مفهوم
الأمن في الحياة الإسلاميّة
_____ السّيّد
محمّد تقي المدرّسيّ* _____
· «كلمة الأمن أو السّلام
في المصطلح الحديث، وبالذّات في عُرْف الحقوقيّين والسّياسيّين، تختلف عنها في
كلمات الوَحي والفقهاء. فالأمن يُطلَق اليوم على النّظام القانونيّ والسّياسيّ الّذي
يضمن تنفيذ القانون ومنع الاعتداء. بينما تُطلَق هذه الكلمة في الدِّين ومصادره
على معنى يجمعه انعدام الخوف والحزن. ومعروفٌ أنَّ إنعدام الخوف، إنّما يكون بتوفُّر
كلّ عوامل السّلام والاستقرار والدّعة».
· بهذا التّمهيد لـ
«معنى الأمن»، نقرأ هذه المقالة المستلّة من كتاب العلّامة السّيّد محمّد تقي
المدرّسيّ (الوجيز في الفقه الإسلاميّ).
تمهيـد:
الأمن،
الحاجة الأولى والأشدّ ضرورة الّتي يتحسَّس بها كلّ حيّ، وهدفه الحفاظ على الذّات
ومكتسباته، ويتجلّى في مستوياتٍ شتّى:
1-
فهو حاجة نفسيّة تتجلّى في أسمى صُوَرها بالسّكينة والسّلام وطهارة القلب من الحرج
والخوف والحزن، ومن نوازع الشّرّ والبَغي والعدوان.
2-
وهو خُلُقٌ فاضل، قوامه الاعتدال واجتناب الإثم والفحشاء.
3-
وهو سلوكٌ اجتماعيٌّ حسن، يَحترم به الفرد حقوق الآخرين في كلِّ الأبعاد.
4- وهو تطلُّع مدنيٌّ
سامٍ يبلغ به النّاس إلى مجتمع التّوحيد، حيث لا يتّخذ النّاسُ بعضهم بعضاً
أرباباً.
5-
وهو نقاءٌ ثقافيٌّ، لا زور فيه ولا افتراء على الله، ولا صدود عن الحقّ.
والأمن
بهذا المفهوم هو الوجه البارز من الإيمان، ولذلك تَتشابه كلمتا الأمن والإيمان في
الاستخدام، فالمؤمن هو الّذي يعطي الأمان، والمؤمن هو المعترف بكلّ حقّ. إنَّ
الإيمان يستدعي قبول الإنسان بكلّ حقٍّ لكلّ شيءٍ؛ حقّ الله سبحانه، وحقّ خَلْقِ
الله، وحقّ النّفس، وحقوق الآخرين. وتُسمّى الحقوق هذه بالحُرُمات، لأنَّ المؤمن
يحترمها ويعتمدها ولا ينتهكها. فإذا توفَّرت الحرّيّة من جانبي فقد توفّرت الحرّيّة
من جانبك. فإذا آمنتُ واعترفتُ بحقِّك في التّعبير، فإنّ ذلك يعني إنّني أُعطيك حرّيّة
التّعبير. وهكذا تندمح القِيَم العُليا للدِّين في بعضها؛ أي الأمن والعدل والحرّيّة.
فالأمن لا يتحقّق من دون أداء الحقوق، وأداء الحقوق يوفِّر حرّيّة النّاس.
وفي
ما يلي نستعرض الحقول المختلفة للأمن:
أمن؛
السّكينة في النّفس
القرآن الكريم:
1-
﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ﴾ النّور:55.
2-
﴿إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ
رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ
الْأَقْدَامَ﴾ الأنفال:11.
3-
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ الفرقان:63.
4-
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ
أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ
آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ
وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ الأنعام:81-82.
5-
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ
وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ
بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ الفتح:26.
6-
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ الفتح:4.
السُّنّة الشّريفة
1-
رُوي عن أمير المؤمنين عليه
السّلام
أنّه قال: «لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يعلمَ أنَّ ما أصابَه لم يكُن لِيُخطئه،
وأنَّ ما أخطأَه لم يكُن لِيُصيبه، وأنَّ الضّارَّ النّافع هو الله عزَّ وجلَّ».
2-
قال الإمام الصّادق عليه السّلام: «إنَّ روحَ
الإيمان واحدةٌ خَرجَت من عند واحدٍ، ويتفرَّق في أبدانٍ شتّى. فعليه ائتَلَفت وبه
تحابّت، وسيَخرج من شتّى ويعود واحداً ويرجع إلى عند واحدٍ».
3-
وقال عليه السّلام في حديثٍ آخَر: «من
صحّة يقين المرء المسلم ألَّا يُرضي النّاس بِسخطِ الله، ولا يلومُهم على ما لم
يؤته الله. فــإنَّ الـرِّزق لا يسوقُه حرصُ حريصٍ، ولا يردُّه كراهيةُ كـارهٍ.
ولو أنَّ أحدَكم فرّ من رزقــه كما يفرُّ من الموت، لأدرَكَهُ رزقُه كما يدركُه
الموت. ثمّ قال: إنَّ الله -بعدلـه وقسطه- جعل الرَّوح والرّاحة في اليقيــن
والرِّضـا، وجعل الهـمَّ والحزنَ في الشّكِّ والسّخط».
4-
ورُوي عن الإمام الصّادق عليه
السّلام
أنّه قال: «ما من شيءٍ إلّا وله حدّ، فقيل له: فما حدُّ اليقين؟ قال: أن
لا تخاف (مع الله) شيئاً».
5-
وروى هشام بن سالم أنّه سمع الإمام الصّادق عليه السّلام يقول لحمران بن أعين: «يا حمران؛ اُنظر إلى مَن هو
دونك، ولا تنظر إلى مَن هو فوقك في المقدرة، فإنَّ ذلك أقنَع لك بما قُسِم لك، وأحْرى
أن تستوجب الزّيادة من ربِّك. واعلم أنَّ العمل الدّائم القليل على اليقين، أفضل
عند الله من العمل الكثير على غير يقين. واعلم أنَّه لا وَرَع أنفع من تجنُّب
محارم الله، والكفّ عن أذى المؤمنين واغتيابهم، ولا عَيش أهنأ مِن حُسن الخُلُق،
ولا مال أنفع من القنوع باليسير المجزئ. ولا جهل أضرّ من العُجْب».
6-
وجاء في الحديث المأثور عن الإمام الصّادق عليه السّلام: «حبُّ الله إذا أضاء على سرِّ عبدٍ أخلاهُ عن كلِّ
شاغلٍ، وكلّ ذِكرٍ سوى الله عندَه ظُلْمة. والمحبُّ أخلص النّاس سرّاً لله، وأصدقهُم
قولاً، وأوفاهُم عهداً، وأزكاهُم عملاً، وأصفاهُم ذكراً، وأعبدهُم نفساً، تتباهى
الملائكة عند مناجاته وتفتخر برؤيته، وبه يَعمر اللهُ تعالى بلاده، وبكرامته يُكرم
عباده؛ يعطيهم إذا سألوا بحقِّه، ويدفع عنهم البلايا برحمته، فلو علم الخَلْق ما
محلّه عند الله، ومنزلته لديه، ما تقرَّبوا إلى الله إلَّا بتراب قدمَيه».
بصيرة الوحي
الإيمان
بالله والثّقة به والتّوكّل عليه، واتِّقاء عصيانه والحذر من عذابه والوَرَع عن
محارمه. كلّ أولئك عوامل الأمن والسّكينة والرّضا. وحينما يكون القلب مطمئنّاً
بالإيمان، طاهراً من الحميّة، عامراً بالحبّ والرّضا، سليماً من الفواحش الباطنة
(كالحقد والحسد والكبر)، حينذاك يسود السّلام والأمن سائر أبعاد حياة الفرد.
تفصيل الأحكام
1-
علينا أن نسعى لزرع المحبّة والسّلام في القلوب، وتنمية روح الثّقة والتّواضع
وتطهير النّفوس من الحميّات والرّذائل.
2-
ويتمّ ذلك عبر إصلاح المناهج التّربويّة وبالذّات في المدارس ولا سيّما في المرحلة
الابتدائيّة، وكذلك إصلاح المناهج الثّقافيّة الّتي يتَّبعها الوالدان في التّعامل
مع أبنائهم.
3-
وتلعب الأمُّ الدَّور الأكبر في تثقيف الأبناء بالكلمة الطّيّبة إذا كانت هي مثقّفة،
ولكنّ المرأة أُهمِلَت في بلادنا إهمالاً ولفترة طويلة. لذلك ينبغي اليوم أن نجعل
من صلب اهتمامات المجتمع: إنشاء دورات [تأهيليّة] للنّساء، أو دروس في المعاهد
والجامعات، خاصّة بأساليب التّربية الصّالحة.
4-
وعلى الهيئات الدّينيّة، والجمعيّات الخيريّة، والحركـات المنظِّمة، أن تفكِّر،
بجدّيّة، بتربية الأجيال الصّاعدة عبر برامجها التّثقيفيّة. وعليها أن تقدِّم
المصالح العامّة على المنافع السّياسيّة العاجلة، فلا تربِّي المنتمين إليها على
الضّغينة والعصبيّة والرُّوح السّلبيّة، فإنّها تظلم -بذلك- أولئك المنتمين، كما
تفسد المجتمع، وتزرع بذور الفتنة.
5-
وكذلك على الطّوائف الدّينيّة والمرجعيّات الإسلاميّة والحوزات العلميّة، أن تكون
حذرة من نوع التّوجيه؛ فلا تغلِّب القضايا الخاصّة على القضايا العامّة للأمّة
فتساهم في البلبلة والارتياب، وانعدام السّكينة الإيمانيّة من النّفوس، بل عليها
بتوحيد المؤمنين والتّقريب في ما بينهم.
6-
إنَّ من أسمى صفات الخير: الرِّضا وتسامي الفرد إلى حيث التّسليم لقضاء الله
وقدره، ومن هنا فعلى كلّ من يقوم بالتّثقيف والتّربية؛ الاهتمام بتنمية هذه الصّفة
في المجتمع، لكي تورث السّكينة في النّفس وتخدم الأمن والسّلام.
7-
وعلى الإنسان -لكي يحقّق الرِّضا في نفسه- أن يقيس أموره الدّنيويّة بمن هو أدنى
نصيباً منه، فإنَّ ذلك يزيده رضاً بما لديه، وشكراً وغنًى نفسياً.
8-
وعلينا أن نجعل حبَّ الله محوَراً أساسيّاً لتربية النّاس، حتّى يعيشوا الأمن والسّلام،
فإذا بلغت النّفسُ درجة حبِّ الله سبحانه فقد بَلَغت درجةً سامية، إذ الحبّ -في ما
يبدو- تطلُّع سامٍ للنّفس، وانجذاب إلى الأعلى، وعطاء وإحسان ووعي عميق للحقيقة.
______________________________
* من كبار علماء الدّين
في العراق