علمُ الاجتماع
اضطرابُ التّعريف، وتشتّتُ الموضوعات
ـــــ د. محمود البستاني* ـــــ
يَظلُّ علمُ الاجتماع،
مثل سائر ضُروبِ المعرفةِ الإنسانيّة، حافلاً بِجُملةٍ من التَّعريفات الّتي يَتفاوت
تحديدُها من باحثٍ لِآخَر، أو اتِّجاهٍ لِآخَر، حَسب الخلفيّة الفكريّة الّتي يَنتسبُ
إليها علماءُ الاجتماع، بل يَكادُ يَنفردُ هذا العلمُ بصعوبةِ تعريفِه، إلى حدِّ أنَّ
بعضَهم يَتركُ التَّعريفَ لِيَتحدَّثَ عن موضوعاته، وحتَّى هذا الجانب يَظلُّ
خاضعاً لِتفاوتٍ ملحوظٍ بين علماء الاجتماع.
يُضاف
إلى ذلك، وجودُ صِلةٍ شديدةٍ بين هذا العلم وبين علم النَّفس، وبين أحد فروعه وهو
علم النَّفس الاجتماعيّ من جانبٍ، وبينه وبين علم الأقوام أيضاً من جانبٍ آخر، ثمَّ
بينه وبين العلوم الإنسانيَّة الأُخَر من جانبٍ ثالثٍ. كلُّ هذه التعقيدات تَتواكَبُ
مع علمِ الاجتماع من حيث تعريفِه وموضوعِه ومهمَّتِه.
إنَّ
التَّعريفات الّتي يقدِّمها علماءُ الاجتماع لهذا العلم، يَتَّجه بعضُها إلى دراسة
الاجتماع من خلال أَوْسع حُجومِه وهو «المجتمع»، بِصِفَتِه أَوْسع وحدةٍ اجتماعيّة،
تَضمُّ في داخلِها كلّ الأجزاء الَّتي تَنتظمُ في هيكلٍ خاصٍّ يُطلَقُ عليه اسم «المجتمع».
وهذا التّعريف -أي دراسة المجتمع- يَأخذ جملةً من التَّحديدات، منها:
1-
النَّظر إلى المجتمع بصفته «بناءً بشريّاً» يضمُّ جماعاتٍ متنوِّعة.
2-
النَّظر إلى المجتمع بصفته «بناءً عامّاً»
يتألَّفُ من الجماعات، والتَّنظيمات، والنُّظُم، والمعايير إلخ، سواء أكانت تتحدَّدُ
في وحدةٍ جغرافيّةٍ صغيرةٍ كالقرية، أو كبيرة كالشَّعب، أو كانت تَتَحدّدُ في تُراثٍ
ثقافيٍّ. وفي هذا السِّياق، هناك من الباحثين مَن يُكسِب المجتمعَ:
أ-
صفاتٍ «آليّة»: من حيث مُشابهتِه للآلةِ في أجهزتها ووظائفها.
ب-
صفاتٍ «عضويّة»: من حيث مُشابهتِه للإنسانِ في جهازِه العضويِّ ووظائفه.
ج-
صفاتٍ «قِيمِيَّة»: بحيث يصبحُ المجتمعُ بِمنزلةِ جهازٍ «معنويٍّ»، أو شخصيَّةٍ
معنويَّةٍ لها سِماتها ومعاييرها.
وهناك
مِن الباحثين مَن يَرفضُ دراسةَ «الاجتماع» من منظورِ «الحجم»، وإنَّما يَميلُ إلى
دراسته بلحاظ:
1-
السُّلوك الاجتماعيّ.
2-
العلاقات الاجتماعيّة، أو ما يُقابلها من دائرة «الوظائف الاجتماعيّة»، أو دراسة كِلَيهما.
3-
«القوانين الاجتماعيّة» فَحَسْب.
4-
في المقابل، هناك مَن يَجعل علمَ الاجتماع
شاملاً لِمُطلَقِ ما هو نشاط اجتماعيّ، فيَتجاوز دائرةَ الحجمِ والسُّلوكِ
والقوانين وتفريعاتها، ليَتَحدَّثَ عن «الحياة الاجتماعيّة» و«الظَّواهر الاجتماعيّة»
ونحوهما من المصطلحات الَّتي تَتناول مُطلق ما هو اجتماعيّ.
طبيعةُ الموضوعات «الاجتماعيّة»
فلو
انسَقْنا مع مُصطلحِ ما هو «اجتماعيّ»، لواجهنا أنَّه يُقابلُ ما هو «انفراديّ»،
لكن هل أنَّ رقم الاثنين فصاعداً يظلُّ مشمولاً بدلالة «الاجتماعيّ» حتّى لو كان
ضئيلَ الحجمِ؟ ثمَّ هناك من الأرقام المُتجمِّعة ما تتَّسِمُ بالأهمّيّة كـ «العائلة»،
وما لا تتَّسِمُ بالأهمّيّة كـ «جماعة اللَّعب» مثلاً.
وإذا
تَجاوَزْنا ظاهرةَ «الرَّقمِ والحجمِ» إلى مُطلَقِ التَّجمُّع، فهل يَشملُ «الاجتماعيّ»
مجرَّد التَّجمُّع أم يَشتَرطُ تَفاعلَه؟
يترتَّبُ
على ذلك سؤالٌ آخَر: هل إنَّ التَّفاعلَ وحدَه كافٍ في إطلاقِ دلالةِ «الاجتماعيّ»،
أم إنَّ الاشتراك أو الخضوع لِظواهر -كَالفقرِ، والمرضِ، والغِنى- تَطبع التَّجمّع،
يَندرج أيضاً ضمن ما هو اجتماعيّ؟
وإذا
كان الأمرُ كذلك، فهنا يتكرَّر التَّساؤل السَّابق نفسُه: هل إنَّ «الحجمَ» يَتدخَّل
في تحديد ما هو اجتماعيّ، بحيث تُصبح الظَّاهرة «اجتماعيّة» حينما تَطبعُ عدداً
كبيراً من النَّاس، وهل تتدخَّل «نوعيّة» الظّاهرة في تحديد ذلك، بحيث تصبح الظّاهرة
«اجتماعيّة» في حالة اتِّسامها بالأهمّيّة فَحَسْب؟
تنوّعت
أجوبةُ علماء الاجتماع على هذه الأسئلة، فقد قصرَ بعضُهم «الاجتماعيّ» على ما هو «عامٌّ
ومهمٌّ»، واشترط آخرون «عنصر التَّفاعل»، وقالت جماعةٌ ثالثة بأنّ «علم
الاجتماع» علمٌ عامٌّ، وعليه تتفرّعُ جميع العلوم الأخرى، وعارضت رابعة بأنّ
مهمّةَ «علم الاجتماع» هي «دراسةُ حصيلة العلوم الأخرى في تفاعلاتها».
_________________________________
*
مُختصَر من كتابه (الإسلام وعلم الاجتماع)