فكر ونظر

فكر ونظر

02/10/2013

كيف يمضي المؤمن يومه؟


كيف يمضي المؤمن يومه؟

لحظات العمر، رأسمال المؤمن

_____السّيّد عبد الله الجزائريّ قدّس سرّه_____

 

«إنَّما خُلِق الإنسان للعبادة، ".." وغايتها تحصيل محبّته تعالى له بحيث يكون سمعَهُ الّذي يَسمع به، وبَصَرَهُ الّذي يُبصر به. فينبغي له استغراق الأوقات بالعبادة ظاهراً وباطناً، توسُّعاً إلى السّعادة الّتي لا سعادة فوقها».

ما يلي، مقتطفٌ من كتاب (التّحفة السّنيّة) للسّيّد عبد الله الجزائريّ قدّس سرّه (ت: 1180 للهجرة)، يعرض نموذجاً من سياق عمل المؤمن في نهاره وليله، وما ينبغي أن يكون عليه في جميع أحواله.

 

هنا الأعمال الّتي يوظّفها الإنسان على نفسه في أوقاته ضبطاً لها عن الانتشار وحفظاً عن الضّياع، إنَّما خُلِق الإنسان للعبادة كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:56، وغايتها تحصيل محبّته تعالى له بحيث يكون سمعَهُ الّذي يَسمع به، وبَصَرَهُ الّذي يُبصر به. فينبغي له استغراق الأوقات بالعبادة ظاهراً وباطناً توسُّعاً إلى السّعادة الّتي لا سعادة فوقها، وذلك بأنْ يَذكرَ اللهَ في مجامع أحواله كلِّها رجاء الفلاح كما قال تعالى في غير موضعٍ من كتابه العزيز: ﴿..وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الأنفال:45.

 

نموذج عباديّ

ففي النّهار يشتغل بعد صلاة الفجر إلى الإشراق، وهو ساعة طلوع الشّمس، بالأذكار والأدعية المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام أفضل، لازماً هيئته في الصّلاة ومكانه الّذي أدَّى فيه الفرض في المسجد أو غيره، إلَّا أنْ يخاف في المسجد مداخلة الرّياء فيَبطل عمله، أو التّشويش فيَنقص بسبب ما يفوته من حضور القلب، فالأَوْلى حينئذٍ أن يرجع إلى بيته ويَلزم زاويةً للخلوة بِوِرْدِه، حذراً من الرّياء أمام أهل بيته وتشويشهم.

وبهذا التّفصيل يَجمعُ بين ما يدلّ على أنَّ العبادة في المسجد أفضل، وكذا التّعقيب في محلِّ الصَّلاة، وبين ما يدلُّ على أنَّ الإسرار بالتّطوُّعات أفضل. ولا يتكلَّم في أثناء تعقيبه لغير ضرورةٍ، فإنَّه يُضرُّ بالتّعقيب ما يُضِرُّ بالصّلاة كما عرفت.

ويشغل بها بعد العصر إلى المغرب كذلك؛ فوَرَد الأمرُ بالذِّكر في الوقتَين، قال الله تعالى:  ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ الإنسان:25، على أنَّ المُراد بالبُكرة أوّل النّهار دون السّاعة التّالية للإشراق، والأصيل آخر النّهار. وقال سبحانُه: ﴿..وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا..﴾ طه:130، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿..وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ غافر:55، والعشيّ أيضاً آخر النّهار. وفي الحديث القدسيّ: «يا ابن آدم اذكُرني بعد الفجر ساعة وبعد العصر ساعة أَكْفِكَ ما بينهما»، وعن النّبيّ صلّى الله عليه وآله: «أيُّما امرءٍ مسلمٍ جلس في مُصلَّاه الّذي صلّى فيه الفجر يذكر الله حتّى تَطلع الشَّمس، كان له من الأجرِ كَحاجِّ بيت الله»، وفي روايةٍ أخرى «..سَتَرَهُ اللهُ من النّار».

 

عملٌ وعلمٌ، وكلّه للهِ تعالى

ثمَّ بعد الفراغ من ذلك يشتغل أهلُ الأشغال الرّاتبة بأشغالهم؛ فالعالِم والمتعلِّم المتجرّدان لهما بالعلمِ النّافع، وهو علمُ الآخرة ومقدّماته، فوَرَد أنَّ طَلَبَه فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ، وأنَّ اللهَ يحبُّ بُغاته، وأنّه يرجحُ مدادُ أهلِه على دماءِ الشّهداء، وأنّ الملائكةَ لَتَضع أجنحتها لِطالِبِيه، وأنَّه أفضل من صلاة ألف ركعة، وشهود ألف جنازة، وعيادة ألف مريض، وقراءة القرآن. والمُشتغلُ بأمورِ النّاس كالقاضي، والمُفتي، والوالي، ومَن يَرتبط بهم كالكاتب والقسّام، والمُحتَسب والمحاسب، أو بأمور نفسه كالكاسب، والأجير، يَشتغلُ بتلك الأمور ناوياً بها القيام بالفرض العَينيّ أو الكفائيّ وغير ذلك من القُصود الممكنة، مراعياً شروطها المُعتبَرة في الشّرع، ذاكراً لله تعالى بقلبه في أثنائها، فإنّه غيرُ منافٍ لاشتغال الجوارح، محضراً قلبه ما مَدح اللهُ به قوماً من الصَّالحين بذلك، بقوله: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله..﴾ النّور:37، قاصراً في كَسْبِه على قدرِ الحاجة، أو إعانة المؤمن أو المؤمنين بالخيرات العامّة، متفرِّغاً في فاضل الوقت للعبادة والرّاحة.

وأمّا غيرهم من الّذين لا شغل راتباً لهم، يشتغلون بغيرها من محاسن الأحوال المعدودة من العبادات كعيادة المريض، وتشييع الجنازة، وقضاء حاجة المؤمن، وحضور مجلس العلم، وزيارة القبور والمزارات المتبرّكة، وقراءة القرآن، وإماطة الأذى عن الطّريق، إلى غير ذلك. وإيّاهم والاشتغال بالملاهي والمخازي الّتي يقود إليها الفراغ، لا سيَّما إذا انضمَّت إليه الجِدَة [التّمكّن المالي]، فإنِ انضمّ إليهما الشّباب كان الدّاء العُضال. ومَن وَجَد في نفسه من البطّالين ضعفاً عن الانضباط عنها، فليُكثر النَّوم فإنَّه أحسن أحواله، وورد أنَّ النّاس ثلاث: غانِمٌ، وسالِمٌ، وخاسِرٌ؛ فمَن لم يكُن غانِماً فلا يكُن خاسراً، ومَن عجزَ عن الغنيمة فليطلب السّلامة بالهزيمة.

وفي يقظته يشتغل أيضاً بنحو المُشاعَرة [أساليب الانشغال بالشّعر كالتّقفية، والتّقطيع، وغيرهما]، ومطالعة كُتُب التّاريخ ونحوهما، ممّا يلهيه عن الكذب، والغِيبة، والنّميمة، وغيرها ممّا امتلأت به مجالس هذا الزّمان، جعلنا الله تعالى وإيّاكم من شرِّها في أمانٍ.

 

ليلُ المؤمن

وفي اللّيل يحافظ على وظائف ما بين العشائَين من الأذكار والنّوافل الرّاتبة وغيرها، وهو إحدى ساعتَي الغفلة، وعلى قيامه بالتّهجّد، فقد مَدح اللهُ قوماً بذلك في غير موضعٍ من القرآن، كقوله عزَّ وجلَّ: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا..﴾ الزّمر:9، وفُسِّر في حديث أبي جعفر عليه السلام بصلاة اللّيل. وفي قوله سبحانه في الأخبار عن عِبَاد الرّحمن: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ الفرقان:64، وفي الحديث: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتنَّ إلَّا بوترٍ»، وفيه: «الوتر في كتاب عليّ واجب»، والظّاهر أنَّ المراد به الرّكعات الثّلاث كما هو الشّائع في الأخبار وكلام المتقدِّمين، ويعبِّرون عن الأخيرة بمفردة الوتر. وورد عن أبي عبد الله عليه السلام أنّ: البيوت الّتي يُصلّى فيها باللّيل بتلاوة القرآن تضيء لأهل السّماء كما تضيء النّجوم لأهل الأرض، وورد في فضل صلاة اللّيل عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّها تبيِّض الوجه، وتطيِّب الرِّيح، وتجلبُ الرّزق، وفي حديث آخر عنه عليه السلام أيضاً أنّها تحسِّن الخُلُق، وتقضي الدَّين، وتذهب بالهمِّ، وتجلو البصر. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: «قيامُ اللّيل مصحَّةٌ للبدن، ورضًى للرَّبّ، وتمسُّكٌ بأخلاق النّبيّين وتعرُّضٌ للرَّحمة».

وبالجملة فضل قيام اللّيل من ضروريّات الدِّين، وأدناهُ القيام قبل طلوع الصُّبح وأداء الثّلاث عشر ركعة: ثمانٍ اللّيل، وثلاث الشّفع والوتر، وركعتَي الفجر الدَّسّاستَين، والأَوْلى الإتيان بقراءاتها الموظّفة، والاستغفار في قنوت مفردة الوتر سبعين مرّة لنفسه، ثمّ لأربعين من إخوانه فصاعداً، يُسمِّيهم بأسمائهم، ثمّ يستغفر الله ويتوب إليه سبعين، والمائة أكمل. وليَحفظ العدد كما سبق مع الأدعية المأثورة قبل الشّروع وفي الأثناء، والقنوتات وهي كثيرة مذكورة في مظانِّها.

ولا يُكابِد -أي يُقاسي الكَبَد بالفتح وهو الضِّيق والشّدّة- بقيام كلّ اللّيل، فيَمنع العينَ حقّها، ففيه تعبُّد الملال المُحذَّر عنه، ووَرَد في الحديث أنَّ إثمَه أكبر من نفعِه، لأنَّه ينجرُّ إلى التَّرك، فإذا غلَبَهُ النَّومُ فليرقد، وإنْ لمْ يُكمل وِرْدَه، فإذا انكسَرَت شرّة النّفس فليَعُد إليه، فوَرَد في النّبويّ بألفاظٍ متقاربة قد مرَّ بعضُها: «إنَّ هذا الدِّين متين فأوْغِلُوا فيه برفقٍ ولا تبغِّض إليك عبادةَ الله، إنَّ المُنْبَتَّ [يعني المُفرِط] لا ظهراً أَبقى ولا أرضاً قَطَع»، وفي آخر: «تكلَّفوا في الدِّين ما تطيقون».

وإذا وجد في نفسه خفَّةً في النّهار، فليَقْضِ ما فاته من نوافل اللّيل، ولا يخرج من منزله ليلاً إلَّا لحاجةٍ مهمّة، وليُسرع العَوْد.

 

كلُّ عينٍ باكية يوم القيامة، إلّا ثلاثة...

وينبغي أن يكثر البكاء من خشية الله؛ فوَرَد عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله برواية أبي حامد: «حُرِّمت النّارُ على ثلاث أَعْيُنٍ»، وفي (الكافي) و(الخصال): «كلُّ عينٍ باكية يوم القيامة إلَّا ثلاثةُ أعينٍ: عينٌ سهرت في سبيل الله، وعينٌ غُضَّت [بضمِّ الغين] عن محارم الله، وعينٌ بَكَت من خشية الله»، وعن أبي عبد الله عليه السلام: «ما مِن شيءٍ إلَّا وله كَيْلٌ ووزنٌ إلَّا الدُّموع، فإنَّ القطرة تُطفئ بحاراً من نارٍ»، وعنه عليه السلام: «إنْ لمْ يَجِئك البكاء فتباكَ، فإنْ خرج منك مثل رأس الذّباب فبَخٍ فبَخٍ»، دون أن يُكثر الضّحك فهو يُميتُ القلبَ كما في حديث أبي عبد الله عليه السلام وفي آخَر الدِّين، ويَذهبُ بالنُّور وبماء الوجه، ويمجُّ الإيمانَ مجّاً، ويترك الرّجل فقيراً يوم القيامة. وورد في التّنزيل: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا..﴾ التوبة:82، وفي الخبر: «لا تُبْدِيَنَّ عَنْ وَاضِحَةٍ، وقَدْ عَمِلْتَ الأَعْمَالَ الْفَاضِحَةَ..[الواضحة: الأسنان تبدو عند الضّحك]».

 

آداب العطس

ويَحمد اللهَ ويُصلِّي على النّبيّ وآله صلّى الله عليه وآله إذا عَطَس أو سَمعه ولو في أثناء الصَّلاة. وعن أبي عبد الله عليه السَّلام: «مَن عَطَس ثمَّ وَضعَ يدَه على قصبةِ أنفِه ثمّ قال: الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين كثيراً كما هو أهلُه وصلّى اللهُ على محمَّدٍ وآلِه وسلَّم»، ".." ويَخفض صوتَ العطاس ما أمكن، فالتّصريح به حُمق. وعن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: ﴿..إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ لقمان:19، قال: العطسة القبيحة. وفي آخَر: كان رسولُ الله صلّى الله عليه وآله إذا عَطس يغضُّ صوتَه ويَستَتر بثوبِه أو يدِه، ورُوي خمَّر وجهَه [تخمير الوجه: تغطيته].

..والتّثاؤب

ويَسترُ الفمَ باليَد عند التّثاؤب؛ ففي النّبويّ: «التّثاؤب من الشّيطان، فإذا تثاءب أحدُكم فليَضع يده على فِيه، فإذا قال: آه آه، فإنَّه الشّيطان يضحك من جوفه»، ويُلقي البزاق في جهة اليسار، أو تحت القدم اليسرى دون القبلة واليمين لِمنافاته التّعظيم، وإذا تعارض اليَسارُ والقبلةُ تَعَيَّن تحت القدم، والقدّام كالقبلة ويُحتمل أن يكون هو المُراد بها.

..والجلوس

ويَستقبل القبلة في الجلوس فهو عبادة وهو من السُّنّة، وكذا في التَّوجُّه وفيه قوّة البصر، فإنّها أضوأ في البلاد الشّماليّة، وهي معظم بلاد الإسلام. ويَجتنب الشّمس ويقصد أن يجلس موضعاً أقرب إلى التّواضع منه إلى التّكبُّر، أو من موضعه المرتَّب فيه عادةً. وإذا دَخَل على قومٍ فحيث يجد متَّسعاً، ولا يُفرِّق بين اثنين متلاصقَين ولا سيّما إذا كانا مُتَحادثَين، ولا يُقيم أحداً ليجلسَ مكانه فالسّابق أوْلى، ويُحيِّي بالسّلام وغيره من يقربه في النّادي "..".

(التّحفة السّنيّة، الجزائريّ)

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

03/10/2013

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات