﴿.. أَفَإِنْ مَاتَ أَو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ..﴾
مقدِّماتُ الرِّدّة ظهرَتْ في أُحُد
ـــــ الشّيخ عليّ كوراني ـــــ
أرشدَ القرآنُ الكريم، الّذي هو كتابُ هدايةٍ للبشريّة،
إلى أنّ هناك انقلاباً سيحصل بعد وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وآله، وأنّ مقدِّمات هذا الانقلاب، أو الارتداد إلى
الجاهليّة، ترجعُ إلى ما حصل في معركةِ «أُحُد»، ولاحقاً في معركة «الأحزاب»، وأخيراً
في «حجّة الوداع».
ما يلي، مختصرٌ لقراءةٍ في دلالاتِ آيةِ الانقلاب على
الأعقاب من سورة «آل عمران»، ورد في كتاب (جواهر التّاريخ) لسماحة العلّامة الشّيخ
عليّ كوراني.
قال اللهُ تعالى في سورة آل عمران: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ* وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً وَسَيَجْزِي اللهُ
الشَّاكِرِينَ﴾ آل عمران:142-144.
هذه ثلاثُ آياتٍ من أربعين آية نزلت في معركة أُحُد، من
الآية 139 إلى الآية 179 من سورة آل عمران، يوم افتُضِح الصّحابة وهربوا! بعضُهم عَدْواً
متسلّقين جبلَ أُحُد، وبعضهم ركضاً إلى المدينة! تاركين النّبيّ صلّى الله عليه وآله لِسيوفِ قريشٍ ورماحها! ولم يَثبُتْ معه صلّى الله عليه وآله إلَّا أمير المؤمنين عليٌّ عليه السّلام، وأبو دُجانة الأنصاريّ، ونسيبة بنت كعب!
واغتَنَمت قريشٌ فرصةَ فرارِ الصّحابة! فركَّزَت حَمَلاتِها
لقتلِ النّبيّ صلّى الله عليه
وآله، وعليٌّ عليه السّلام يردُّها الواحدةَ تلوَ الأخرى! وقد قاتل النّبيُّ صلّى الله عليه وآله في أوّل الأمر قتالاً شديداً، رمياً بالقوس، وضرباً
بالسّيف، وطعناً بالرّمح، ثمّ عملَ بِأمرِ ربِّه فانتهى إلى صخرةٍ فاستَتَرَ بها لِيَتّقيَ
بها من سِهام المُشركين، فلمْ يَلبثْ أبو دجانة إلّا يسيراً حتَّى أُثخِن بالجراح،
وعليٌّ عليه السَّلام لا يُبارزُ فارساً ولا راجلاً إلّا قتلَه اللهُ على يدَيه
حتّى انقَطَع سيفُه، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وآله ذا الفقار، وكانت تأتي الحملةُ وأمامها فوجُ الرِّماة، أو الفرسان، فيحملُ
عليهم عليٌّ عليه السّلام، ويشقُّ صفوفَهم ويَقتلُ قائدَهم، فينهزمون!
كان جيشُ المسلمين في معركةِ أحُدٍ نحو ألف مقاتل،
والمشركون نحو ثلاثة آلاف، وقد انتَصَر المسلمون أوَّلَ الأمر، لكنّهم عَصوا النّبيَّ
صلّى الله عليه وآله، وتَركوا مواضِعَهم ورَكضوا لِيَجمعوا الغنائم، فاغتَنَم
الفرصةَ خالدُ بن الوليد وباغَتَ المسلمين فالتفَّ عليهم مِن خلفهم، وحَمَلَ ابن قَميئة
على النّبيّ صلّى الله عليه
وآله، ووَصَل إليه
بضربةٍ خفيفةٍ فتَخيَّل أنَّه قَتَلَه، وصاح المشركون وإبليسُهم: قُتِل محمَّد!
فانهَزَمَ الصَّحابةُ وصدَّقوا الخبر! وظهر نفاقُ بعضِهم، فنادى: «أَلَا إنّ محمَّداً
قد قُتل فارجعوا إلى دينِكُم الأوَّل»! واجتمع الفارُّون على الجبل عند صخرةٍ، وقرَّروا
أن يُوَسِّطوا ابنَ أبي سلول، رئيسَ المنافقين في المدينة، فيَأخذ لهم الأمانَ من
أبي سفيان!
ثلاثُ مسائل في تفسيرِ آيةِ الانقلاب
المسألة الأولى: في أقسام المسلمين في الآيات الأربعين
من سورة آل عمران، وأهمّ صفاتهم.
القسم الأوَّل: الطّيّبون، المجاهدون، المقاتلون، الثّابتون، المُحسنون،
الرِّبِّيّون، الّذين هم الأعلَون، لا يَهِنون ولا يَحزنون.
القسم الثّاني: المنافقون، الّذين تخلّفوا عن المعركة بقيادة عبد الله
بن أبي سلول. ﴿الَّذِينَ
قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَو أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا..﴾ آل عمران:168.
القسم الثّالث: المؤمنون أصحاب الذُّنوب، الّذين استَزَلّهم الشّيطان
ببعض ذنوبهم فهَربوا وتَركوا النّبيَّ صلّى الله عليه وآله لِسيوف قريش! ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ
عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ آل عمران:155.
القسم الرّابع: طائفة الفارّين المُنافقين الّذين لم يغتمّوا لِفرارِهم،
ولم يُنزِل اللهُ عليهم النُّعاس [النُّعاس بمعنى السّكينة، وقد ورد التّعبير في صدر الآية 154]: ﴿..وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ
الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمرِ مِنْ شَيءٌ
قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ
يَقُولُونَ لَوكَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَو كُنْتُمْ
فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى
مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِي اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور﴾ آل عمران:154. وهؤلاء
هم المعنيُّون بآيةِ الانقلاب، وقد ذكرَ اللهُ تعالى لهم خمسَ صفات، وهي غير الصّفات
السّلبيّة الّتي تُفهم من مقارنتِهم بالمؤمنين:
1- أنّهم طائفةٌ مستقلّةٌ في
مقابل طائفةِ المؤمنين، وإنِ اشتركوا معهم في الفرار.
2- أنَّ ظنَّهم باللهِ تعالى
ظنٌّ جاهليٌّ، لأنّ نظرتَهم إلى الله تعالى وعقيدتَهم به ما زالت جاهليّة، أو أقرب
إلى الجاهليّة منها إلى الإسلام، فهم يتعاملون مع الله تعالى بمعادلاتِ النّفع الدّنيويّ،
كما يتعاملُ المشركون مع أصنامِهم، وكما يتعاملُ اليهود مع معبودِهم! ولا يعتقدون
بهَيمنتِه وقدرتِه وحكمتِه وإدارتِه لرسوله صلّى الله عليه وآله، للوصول به إلى الهدف الصَّحيح كما يعتقد الرّسول صلّى الله عليه وآله والمؤمنون!
3- أنّهم يَرَون أنّ قيادتهم هم
أفضل من قيادة النّبيّ صلّى الله عليه وآله وقيادة الله تعالى، فبمجرّد أنْ رَأَوا رَجَحان كفّة المشركين في المعركة،
أنْحَوْا باللّائمةِ على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وعلى ربِّه سبحانه!
4- أنّهم منافقون يُظهرون للنّبيّ
صلّى الله عليه وآله أنَّهم مؤمنون باللهِ وبرسولِه، ولكنَّهم كذّابون، فهم
لا يسلِّمون بالأمرِ لله ورسولِه، بل يريدون أنْ يكونَ الأمرُ لهم، أو تكون لهم
شراكةٌ فيه! ﴿..يُخْفُونَ
فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَو كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيءٌ
مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا..﴾ آل عمران:154! وقصدُهم بقولهم: ﴿..مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا..﴾ أي ما قُتل مَن قُتل من المسلمين في أُحُد! فَهُم مع
نفاقهم يتكلّمون باسم المسلمين!
وكلامُهم هذا قد يكون في الجبل أو في الطَّريق، أو بعد
رجوعهم إلى المدينة وفي غياب النّبيّ صلّى الله عليه وآله! وهو محاولةٌ خبيثةٌ لِتحريكِ المسلمين ضدّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وتحميله مسؤوليّة هزيمة أحُد وقَتْلِ مَن قُتِل فيها،
ومطلبهم أنْ يكونَ لهُم من الأمرِ شيء، فلا يتصرّف النّبيُّ صلّى الله عليه وآله في المواجهات القادمة بمفرده، بل تكون القيادة جماعيّة!
وهم في مَنطقِهم هذا يتناغمون مع منطقِ ابن أبي سلول وحزبِه الّذين تخلّفوا عن أُحُد،
ممّا يشير الى أنّ لهم علاقةً معهم!
5- أنّ مشكلتَهم عبادةُ ذواتِهم
واهتمامُهم بها، وعدم الاهتمام بأمر الإسلام والمسلمين! ﴿..وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ
يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ..﴾ آل عمران:154. صدَّقوا شائعةَ قتلِ النّبيّ صلّى الله عليه وآله واستَعدُّوا لإعلان توبتِهم لأبي سفيان!
وتفاجئُك نصوصٌ خطيرةٌ تَنصُّ على أنَّ مجموعة صحابة (مهاجرين)
قرشيّين، دعَوا النّاس إلى الرِّدَّة والكُفرِ علناً، بمجرّد أنْ شاعَت شائعةُ قتلِ
النّبيِّ صلّى الله عليه
وآله! وذلك بعد
جولةِ القتالِ الأولى، عندما التَفَّ المشركون على المسلمين وفاجَؤوهم من ورائهم
وقَتلوا منهم، وأشاعوا أنّهم قَتلوا النّبيَّ صلّى الله عليه وآله!
ويَنصُّ بعضُها على أنّ أحدهم وَقَف على تلٍّ يدعو
المنهزمين إلى الرُّجوع إلى دِينِهم الأوّل والتّسليم لأبي سفيان قبل أن يأتي
القرشيُّون ويقتلوهم! وأنّه عقَّبَ كلامَه هذا بقوله: «إنّهم لَعشائرُنا وإخوانُنا»!
وأخرَجَ ابنُ جرير، عن ابن جريج قال: «قال أهلُ المرض
والارتياب والنّفاق حين فرّ النّاسُ عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله: قد قُتل محمَّد، فالحَقوا بِدِينكُم الأوّل! فنزلت هذه
الآية: ﴿وما محمّدٌ إلّا
رسول..﴾ آل عمران: 144».
المسألة الثّانية: المُنقلبون في معركة الخندق وحجّة
الوداع.
نلاحظ أنّ صفات المُنقلِبين في أُحُد في السّنة الثّانية
للهجرة، بَقِيَتْ ثابتةً لهم في معركة الأحزاب في السّنة الخامسة للهجرة، وكذلك في
حجّة الوداع في السّنة العاشرة للهجرة. ففي الآية العاشرة حتّى السّابعة عشرة من
سورة «الأحزاب» تَجد وحدة الخيوط وأقسام المسلمين! فالثّابتون المُحسنون الرّبّانيّون
قلّة، والضّعفاء كثرة، والمنافقون ناشطون، ولا نقصدُ بهم حزبَ ابن أبي سلول، بل
المنافقين المهاجرين المخلوطين بالمؤمنين! فالّذين قال اللهُ عنهم في معركة أحُد: ﴿..وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ
بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر
مِنْ شَيء..﴾ آل عمران:154، هم أنفسهم الّذين قال الله عنهم في معركة الأحزاب: ﴿..وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا﴾ الأحزاب:10.
ومرضى القلوب في أحُد الّذين فرّوا إلى الجبل وقالوا: «لو
كان نبيّاً ما قُتِل»، هم المنافقون الّذين قال الله عنهم في سورة الأحزاب: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ الأحزاب:12.
والّذين قال الله تعالى لهم في أُحُد: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ آل عمران:143، هم الّذين
قال الله عنهم هنا: ﴿..فَإِذَا
جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ..﴾ الأحزاب:19.
والّذين ثَبَتوا في أُحُد فقال الله عنهم: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ
كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا
اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ آل عمران:146، هم الّذين
قال الله عنهم هنا: ﴿مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ
اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رحيماً﴾ الأحزاب:23-24.
ونفسُ الخيوط والخطوط والشّخصيات تَجِدها في السّنة
العاشرة للهجرة، في سورة «المائدة»، سورة حجّة الوداع، وهي آخِر سورة نزلت من
القرآن! [أنظر الآيات:
41 إلى 115، لا سيّما 51 إلى 54، 61، 81]
المسألة الثّالثة: هل أنّ آية الانقلاب تحذيرٌ، أم إخبارٌ
بوقوعه؟
تقول الآية: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ
مَاتَ أَو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى
عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ آل عمران:144.
قد يُقال: إنّ الآية ليست أكثرَ من استفهامٍ إنكاريٍّ، فهي جملة شرطيّة استفهاميّة،
لا تدلّ على وقوع شرطها وجزائها!
فيُقال [في الجواب]: نعم هي جملة فَرَضيّة، لكنَّ المتكلّم هو الله تعالى والفَرْضُ منه سبحانه
له دلالةٌ، وهو يدلّ هنا على أنّ انقلابهم مُحتَملُ الوقوع، أمّا وقوعه بالفعل فقد
تكفّلت به السّنّة والتّاريخ! على أنّ في الآية دلالةً أكثر من الشّرطيّة في قوله
تعالى: ﴿..وَمَنْ
يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً وَسَيَجْزِي اللهُ
الشَّاكِرِينَ﴾، حيث قسَّم
الأُمَّةَ بعد النّبيِّ صلّى الله عليه وآله إلى مُنقلِبين على أعقابِهم وشاكِرين على ما أصابَهم!
وقد يُجاب: إنّ احتمالَ الوقوعِ احتمالٌ عقليٌّ مجرّد، كاحتمالِ أن
يكفر الأنبياء والرّسل عليهم السلام كما في
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الزمر:65،
فتحذيراتُ الأنبياء عليهم السّلام لا تدلّ على وقوع الشّرط منهم، فكذلك تحذيراتُ المؤمنين
من الرِّدَّة.
والجواب: أنّ الدّليل الخارجيّ دلَّ على أنّ هذا الاحتمال في الأنبياء عليهم السّلام لن يتحقّق لنبوّتهم وعصمتِهم، أمّا في حقّ غيرهم فيبقى احتمالاً عاديّاً!
ولذا لم يكتفِ بفرضيّة الانقلاب في الآية، بل قسَّم الأُمَّةَ إلى منقلِبين على
أعقابهم، وشاكِرين، ووَعَد الشّاكرين بجزاءٍ جميلٍ!