الموقع ما يزال قيد التجربة
الشّعائر الحسينيّة
رؤية منهجيّة في التّعامل مع الرّوايات
الفقيه
الشّيخ محمّد السّند
من علماء البحرين
إصدار المركز الإسلامي
بيروت – لبنان
1435 هجريّة – 2013 م
تقديم
في مناخ الإحياءات السّنويّة للشّعائر الحسينيّة المبارَكة الّتي يشهدها العالم الإسلاميّ، وبمناسبة ذكرى أربعين سيِّد الشُّهداء وأهل بيته عليهم السّلام الأطهار وأصحابه الكرام، نجد أنفسنا أمام واجب تأصيلها وتسليط الضَّوء على أبعادها الإيمانيّة والحضاريّة، بما تحمله من معانٍ روحانيّةٍ ومعنويّةٍ وأخلاقيّةٍ ونهضويّةٍ على ثقافة الأمّة في حاضرها ومستقبلها. ولقد بات التَّوقُّف عند تلك المعاني أمراً ضروريّاً، إنْ لِجهة تفعيل مضامينها الإلهيّة النّبويّة المقدَّسة، أو لتجلية وتنقية ما يلحق بتلك الإحياءات من إشكالاتٍ منهجيّةٍ في مجال الفهم والأداء وطرائق الاحتفاء.
ولعلَّ ما يحملنا على التّعاطي مع الشّعائر الحسينيّة من وجهة نظرٍ منهجيّة، يعود إلى جملة اعتبارات، أهمّها ما يلي:
أولاً: إنَّ الشّعائر الّتي تُقام في الأيّام العشرة الأولى من شهر محرَّم من كلِّ عامٍ غدت مكوّناً رئيساً من المكوّنات الثّقافيّة والحضاريّة للأمّة الإسلاميّة.
ثانياً: لمْ تَعُد الشّعائر الحسينيّة حالةً وجدانيّةً مُنحصرةً بالمسلمين من شيعة أهل البيت عليهم السّلام، وإنَّما تحوَّلت إلى مناخٍ إيمانيٍّ ودينيٍّ وإنسانيٍّ يشمل مُسلِمِي العالم أجمع، فضلاً عن اهتمام المجتمعات الدّينيّة شرقاً وغرباً، في زمنٍ باتت فيه وقائع إحياء ذكرى عاشوراء تصل بِيُسرٍ إلى تلك المجتمعات من خلال الإعلام الفضائيّ وثورة الاتّصالات.
ثالثاً: للعوامل الّتي مرّ ذكرُها، صار من الضّروريّ السّعي الجادّ إلى تظهير المنهج الّذي يعتمده المختصُّون في تظهير الشّعائر الحسينيّة على كلِّ المستويات، وبخاصّة على مستوى منهج التّعامل مع روايات وقعة الطّفّ، وفقاً للمنهجيّة المُجمَع عليها من كبار العلماء.
ولمّا كان البحث في الشّعائر الحسينيّة له مثل هذه الخصوصيّات، فقد استحقّ أن يُفتح له بابٌ مُستقلّ، لِمَا لهذا البحث من قيمةٍ معرفيّةٍ ومنهجيّةٍ وثقافيّةٍ تساهم في حفظ المقاصد الأساسيّة من إقامة الشّعائر.
في هذا الملحق الّذي نقدِّمه للقارئ العزيز إضاءاتٌ على جوانب مهمّة من هذه القضيّة، عنينا بها منهجيّة التّعامل مع روايات الشّعائر الحسينيّة. وقد اخترنا هذا النّصّ للفقيه سماحة الشّيخ محمّد السَّند من كتابٍ له بعنوان «الشّعائر الدّينيّة».
نشير إلى أنَّ النّصّ الّذي يضمّه هذا الملف يتناول موضوع الرّوايات من سبع زوايا، اخترنا منها ما يختصّ بالشّعائر الحسينيّة الزّوايا التّالية:
- الزّاوية الأولى: تتضمَّن تصوُّرات سريعة لخلفيّات النّهضة الحسينيّة.
- الزّاوية الثّانية: في عمومات الشّعائر الحسينيّة.
- الزّاوية الثّالثة: معايير الرّواية في إقامة الشّعائر.
«شعائر»
محرّم 1435 هجريّة
الزّاوية الأولى
تصوّرات سريعة لخلفيّات النّهضة
الشّعيرة ".." ترمز لمعنىً وتشير لقضيّة، من ثمّ كانت البداية المنهجيّة تحديد المعنى الّذي ترمز إليه الشّعيرة الحسينيّة، وسيترك ذلك ظلاله أيضاً على فقه التّزاحم في هذا الموضوع.
وبديهيّ أنَّ المرموز إليه في هذه الشّعيرة هو نهضة الحسين عليه السلام، ومن ثمّ سننقل الحديث إلى الخلفيّات الفقهيّة والفكريّة لهذه النّهضة، حيث نطلّ منها على طبيعة مضمون هذه النّهضة وأبعادها وغاياتها.
وسنرى أنّ المبرّرات والعِلل ليست مُتعارِضة فيما بينها، وإنّما مجموعها يقدّم صورة متكاملة عن الحدث.
وسيكون الحديث حول هذه النّقطة سريعاً حيث لا يمثّل جوهر البحث، ومن ثمّ سنكتفي بما جاء على لسان الحسين عليه السلام في تفسير حركته وبيان خلفيّاتها.
الخلفيّة الأولى: «إنّي لم أخرج أشِراً ولا بطراً وإنّما خرجتُ لِطَلَب الإصلاح في أمّة جدّي محمّد، لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرةِ جدّي وأبي».
فقد عَنْوَن عليه السلام طلب الإصلاح بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
ويذكر الأستاذ ميرزا هاشم الآمليّ أنّ هذا العنوان أوسع من عنوان الجهاد والحدود والقضاء وتوابعه باعتبار تسالم الفقهاء على بقاء بابه مفتوحاً، وعدم وقوف المعروف والمنكر عند البعد الفرديّ وإنّما يعمّ البعد الاجتماعيّ أيضاً، كما أنّه لا يختصّ بعنوان معيّن، وإنّما ينبسط على كلّ العناوين الفقهيّة والعقديّة، حتّى مثل التّوحيد، فإنّه «أوّل الفرائض»، و[حتّى مثل] «الشّرك» ﴿..إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ لقمان:13، وأيضاً لا يعنى به الأمر الإنشائيّ وإنّما إقامة المعروف وإماتة المنكر، ومن ثمّ كان يبدأ من الإنكار القلبيّ ويصل إلى حدِّ اليد واستعمال القوّة.
وبهذا يُفهم «به تُقام الفرائض» وأمثالها من النّصوص المعبّرة عن مركزيّة هذه الفريضة.
الخلفيّة الثّانية: «ومثلي لا يُبايِع مثله»، و«إذا بُلي الإسلام بمثل يزيد فعلى الإسلام السّلام».
حيث كانت البيعة تستبطن قبرَ الخلافة الشّرعيّة نهائيّاً وإبدالها بالملكيّة الجاهليّة بعد أن أوشك الانقلاب أن يؤتي أُكله لصالح العهد الجاهليّ البائد.
والملفت، كما يشير محقّقو التّاريخ، أنّ أوّل قضيّة علّل الحسين بها خروجه هو «ومثلي لا يبايع مثله». ومن ثمّ قيل: «إنّ أحد أهمّ النّتائج لهذه النّهضة هو فصل السّلطة التّشريعيّة والمرجعيّة الدّينيّة عن السّلطة التّنفيذيّة والخلافة».
وقيل أيضاً: «إنّ إدانته، عليه السّلام، لخلافة يزيد إدانة للمشروع الّذي اعتمد في الوصول إلى سدّة الحكم على حِلف القبائل وقريش».
الخلفيّة الثّالثة: مراسلات أهل الكوفة له كما جاء ذلك في كلماته وخُطبه، فإنّها توفّر الشّرط الموضوعيّ للقيام بأعباء الحكومة.
الخلفيّة الرّابعة: الدّفاع عن نفسه الشّريفة وعن حُرَم رسول الله صلّى الله عليه وآله كما يشير إليه النّص الشّهير: «ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتَين، بين السّلّة والذّلّة، وهيهات منّا الذّلّة، يأبى الله لنا ذلك وحجورٌ طابت..».
الخلفيّة الخامسة: إحياء مشروع الإمامة الإلهيّة كما يفهم ذلك من النّصّ التّالي: «وأسير بسيرة جدّي وأبي»، لا بسيرة الشّيخين كما طُلب ذلك من أبيه في اجتماع الشّورى. ويُفهم ذلك من رفضه بيعةَ يزيد حيث فيها دلالة على بطلان خلافته.
وتأتي الشّعائر لتخلّد وتلفت وتذكّر بتلك الغايات الّتي نهض الحسين عليه السلام من أجلها.
وتأتي الشّعائر لتربّي المجتمع الشّيعيّ على روح المقاومة والرّفض للظّالم، حتّى أصبح سمةً من سمات أتباع أهل البيت عليهم السلام.
وتأتي الشّعائر لتُدين على الدّوام الخطّ المناوئ لأهل البيت، وتُفصح عن عدم شرعيّته كمعادلٍ للتّقيّة الّتي فُرضت على أتباع عليٍّ عليه السلام، نظير قضيّة الزّهراء عليها السلام في اصطدامها مع الحزب الحاكم.
كلّ ذلك لأنّ الشّعائر ترجمة عمليّة للمودّة القرآنيّة والتّولّي لأهل البيت عليهم السلام، والتّبرّؤ من جاحديهم وأعدائهم.
***
الزّاوية الثّانية
في عمومات الشّعائر الحسينيّة
ليست هناك مشكلة في الغطاء الشّرعيّ للشّعائر الحسينيّة على مستوى التّقنينات العامّة، حيث يتجاذبها أكثر من عمومٍ خاصٍّ بها علاوة على عمومات الشّعائر الدّينيّة [المراد بالعمومات: الأدلّة العامّة التي تدلّ بعمومها لا بالخصوص].
فأدلّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تتناول هذه الشّعائر بعد أن كانت الغاية من نهضته عليه السلام ذلك وكان الشّعار إدامةً وإثارةً وتجديداً لإنكار المنكر وإحياء المعروف، حيث تحيي في النّفوس روح الإقدام وعدم التّخاذل والتّضحية والفداء بكلّ شيءٍ ما دام على المقاسات الشّرعيّة.
وأدلّة التّولّي والتّبرّؤ -كآية المودّة- تشمل الشّعيرة هذه لوضوح التّعبير فيها عن التّولّي والتّبرّؤ.
وعمومات إحياء أمرهم الّتي طُبّق أكثر من واحدٍ منها على العزاء الحسينيّ، وهي تشمل بإطلاقها المستجدّ منه. وطُرق هذه الطّائفة من الرّوايات تربو على العشرين كما ظهر ذلك لنا في مراجعة سريعة لها.
وعمومات الزّيارة وتعاهد قبورهم والرّثاء وإقامة المأتم وإنشاد الشّعر، الّتي دُوّنت في «كتاب المزار» في (الوسائل) حيث جمع في أكثر من أربعين باباً الكثير من رواياته صحيحة، ومثله (البحار) و(كامل الزّيارات) وغيرهما.
والزّيارة نوعُ ندبةٍ ورثاءٍ بالإضافة إلى ما تحتويه من التّذكير بحقوقهم، والشّدّ الوجدانيّ بهم.
***
الزّاوية الثّالثة
المعايير المنهجيّة للرّواية الحسينيّة
ويتمّ التّعرُّض في هذه الزّاوية لنقطتين:
* النّقطة الأولى: ما هي المقاييس الّتي تخضع لها رواية الحَدث الّتي يتناولها الخطيب في خطابته، والأديب في شعره، والكاتب في دراسته، فهل تخضع لمعايير الرّواية الفقهيّة أو العقائديّة أو التّاريخيّة أو القصصيّة، أو لأكثر من معيار، أو لها جميعاً؟
وكانت هذه النّقطة مثار جدلٍ حيث حاول البعض التّعاطي مع روايات الحادثة على حدّ التّعاطي مع روايات الفقه، في حين تشدّد البعض الآخر أكثر لأنّ الحادثة ذات بُعدٍ فكريٍّ/عَقَديٍّ، مع احتمال أنّها تخضع لمقاسات البحث التّاريخيّ باعتبار أنّها حادثة تاريخيّة، أو تخضع لأصول الفنّ القَصصيّ باعتبار البعد التّصويريّ فيها.
في البداية لا بد من المرور السّريع على طبيعة المعايير والمناهج المتعدّدة:
منهج البحث في التّاريخ:
دراسة التّاريخ تعتمد منهج الاطمئنان من خلال تجميع القرائن المتعدّدة والقصاصات المتنوّعة حتّى تكتمل الصّورة ويخرج الباحث بقناعةٍ تاريخيّة.
فالباحث لا يعتمد على النّقل التّاريخيّ كشيءٍ مسلَّمٍ ومحسوم، كما أنّه لا يُسقطه عن الاعتبار لمجرّد عدم ذكر السّند، حيث إنّ غالب الكُتب التّاريخيّة لم توجّه عنايتها لذكر السّند، ومن ثمّ إذا كان المصدر مُوغلاً في القِدَم، كان نقطة قوّة ومزيّة له على المصادر الأخرى. كما أنّه لا بدّ أن يكون المصدر التّاريخيّ من المصادر المعتدّ بها، بمعنى أنّه لم يثبت تدليسه وتزويره للحقائق بشكلٍ عامّ.
كلّ ذلك لأنّ الهدف من دراسة التّاريخ الموعظة والعِبرة لما هو ثابت، فليس المقصود منه إثبات عقيدة أو حكم.
ومسلكُ تحصيل الاطمئنان هو المبنى العمدة لدى محقّقي علم الرّجال في الجَرح والتّعديل، وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّ هذا العلم يمثّل واحدة من شُعَب علم التّاريخ.
ولا تشذّ رواية واقعة كربلاء في بعدها التّاريخيّ عن هذه القاعدة، ومن الخطأ المنهجيّ أن يتمّ الإعراض عن الرّواية لمجرد عدم ذكر السّند أو لأنّها ضعيفة بمقاسات رواية الفقه، أو لأنّ راويها ليس مُعاصِراً للحدث، فإنّ كلّ ذلك طلبٌ وتوقّعٌ غير منهجيّ، وإنّما هي جميعاً تمثّل قرائن يُضَمّ بعضُها إلى بعض فينمو الكشفُ عن الواقع حتّى يصلَ إلى درجة الاطمئنان، خاصّةً وإنّه قد تظافرت جهودٌ كبيرةٌ بدواعٍ مختلفة لنقل حدث الطّفّ، ومن ثمّ ذكر البعض أنّه لم تحظَ واقعةٌ تاريخيّةٌ بالرّصد والضّبط بمثل ما حظِيت به واقعة كربلاء.
والجدير بالانتباه: أنّ الاطمئنان ليس مسلكاً خاصّاً بالمنهج التّاريخيّ والرّجاليّ، بل هو مسلكٌ عامٌّ في جميع العلوم النّقليّة، فهو لا يقلّ في قيمته واعتباره عن الخبر الواحد الثّقة أو الخبر الواحد الموثوق الصّدور.
منهج البحث في العقائد:
المشهور عند متكلّمي الشّيعة أنّ العقائد لا تثبت إلّا بالقطع، ومن ثمّ لا تثبت بخبر الواحد إلّا أن يكون قطعيّاً.
والمعروف لدى محدّثي الشّيعة أنّ تفاصيل العقيدة تثبت بالخبر الظّنيّ المعتبر وبقيّة الظّنون المعتبرة.
وثلّةٌ من أعمدة علماء الإماميّة ألفتَ إليهم الشّيخ في (الرّسائل) فَصَلوا بين المعارف الأساسيّة، فلا تثبت إلّا بالقطع، وبين تفاصيل المعارف الّتي لا يصل إليها العقلُ، فيكفي فيها الظّنّ المعتبَر.
ويبدو من السّيّد الخوئيّ قبوله لهذا التّفصيل، ومن قبل تمايل إليه الأصفهانيّ والعراقيّ.
والصّحيح هو الأخير كما فصّلنا في ذلك في علم الأصول وكتاب (الإمامة الإلهيّة)، ومن ثمّ فالرّواية تنفع حتّى لو كانت ضعيفةً إنْ حصل منها ومن غيرها القطعُ بالتّواتر أو الاطمئنان بالاستفاضة. وإلّا فإنْ كان الخبر معتبَراً، وكان المضمون من تفاصيل العقائد، يكفي في الإثبات.
وقد جاء في (أصول الكافي) في صحيحة عمر بن يزيد ما يدلّ على حجّيّة خبر الواحد المعتبر في التّفاصيل، قال: «قلت لأبي عبد الله: أرأيتَ من لم يقرّ بما يأتيكم في ليلة القدر كما ذكرت ولم يَجحده؟ قال: أمّا إذا قامتَ عليه الحجّةُ ممّن يثقُ به في علمنا فلم يَثق به فهو كافر، وأمّا مَن لم يسمع ذلك فهو في عُذرٍ حتّى يسمع، ثمّ قال أبو عبد الله: يؤمنُ بالله ويؤمنُ للمؤمنين». (الوسائل: أبواب العبادات باب 2، ح 19). ولا يرادُ منه الكفر المصطلَح عليه في علم الفقه الّذي يوجبُ الخروج عن الإسلام، وإنّما درجةٌ مقابلةٌ لدرجةٍ من الإيمان.
منهج البحث الفقهيّ:
لا شكّ في الاكتفاء بالظّنّ المعتبر سَنداً ودلالة في مجال الاستنباط في فروع الدّين، وإن كان هناك خلافٌ فإنّما هو على التّفاصيل والصّغرَيات.
ومشهور الفقهاء يعتمد حتّى الرّواية الحسنة إنْ لم تتوفّر الصّحيحة والموثّقة، شريطةَ أن لا تكون معارضةً بما هو أقوى منها.
وحتّى الضّعيف من النّصوص الحديثيّة كان مورد عناية إذا كان مستخرَجاً من كتابٍ معتبَر، لأنّه يشكّل مادّةَ تواترٍ واستفاضة.
وقد تحدّثنا في الأصول وكتاب (بحوث في علم الرّجال) بإسهابٍ عن خصوصيّات الخبر الضّعيف، وذكرنا أنّه لا يعني المكذوب والموضوع والمدلّس، بل ولا يعني دوماً الخدشة في الرّاوي من حيث صِدقه، بل قد تكون الخدشة فيه من حيث ضبطه، كما ذكرنا أنّ الرّوايات دلّت على حُرمة ردّ الخبر الضّعيف بتكذيبِه، وإنّما يُردَّ علمُه إلى أهله.
ولا ريب في اشتمال قضيّة كربلاء على بُعدٍ فقهيّ، حيث إنّه فعلٌ قامَ به المعصوم وقد حاول البعضُ أن يُخضع النّقل في قضيّة الإمام الحسين عليه السلام لمقاسات الرّواية الفقهيّة فقط تفادياً للنّسبة غير الواقعيّة إلى المعصوم والتّقوّل عليه بما لم يَقله، ومن ثمّ لا نقبل من الحوادث والكلمات على طريقة المنهج التّاريخيّ حتّى تثبت بدليلٍ معتبَر.
وهذا على إطلاقه غير صحيح، وذلك:
أوّلاً: بالنّقض عليه بسيرة النّبيّ صلّى الله عليه وآله وبقيّة المعصومين عليهم السلام، حيث لم يتردّد أحدٌ في التّعاطي معها تاريخيّاً.
ثانياً: بالحلّ، فإنّ الهدف إن كان هو النّسبة إلى المعصوم أو استفادة حكمٍ شرعيٍّ معيّن من المرويّات عنه، أو استنباطِ بُعدٍ عقائديّ من سيرتهم، فإنّ المنهج التّاريخيّ لا بدّ أن يستبعَد، وأمّا إذا كان الهدف هو الاعتبارُ التّاريخيّ أو الأخلاقيّ في مجالٍ مفروغٍ عن ثبات حُكمه، فلا ضيرَ في النّقل، ولو لم يخضَع لمقاسات البحث العقائديّ أو الفقهيّ في الفقه والعقائد كما هو معوَّلٌ عليه في التّاريخ وعلم الرّجال، وتصاعدُ درجة الوثوق تخضع لقانونٍ رياضيّ، وهو حساب الاحتمالات، فهو الّذي يوفّر الاستفاضة والتّواتر في مجموع آحاد الرّوايات، والغفلة المتفشيّة في الوسط العلميّ، فضلاً عن الثّقافيّ، نتيجة التّعاطي الأحاديّ مع الموادّ من دون نظرةٍ مجموعيّة، لا سيّما وإنّ الاستفاضة تنقسم كالتّواتر إلى أقسامه الثّلاثة، بل وحتّى الخبر الموثوق بصدوره يُمكن أن ينقسم إلى الأقسام الثّلاثة، والمغيّب من الأقسام هو القسم المعنويّ، والّذي يحتاج استخلاصُه إلى خبرةٍ مسبقة في الرّوايات مع إحاطةٍ وشموليّةٍ لها.
منهج القصّة:
والحديث لا يقف عند القصّة، وإنّما يتعدّى إلى أخواتها، كالتّمثيل والمسرح والشّعر وكلّ ما يرمز إلى فكرةٍ ومعنًى وحدثٍ، عبر المدلول الالتزاميّ لا المطابقيّ.
فهو مطابقةٌ يعتمد التّخييل ليؤسّس بالالتزام لمعنًى أو ليخبرَ عن قضيّة، من ثمّ لا تؤخَذ القصّة بأحداثها، وإنّما بما ترمز إليه، فلو لم يكن للأحداث وجودٌ لم تكن كَذِباً بعد أن كان المعيار على ما تريد بيانه أو تسويقَه من المدلول الالتزاميّ، فهو الّذي يصبغ القصّةَ بالصّدق أو الكذب، بدعوة الخير أو دعوة الشّرّ، بالحُسن أو القبح.
والأسلوب هذا قد يعتمد شخصيّاتٍ وهميّةً، وقد يعتمد الشّخصّيات الحقيقيّة، ولكن ينسب لها ما لم تفعله لأجل التّصوير المعبِّر عن عمق المأساة وشدّة الفاجعة والإفراط في الظّلم، أو المعبِّر عن شدّة الإباء والصّلابة والصّمود.
والتّعبير الدّارج على لسان بعض الخطباء بلسان الحال، يُقصَد منه الأسلوب الثّاني الّذي يعتمد الشّخصيّة الحقيقيّة.
نعم، لا بدّ من الإلفات إلى طبيعة الأسلوب، وقد تكون قرينتُه معه كما يحصل ذلك في الشّعر والفيلم وطريقة العرض وأمثالها.
وكثيراً ما يُعتمَد الأسلوب القصصيّ خصوصاً، والتّخييليّ عموماً، في المنبر الحسينيّ والشّعر، ولا معنى، والحالة هذه، أن يحاكَم المدلول المطابقيّ بالصّدق والكذب والمبالغة وشيءٍ من هذا القبيل، وإنّما المعيار كلّه على المدلول الالتزاميّ وما يتركه الأسلوب المذكور من إيحاءاتٍ خاطئة أو صحيحة.
فإذا ثبت تاريخيّاً شدّة تفجّع الحوراء وجزعها لا ضيرَ أن يصوغَها بلسان الحال شريطةَ أن يأتي متناسباً مع الحقيقة حيث إنّه بتبعِها، وأمّا إذا تَرَك انطباعاً عن استسلام أهل البيت، فهو كَذِب.
في الوقت ذاته لا بدّ من عدم اختزال عاشوراء بهذا الأسلوب، فيكون على حساب الرّواية والتّوثيق التّاريخيّ، وعلى حساب البُعد الفقهيّ وعلى حساب البُعد العقائديّ في القضيّة، لأنّ المفروض في هذا الأسلوب الأدبيّ أنّه كالحاشية، يُستعان به على توظيف الحقائق وشرحها وتخزينها في اللّاوعي والوجدان، ويُستعان به في نموّ العاطفة الصّادقة إلى جانب الحقيقة بعد أن لم يكن الفرد البشريّ مجرّد علبةٍ لحفظ المعلومات، وإنّما مزيجٌ من الفكر والعاطفة، فلا بدّ أن تبقى الحقائق واضحةَ المعالم على المستويَين، فالإفراط في هذا الجانب يستبطنُ مناقضةً للغرَض منه، حيث قد ينتهي بضياع مستنداتِ الحوادث وطمس الحقيقة.
فالطّريقة المنهجيّة أن تستبطنَ المراسيمُ سردَ الأحداث ودراستَها وعرضَ الرّوايات وبيانَ آراء كبار الطّائفة المستنبَطة منها، إلى جانب إثارة العاطفة والوجدان بالأسلوب الأدبيّ الّذي يعتمد الإثارة اللّازمة.
* النّقطة الثّانية: لا بدّ أن تُستبعَد نهائيّاً لغة الذّوق والاستبعاد والاستحسان في دراسة مضمون النّقل.
ففي الحيثيّات الفقهيّة والعقائديّة لا بدّ أن تخضعَ لموازين الاستنباط فيهما، وإلّا كان اجتهاداً شخصيّاً لا قيمة له، وكان اجتهاداً في عرض النّصّ المرفوض شيعيّاً.
وواحدةٌ من أوّليات الموازين أن يكون الباحث من ذوي الاختصاص، وإلّا لم يحقّ له، منهجيّاً، النّفي والإثبات والتّرجيح والاستبعاد.
وفي الحيثيّة التّاريخيّة لا بدّ من أنْ تُعتمدَ القرائن والمسح الشّامل للمصادر في عمليّة النّفي والإثبات، بدلاً من تحكيم الذّوق والاستحسان.
من ثمّ -وعلى سبيل المثال لا الحصر- إنكار اجتماع حُرَم رسول الله صلّى الله عليه وآله في يوم الأربعين مع جابر الأنصاريّ مع اختلاف النّقل، وأنّه في نفس السّنة أو في سنةٍ أخرى، اعتماداً على فرضيّة اختلاف طريق الشّام إلى المدينة عن طريقه إلى العراق، أو استناداً إلى قِصَر فترة السّفر أو لقصور المادّة الجغرافيّة عن الطّرق آنذاك، غير معقول وحدَه. خاصّةً وأنّ سيّد الشّهداء وعائلته وصلوا كربلاء من المدينة في ظرفيّة أربعة وعشرين يوماً.
وعلى فرض توفُّر قرائن هذه الدّعوى وتماميّة الإنكار منهجيّاً، فهو رأيٌ اجتهاديّ لم يصل إلى حدّ الضّرورة، ومثله لا يبرّر التّحامل على الرّأي الآخر، وتسفيهه وتصويره أنّه دخيلٌ على التّراث، أو شيءٌ من هذا القبيل.
وإنكار مرجعيّة مثل مقتل ابن طاوس والخوارزميّ أو أمثالهما في قضيّة زواج القاسم ابن الإمام الحسن واحدة من بنات الإمام الحسين عليهم السلام، بالإضافة إلى عدم تناسب جوّ الزّواج والفرح مع جوّ يوم العاشر من المحرّم المهول والمحزن، وجهٌ استحسانيّ، إذ مرجعيّة المقاتل المذكورة، بمعنى أنّها مصادر معقولة، حيث يُحتمَل أنّهم توفّروا على مصادر لم تصل إلينا، فلا بدّ من قبولها بمستوى إثارة الاحتمال بدلاً من رفضها وتهميشها.
خاصّة وإنّ مثل السّيد ابن طاوس -كما حكى ذلك السّيّد الخوئيّ في مقدّمة (معجم رجال الحديث) عن المحقّق أغا بزرك الطّهرانيّ في كتابه (تاريخ علم الرّجال)- قد وصل إليه ما يزيد على مئة ونيّف مصنّف رجاليّ، هذا فضلاً عن مصادر الرّواية والحديث وكُتب السِّيَر والتّاريخ. والمتتبّع لكلام الشّيخ المفيد يلمس وفرةَ كُتب السِّيَر والتّاريخ آنذاك.
كما أنّ المصادر لم تعكس لنا حصول جوّ الفرح بهذا الزّواج كي يستبعَد لعدم تناسبه مع ذلك اليوم. وأصل الزّواج يمكن أن يكون يستهدف إحياء سنّة، أو لأنّ بعض المقامات التي تُكتَب للشّهيد لا تُنال وهو أعزب، إزاء كلّ هذه الاحتمالات المضادّة لا يكون الإنكار المذكور منهجيّاً، وإذا كان هناك إصرارٌ على تحقيق هذا الموضوع فلا بدّ أن يتمّ من خلال قنواته الاجتهاديّة باعتماد منهج البحث التّاريخيّ المشار إليه.
فلا بدّ من التّنبه إلى ضرورة الالتزام بالمقاييس والضّوابط أيّاً كان نوعها، وإنّ التّفريط في ذلك غير مبرّر، خاصّة وقد عرفنا حساسيّة الحادثة عبر خلفيّات النّهضة ومن خلال العمومات التي تتلبّس الشّعيرة بعناوينها كالأمر بالمعروف.
وقد تبلوَر: أنّ حادثة الطّفّ لمّا كانت ذات أبعاد متعدّدة، بُعد عقيديّ وآخر فقهيّ وثالث تاريخيّ، وجب أن يتمّ التّعامل مع روايتها في كلّ بُعدٍ بمنهجه بدلاً من التّعاطي الأحاديّ أو المختلط، فيتمّ التّعامل بالطّريقة الفقهيّة الدّقيقة غير المسطّحة مع نصوص الحدث فيما لو أردنا أن نستنبط منها حكماً فقهيّاً كمشروعيّةِ أو وجوبِ الثّورة ضد الحاكم الظّالم، وهكذا.
0
أيـــــــــــــــــــــــــن الرَّجبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون؟ يستحب في شهر رجب قراءة سورة التوحيد عشرة آلا مرة..
يدعوكم المركز الإسلامي- حسينية الصديقة الكبرى عليها السلام للمشاركة في مجالس ليالي شهر رمضان لعام 1433 هجرية. تبدأ المجالس الساعة التاسعة والنصف مساء ولمدة ساعة ونصف. وفي ليالي الإحياء يستمر المجلس إلى قريب الفجر. نلتمس دعوات المؤمنين.