﴿..فِطْرَةَ الله
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..﴾
مفهوم الفطرة:
المعاني والمصاديق
ـــــ الإمام
الخمينيّ قدّس سرّه* ـــــ
«يا أيّتها الفراشات
الهائمةُ حولَ شُعلة جمالِ الجميلِ المُطلَق، ويا عُشّاقَ الحبيب الخَلو من العيوب،
تصفّحوا كتابَ فطرةِ أنفسِكم، واقرأوا فيه: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ..﴾».
ما يلي، بحثٌ للإمام
الخميني قدّس سرّه في مفهوم الفطرة الإلهيّة، والّتي
اختُلف في معانيها ومصاديقها، مبيّناً أنّها -بالدّرجة الأولى- أصول الاعتقادات من
التّوحيد والنّبوّة والمعاد.
اِعلم أنّ المقصود
من ﴿..فِطْرَةَ الله
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..﴾ الروم:30 هو الحالُ الّتي
خُلق عليها النّاس والكيفيّة التي يتّصفون بها بحيث تُعدّ من لوازم وجودهم؛ ولذلك «تخمّرت»
طينتُهم بها في أصلِ الخَلْق. والفطرة الإلهيّة من الألطاف الّتي خصّ اللهُ تعالى بها
الإنسان من بين جميع المخلوقات؛ إذ أنّ الموجودات الأخرى، إمّا أنّها لا تملك مثلَها،
أو أنّ لها حظّاً ضئيلاً منها.
وهنا لا بُدَّ
من معرفة أنّ الفطرة، وإن فُسّرت في هذا الحديث الشّريف وغيره من الأحاديث بالتّوحيد
[إشارة إلى قول أبي عبد الله الصّادق عليه السلام: «فَطَرَهُم
على التّوحيد»، في تفسير الآية السابقة]، إلّا أنّ هذا
هو من قَبيل بيان المِصداق، أو التّفسير بأشرف أجزاء الشّيء، كأكثر التّفاسير الواردة
عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، وهي إنّما تُفسَّر
بمصداقٍ جديدٍ بِحَسَب مُقتضى المناسبة، فيَحسَب الجاهلُ أنّ هناك تعارضاً. والدّليلُ
على ذلك، هو أنّ الآية الشّريفة تعتبر «الدِّين» هو «فطرة الله» مع أنّ الدِّين يَشمل
التّوحيد والمبادئ الأخرى.
تحديدُ أحكام الفطرة
لا بُدَّ من
معرفة أنّ ما هو من أحكام الفطرة لا يُمكن أن يختلف فيه اثنان، بلحاظ أنّها من لوازم
الوجود وقد تخمّرت في أصل الطّبيعة والخِلقة. فالجميع، من الجاهل والمتوحّش والمتحضّر
والمدنيّ والبدويّ، مُجمِعون على ذلك. وليس ثمّة منفذٌ للعادات والمذاهب والطُّرق المختلفة
للتّسلّل إليها والإخلال بها. إنّ اختلاف البلاد والأهواء والمأنوسات والآراء والعادات
الّتي توجب وتُسبّب الخلاف والاختلاف في كلّ شيء، حتّى في الأحكام العقليّة، ليس لها
مثل هذا التّأثير أبداً في الأمور الفطريّة، كما أنّ اختلاف الإدراك والأفهام قوّةً
وضعفاً لا يؤثّر فيها. وإذا لم يَكُن الشّيء بتلك الكيفيّة فليس من أحكام الفطرة، ويجب
إخراجُه من فصيلة الأمور الفطريّة. ولذلك تقول الآية: ﴿..فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا..﴾ الروم:30، أي أنّها لا تَختصّ بفئةٍ
خاصّةٍ ولا طائفةٍ من النّاس. ويقول تعالى أيضاً: ﴿..لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ الله..﴾ الروم:30، أي لا يُغيِّره
شيء، كما هو شأن الأمور الأُخَر الّتي تختلف بتأثير العادات وغيرها.
ولكن ممّا يُثير
الدّهشة والعَجَب أنّه على الرّغم من عدم وجود أيّ خلافٍ بشأن الأمور الفطريّة، من
أوّل العالم إلى آخره، فإنَّ النّاسَ يكادون أن يكونوا غافلين عن أنّهم مُتّفقون، ويظنُّون
أنّهم مختلفون، ما لم يُنبِّههُم أحدٌ على ذلك، وعند ذلك يدركون أنّهم كانوا متّفقين
رغم اختلافهم في الظّاهر. وهذا ما تُشير إليه الجملة الأخيرة من الآية الشريفة: ﴿..وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الروم:30 .
فيتّضح ممّا سبَقَ
ذِكرُه أنّ أحكام الفطرة أكثر بَداهةً من كلّ أمرٍ بديهيّ، إذ لا يوجد في جميع الأحكام
العقليّة حُكمٌ مثلها في البَداهة والوضوح، لم يختلف فيه النّاس ولن يختلفوا. وعلى
هذا الأساس تكون الفطرة من أوضح الضّروريّات وأَبْدَه البديهيّات، كما إنّ لوازمها
أيضاً يجب أن تكون من أوضح الضّروريّات. فإذا كان التّوحيد أو سائر المعارف من أحكام
الفطرة أو من لوازمها، وَجَبَ أن يكون من أَوْضَح الضّروريّات وأجلَى البديهيّات ﴿..وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الروم:30.
الدِّين من الفطرة
اِعلم أنّ المفسِّرين،
من العامّة والخاصّة، فسّروا، كلٌّ على طريقته، كيفيّة كَوْن الدِّين أو التّوحيد من
الفطرة. ولكنّنا في هذه الوريقات لا نَجري مَجراهُم وإنّما نستفيد في هذا المقام من
آراء الشّيخ العارف الكامل (الشّاه آبادي) الّذي هو نسيجٌ وحدَه في هذا الميدان. فقد
أشار إلى أنّ بعضها قد وَرَد بصورة الإشارة والرّمز في بعض كُتب المحقّقين من أهل المعارف،
وبعضها الآخر ممّا خطر في فكري القاصر، (كما يقول).
إذاً، لا بُدَّ
أن نعرف أنّ من أنواع الفطرة الإلهيّة ما يكون على «أصل وجود المبدأ» تعالى
وتقدَّس، ومنها الفطرة على «التّوحيد»، وأخرى على «استِجماع ذاتِ الله المقدّسة
لجميعِ الكمالات»، وأخرى على «المعاد ويوم القيامة»، وأخرى على «النّبوّة»،
و«وجود الملائكة والرّوحانيّين، وإنزال الكُتب، وإعلان طريق الهداية». وهذه الأمور بعضُها من الفطرة، وبعضُها من لوازم
الفطرة. فالإيمانُ بالله تعالى وبملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه وبيومِ القيامة، هو الدِّينُ
القيِّمُ المُحكَمُ والمستقيمُ والحقّ. ولَسوف نُشير إلى الأوّل منها طالبينَ التّوفيق
من الحقّ تعالى.
وجودُ الله تعالى، من
الأمور الفطريّة
أصلُ وجود المَبدأ
المُتعال جَلّ وعلا من الأمور الفطريّة، وهذا يتّضح بعد التّنبُّه إلى أنّ «عِشق الكمال
والتَّوق إليه»، هو من الأمور الفطريّة الّتي جُبلت عليها الخلائقُ بأكملها، بحيث إنّك
لنْ تَجد فرداً واحداً في كلّ
المجموعة البشريّة يخالف ذلك، ولن تستطيع العادات والأخلاق والمذاهب والمسالك وغيرها
أن تبدّلَها ولا أن تُحدِثَ فيها خللاً، فأنتَ إنْ تأمّلتَ في جميع الأدوار الّتي مرَّ
بها النّاس، واستَنْطَقْتَ أيَّ فردٍ أو طائفةٍ أو مِلّةٍ، تجد هذا العشق والحبّ قد
جُبل في طينتِهم جميعاً، وتَجد قلوبَهم متوجّهةً نحو الكمال. بل إنّ ما يُوجّه الإنسان
ويدفعه في سَكَنَاته وحركاته، وكلّ العناء الّذي يتحمّله الفرد والجهود المُضنية الّتي
يَبذلها في مجال عمله وتخصّصه، إنّما هو نابعٌ من حبّ الكمال، على الرّغم من وجود منتهى
الخلاف بين النّاس في ما يَرَوْنَه من الكمال، وبأيّ شيءٍ يتحقّق الكمال ويشاهَد الحبيب
والمعشوق.
فكلٌّ يَجدُ معشوقَه
في شيء، ظانّاً أنّ ذلك هو الكمالُ وكعبةُ الآمال، فيَتوجّه إليه، ويَتفانى في سبيله
تَفانيَ العاشق. إنّ أهلَ الدُّنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثّروة، ويجدون معشوقهم
فيها، فيبذلون غايةَ الجهد في سبيل تحصيلها. وهكذا حالُ أهل العلوم والصّنايع، كلٌّ
يَرى الكمال في شيءٍ ويَعتقد أنّه معشوقه، بينما يرى أهلُ الآخرة والذِّكر والفِكر
غيرَ ذلك...
وعليه، فجميعُهم
يَسعون نحو الكمال. فإذا ما تَصوَّروه في شيءٍ موجودٍ أو موهومٍ تعلّقوا به وعَشقوه.
ولكن لا بُدَّ أن نعرف أنّ حبّ هؤلاء وعشقَهم ليس في الحقيقة لهذا الّذي ظنّوه بأنّه
معشوقُهم، وأنَّ ما توهَّموه وتخيَّلوه ليس كعبةَ آمالِهم. إذ لو أنّ كلَّ واحدٍ منهم
رجع إلى فطرته، لَوَجَد أنّ قلبه في الوقت الّذي يُظهر العِشقَ لشيءٍ ما، فإنّه يتحوّل
عن هذا المعشوق إلى غيره إذا وجدَ الثّاني أكمل من الأوّل، ثمّ إذا عَثَر على أكمل
من الثّاني، تركه وانتقل بِحبِّه إلى الأكمل منه، بل إنَّ نيران عشقه تزداد اشتعالاً
حتّى لا يعود قلبُه يُلقي برِحَالِه في أيّة درجةٍ من الدّرجات، ولا يَرضى بأيّ حدٍّ
من الحدود.
مثلاً، إذا كنتَ
تحبّ بهاء الطّلّة ونضارة الوجوه، وعثرْتَ على ذلك عند مَن تراه كذلك، توجُّه قلبُك
نحوه. فإذا لاح لك جمالٌ أجمل، لا شكّ في أنّك سوف تتوجّه إلى الجميل الأجمل، أو أنّك
على الأقلّ تَطلب الاثنين معاً، ومع ذلك لا تَخمد نارُ الاشتياقِ عندك، ولسانُ حالِ
فطرتك يقول: كيف السَّبيل إليهما معاً؟ ولكنّ الواقع هو أنّك تطلب كلّ جميلٍ تراه أجمل،
بل قد تزداد اشتياقاً بالتّخيّل، فقد تَتخيَّل أنّ هناك جميلاً أجمل من كلِّ ما تراه
بعينك، في مكانٍ ما، فيُحلِّق قلبُك طائراً إلى بلد الحبيب، ولسانُ حالِك يقول: أنا
بين الجَمع وقلبي في مكانٍ آخر. وقد تعشق ما تتمنّى. فأنت إنْ سمعتَ بأوصاف الجنّة
وما فيها من الوجوه السّاحرة -حتّى وإنْ لم تكُن تؤمن بالجنّة لا سمح الله- قالت فطرتُك:
ليتَ هذه الجنّة موجودة، وليت نعيمَها من نصيبي.
وهكذا الّذين يرون
الكمال في السّلطان والنّفوذ واتّساع المُلك، يتّجه حبُّهم واشتياقُهم إلى ذلك. فهم
إذا بَسَطُوا سُلطانَهم على دولةٍ واحدة، توجَّهت أنظارُهم إلى أخرى، فإذا دخلت تلك
الدّولة أيضاً تحت سيطرتهم، تطلّعت
أعيُنُهم إلى أكثر من ذلك، بل تزداد نار تطلُّعاتهم لهيباً، وإذا بَسَطوا سلطانهم على
الأرض كلّها، وتخيّلوا إمكانَ بسطِ سلطتهم على الكواكب الأُخَر، تمنّت قلوبُهم لو كان
بالإمكان أنْ يطيروا إلى تلك العوالم كي يُخضعوها لِسيطرتِهم.
وقِسْ على ذلك
أصحاب الصّناعات ورجال العلم، وغيرهم، وكلّ أفراد الجنس البشريّ، مهما تكُن مِهَنُهم
وحِرَفهم، فَهُم كلّما تقدّموا فيها مرحلة، رغبوا في بلوغ مرحلة أكمل من سابقتها، ولهذا
يشتدُّ شوقُهم وتطلّعُهم.
إذاً، فنُورُ الفطرة
قد هدانا إلى أن نعرف أنَّ قلوب جميع أبناء البشر، من أهالي أقصى المعمورة وسكّان البوادي
والغابات إلى شعوب الدُّول المُتمدِّنة، تتوجّه قلوبُهم بالفطرة إلى الكمال الّذي لا
نَقْصَ فيه، والعلمَ الّذي لا جهلَ فيه، والقدرة الّتي لا تَعجز عن شيء، والحياة الّتي
لا موتَ فيها، أي إنّ «الكمال المُطلَق» هو معشوقُ الجميع. إنّ جميع الكائنات والعائلة
البشريّة، تقول بلسانٍ واحد وبقلبٍ واحدٍ: «إنّنا نَعشق الكمال المُطلَق، إنّنا
نحبُّ الجمالَ والجلالَ المُطلَق، إنّنا نطلبُ القدرةَ المُطلقة، والعلمَ المُطلَق».
فهل هناك في جميع سلسلة الكائنات، أو في عالم التَّصوُّر والخيال، وفي كلّ التّجويزات
العقليّة والاعتباريّة، كائنٌ مطلقُ الكمال ومطلقُ الجمال، سوى «الله» تقدَّسَت
أسماؤه، وجلّت عظَمتُه؟ وهل الجميل الّذي لا نقص فيه البتّة إلّا ذلك المحبوبُ المُطلق؟
أَفي
اللهِ شكٌّ
فيا أيّها الهائمون
في وادي الحَسَرات، والضّائعون في صحاري الضَّلالات، بل أيّتها الفراشات الهائمة حول
شعلة جمال الجميل المُطلَق، ويا عشّاق الحبيب الخالي من العيوب والدّائم الأزليّ، عودوا
قليلاً إلى الفطرة، كتابِ ذاتِكم، وتصفّحوه لتروا أنّه قد كُتب فيه: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ..﴾ الأنعام:79. فهل إنّ ﴿..فِطْرَةَ الله
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..﴾ الروم:30 هي فطرة التّوجّه
نحو المحبوب المُطلَق؟ وهل إنّ الفطرة الّتي لا تتبدّل ﴿..لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ الله..﴾ الروم:30 هي فطرة المعرفة؟
فإلى متى تُوجِّهُ هذه الفطرةَ الّتي وَهَبك اللهُ إيّاها نحو الخيالات الباطلة، نحو
هذا وذاك من مخلوقات الله؟ إذا كان محبوبك هو هذا الكمال النّاقص والكمال المحدود،
فلماذا عندما تَصِل إليه يبقى اشتياقُك ملتهباً لا يَخمد، بل يَزداد ويَشتدّ؟
تَيَقَّظ من نوم
الغفلة واستَبشِر فَرَحاً بأنّ لك محبوباً لا يزول، ومعشوقاً لا نقصَ فيه، ومطلوباً
من دون عيب، وأنّ لك مقصوداً يكون نور طلعتِه هو النّور ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ..﴾ النور:35، وأنّ محبوبك
ذو إحاطة واسعة «لو دُلّيتُمْ بِحَبْلٍ إلى الأرضين السُّفلى لَهَبَطْتُمْ على الله».
إذاً، يَستوجب
عشقُك الحقيقيّ معشوقاً حقيقيّاً، ولا يمكن أن يكون شيئاً متوهّماً متخيّلاً، إذ إنّ
كلّ موهومٍ ناقصٌ، والفطرةُ إنّما تتوجّه إلى الكمال. فالعاشق الحقيقيّ والعشق الحقيقيّ
لا يكون من دون معشوق، ولا يكون غير الله تعالى معشوقاً تتّجهُ إليه الفطرة، فلازمُ
عِشْق الكمال المطلق وجودُ الكمال المطلق. وقد سبق أنّ عرفنا أنَّ أحكام الفطرة ولوازمها
أوْضح من جميع البديهيّات ﴿..أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..﴾ إبراهيم:10.
___________________
* من كتاب (التّوحيد والفطرة في كلمات
الإمام الخمينيّ قدّس سرّه)، إعداد: مركز
نون للتّأليف والتّرجمة.
*