لا تتّسع الدُّنيا لعظيمِ الثَّوابِ والعقاب
اِعلم أنَّ هذا العالم الدّنيويّ لِما
فيه من النّقص والقُصور والضّعف، ليس دارَ كرامةٍ، ولا محلّاً لِثوابِ الحقّ
سبحانه، ولا لِعذابِه وعقابه، لأنّ دارَ كرامةِ الحقّ، عزَّ وجلَّ، عالمٌ تكون نِعَمُهُ
خالصةً وغيرَ مشوبةٍ بالنِّقَم، وراحتُه غير مخلوطةٍ بالشَّقاء والتَّعب، ومثلُ
هذه النِّعم غير متوفِّرةٍ في هذا العالم، لأنّه دارُ التَّزاحُمِ والصِّراع.
إنَّ كلَّ نعمةٍ من نِعَمِ هذا العالم
محفوفةٌ بأنواعٍ من العذابِ والآلامِ والمِحن. بل قال الحكماءُ إنَّ لذَّات هذا
العالم هي دفعٌ للآلام، ونستطيع أن نقول إنَّ لذّاته تبعثُ على الآلام لأنَّ أثَرَ
كلِّ لذّةٍ، شقاءٌ ونَصَبٌ وألمٌ، بل إنَّ مادّةَ هذا العالم تتمرَّدُ على قبولِ
الرَّحمة الخالصة والنّعمة المحضةِ غيرِ المَشوبة
بالمكاره. وهكذا العذابُ والشَّقاءُ والألمُ والتّعبُ في هذا العالم، لا يكون
خالصاً، بل يكون كلُّ ألمٍ وتعبٍ محفوفاً بنعمةٍ أو نِعَمٍ، وكلُّ واحدٍ من الآلام
والأسقام والشّقاء والمِحَن في هذا العالم لا يكون محضاً وغير مشوبٍ بنعمةٍ ورحمةٍ:
فإنَّ مادّة هذا العالم تتمرّدُ على قبول العذابِ الخالِصِ المُطلَق.
إنَّ دارَ عذابِ الحقِّ، سبحانه، ودارَ
عقابِه، دارٌ فيها العذابُ المَحْضُ والعقابُ الخالص، وإنَّ آلامها وأسقامَها لا تُضاهى
بآلامِ هذا العالم وأسقامِه، كأنْ يمسّ العذابُ عضواً دون عضوٍ، أو يكون عضوٌ
سالماً وفي راحةٍ، والآخَرُ في تعبٍ وشقاءٍ. وقد أُشيرَ إلى بعض ما ذكرنا في
الحديث الشَّريف، عندما يقول: «وذلك -السَّبب في ابتلاء المؤمن بالبليّات-
أنَّ اللهَ لمْ يجعلِ الدُّنيا ثواباً لمؤمنٍ ولا عقوبةً لِكافرٍ». هنا -عالم الدُّنيا- دار تكليف، ومزرعةُ الآخرة، وعالَمُ الكَسْب.
وهناك -عالم الآخرة- دارُ جزاءٍ ومكافأةٍ وثوابٍ وعقاب.
إنَّ الّذين يتوقَّعون من الحقِّ سبحانَه
أنْ ينتقمَ في هذا العالَم من كلِّ مُرتكبِ معصيةٍ أو فاحشةٍ أو جَوْرٍ أو اعتداءٍ،
بأنْ يضعَ -عزَّ وجلَّ- حدّاً له، فيقطع يدَه ويقلع العاصي من الوجود، إنَّهم
غافلون بأنَّ مثل هذا العقاب خلافُ النّظم والسُّنَّة الإلهيّة الّتي أقرّها اللهُ
سبحانه. إنَّ هذه الدَّار، دارُ امتحانٍ وتفريقٍ بين الشَّقيّ والسَّعيد والمطيعِ
والعاصي، وعالَمُ ظهور الفعليّات، وليست بدارٍ تُبيِّن نتائج الأعمال والمَلَكات.
وإذا انتَقمَ الحقُّ المتعالي من ظالمٍ نادراً، أمكننا
القول إنَّ عنايةَ الحقِّ عزَّ وجلَّ قد شملته. وإذا تَرَكَ أهلَ الموبقات والظُّلم
في ضلالِهم وغيِّهم، كان ذلك استدراجاً. كما يقول سبحانه: ﴿..سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ
* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ الأعراف:182-183.
ويقول: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ آل عمران:178.
وفي (مجمع البيان) عن الإمام الصّادق عليه السّلام، أنّه قال: «إذا أحدثَ العبدُ ذنباً
جُدِّد له نعمة، فيَدَعُ الاستغفار، فهو الاستدراج».