَلحق إلَّا الشّيءَ المحدود، وإنَّ هذه الخزائن لو لم تكُن محدودةً متميِّزةً بعضها من بعضٍ، كانت واحدةً البتّة.ومن هنا يتبيَّن أنَّ هذه الخزائن بعضُها فوقَ بعضٍ، وكلُّ ما هو عالٍ منها غيرُ محدودٍ بحدِّ ما هو دانٍ، غيرُ مقَدَّرٍ بِقَدرِه، ومجموعها غير محدودٍ بالحدِّ الّذي يَلحق الشّيء وهو في هذه النَّشأة، ولا يَبعد أن يكونَ التَّعبيرُ بالتَّنزيل الدالّ على نوعٍ من التّدريج في قوله ﴿..وَمَا نُنَزِّلُهُ..﴾ الحجر:21 إشارةً إلى كونِهِ يَطوي في نُزولِه مرحلةً بعد مرحلةٍ، وكلّما وَرد مرحلةً طَرَأَهُ من القدرِ أمرٌ جديدٌ لم يكُن قبل، حتَّى إذا وقَعَ في الأخيرةِ أحاطَ به القدرُ من كلّ جانب، قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ الإنسان:1 فقد كان الإنسان، ولكنَّه لم يكن شيئاً مذكوراً.وهذه الخزائن جميعاً فوق عالَمِنا المَشهود، لأنَّه تعالى وَصَفَها بأنَّها عنده، وقد أخْبَرَنا بقوله: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ..﴾ النحل:96. إنَّ ما عنده تعالى ثابتٌ لا يزولُ ولا يتغيَّر عمَّا هو عليه، فهذه الخزائنُ، كائنةً ما كانت، أمورٌ ثابتةٌ غيرُ زائلة ولا متغيِّرة، والأشياءُ في هذه النّشأةِ المادّيّةِ المحسوسةِ متغيِّرةٌ فانيةٌ لا ثابتةٌ ولا باقية، فهذه الخزائن الإلهيّة فوق عالَمِنا المشهود.