الهِجرة والمُهاجر*
عروةٌ
وثقى بين البُعد المعنويّ والبُعد الواقعيّ التّاريخيّ
_____العلّامة المجلسيّ
قدّس
سرّه_____
المهاجر مَن هَجَر السّيّئات؛ أي ليس
المُهاجر الّذي مَدَحَهُ اللهُ مقصوراً على مَن هاجر من مكّة إلى المدينة قبل
الفتح، أو هاجر من البدو إلى المدينة، أو هاجر من بلاد الكفر عند خوف الجَور
والفساد وعدم التّمكُّن من إظهار شعائر الإسلام، كما قيل في قوله تعالى: ﴿يا
عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾
العنكبوت:56، وهذه هي المعاني المشهورة له، بل يَشمل مَن هجَرَ السّيّئات؛ لأنَّ
فضلَ الهجرة بالمعاني المذكورة إنَّما هو للبُعد عن الكفر والمعاصي، ولذا لا فضل لِمَن
هَاجَر منافقاً أو كافراً، كالمنافقين الغاصبين لِحقوق أئمَّة الدِّين؛ فإنَّه لا
فضل لهم ولا يُعدُّون من المهاجرين، فمَن هجر الكفر والسّيّئات والجهل والضَّلال
مشاركون معهم في الفضل والكمال.
ويُحتَمَل أن يكون المُراد أنَّ
المهاجرين بالمعاني المذكورة، إنَّما يستحقُّون هذا الاسم إذا هجروا السّيّئات على
سياق سائر الفقرات.
قال في (النّهاية): الهجرة في الأصل اسم
من الهجر ضدّ الوصل، وقد هَجَرهُ هجراً وهجراناً، ثمَّ غَلَب على الخروج من أرضٍ
إلى أرضٍ وتَرْكِ الأولى للثّانية، يُقال منه هاجر مهاجرة، والهجرة هجرتان إحداهما
الّتي وَعَد اللهُ عليها الجنّة في قوله: ﴿إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا..﴾ التّوبة:111؛
فكان الرَّجل يأتي النّبيَّ صلّى الله عليه وآله ويَدَع أهلَه ومالَه لا يرجع في
شيءٍ منه، وينقطعُ بنفسه إلى المهاجرة، فلمّا فُتِحَت مكّة، صارت دار الإسلام
كالمدينة وانقطعت؛ والهجرة الثّانية: مَن هاجرَ من الأعراب وغزا مع المسلمين ولم
يفعل كما فعل أصحابُ الهجرة الأولى فهو مهاجر، وليس بداخلٍ في فضل مَن هاجر تلك
الهجرة، وهو المُراد بقوله: لا تنقطع الهجرة حتّى تنقطع التّوبة، فهذا وجه الجمع
بين الحديثَين، وفيه: هاجروا ولا تهجروا، أي أخلِصوا الهجرة لله ولا تتشبَّهوا
بالمُهاجرين على غير صحّة منكم، انتهى.
وقال الرّاغب الأصفهانيّ: المهاجرة في
الأصل مُصارَمة الغير ومتاركته، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ البقرة:218، وأمثاله. فالظّاهر منه
الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان، كما هاجر من مكّة إلى المدينة، وقيل: يقتضي
ذلك ترك الشّهوات والأخلاق الذَّميمة والخطايا. وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿..وَقَالَ
إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ العنكبوت:26،
أي تاركٌ لِقومي وذاهبٌ إليه، وكذا المجاهدة تقتضي مع مجاهدة العدوّ مجاهدة النّفس،
كما رُوي في الخبر: «رجعتُم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»، وهو
مجاهدة النّفس.
_________________
* مرآة العقول في شرح أخبار آل الرّسول