تخرقُ الحُجُب السّبعة
كيف لا نسجدُ على تُربةِ كربلاء؟
-----العلّامة الشّيخ عبد الحسين الأمينيّ
رحمه الله-----
مختصَر من نصٍّ مطوّل للعلّامة الشّيخ عبد الحسين الأميني رضوان الله عليه ورد في كتابه (سيرتنا وسنّتنا)، ناقشَ
فيه جواز السّجود على الطّين، واستحبابَ أن يتّخذ المُصلّي لنفسه طيناً من قبر سيّد
الشّهداء الإمام الحسين صلوات الله عليه أو من كربلاء عموماً، تأسّياً برسول الله صلّى الله عليه وآله حيث اتّخذ «تربة كربلاء بلسماً لبيتِه».
يُشار إلى أنّ للعلّامة الأميني –مؤلّف موسوعة الغدير- كتاباً
مستقلّاً بعنوان (السّجود على التّربة الحسينيّة).
إنَّ الغايةَ المُتوخّاة للشِّيعة من اتّخاذِ
تربة كربلاء مسجداً، إنّما تستندُ إلى أصلَين قويمَين، وتتوقَّف على أمرَين قيِّمَين :
أوَّلُهما: استحسانُ اتِّخاذ المصلِّي لِنفسِه تربةً
طاهرةً طيِّبةً، يَتيَقَّن بطهارتِها من أيِّ أرضٍ أُخِذَت، ومن أيِّ صقعٍ من أرجاءِ
العالم كانت، وهي كلُّها في ذلك شرعٌ سواء، لا امتيازَ لإحداها على الأخرى في جواز
السُّجود عليها، وإنْ هو إلَّا كَرعايةِ المصلِّي طهارة جسدِه ومَلبسِه ومُصلَّاه،
فيَتَّخذ المُسلمُ لنفسه صعيداً طيِّبا يَسجدُ عليه في حِلِّه وترحالِه وفي حَضَرِهِ
وسَفَرِه.
وأمَّا الأصلُ الثّاني، فإنَّ قاعدةَ الاعتبار المُطَّرِدة تَقتضي
التَّفاضُلَ بين الأراضي بعضها على بعض، إذ بالإضافات والنِّسَب تصيرُ للأراضي، والأماكن،
والبِقاع خاصّةٌ ومزيّة .
ألا ترى أنَّ الأماكن والسّاحات المضافة إلى الحكومات، وبالأخصّ ما يُنسَبُ
منها إلى البلاط الملكّي، لها شأنٌ خاصّ؟ فكذلك الأمر بالنّسبة إلى الأراضي والأبنية
والدِّيار المنسوبة إلى الله تعالى؛ فإنَّ لها شؤوناً خاصّة وأحكاماً ولوازم وروابط
لا مناصّ منها، ولا بدَّ لِمَن أسلمَ وَجهَهُ لله مِن أنْ يُراعِيَها ويُراقبَها
ويقوم بواجبها.
فبهذا الاعتبار المُتسالَمُ عليه اعتُبِرَ للكعبة حكمُها، ولِلحَرَمِ
حكمُه، وللمسجدَين الشَّريفَين جامع مكّة والمدينة حُكمُهُما، وللمساجد العامّة والمعابد
أحكامها.
سرُّ فضيلة تربة الحسين عليه السّلام
فبعد هذا البيان الصّافي، يَتَّضِحُ لدى
الباحث النَّابه الحُرّ سِرُّ فضيلةِ كربلاء المقدَّسة، ومبلغُ انتسابِها إلى الله
سبحانه وتعالى، ومدى حُرمتها وحرمة صاحبها دُنُوَّاً واقتراباً من العليِّ الأعلى.
فما ظنُّكَ بِحُرْمَةِ تربةٍ هي مَثْوى قتيلِ اللهِ، وقائدِ جُنْدِه الأكبر المُتفاني
دونه، هي مثوى حبيبِه وابنِ حبيبِه والدَّاعي إليه، والدَّالِ عليه والنَّاهِض له،
والباذِلِ دونَ سبيله أهلَه ونفسَه ونفيسَه، والواضعِ دمَ مُهجتِه في كفِّه تجاهَ إعلاءِ
كلمتِه، ونشرِ توحيدِهِ، وتحكيمِ معالِمِه، وتوطيد طريقه وسبيله. لماذا لا يُباهي به
اللهُ وكيف لا يَتَحفَّظُ على دمِه لديه، ولا يَدع قطرةً منه أنْ تنزلَ إلى الأرض لمَّا
رَفعَهُ الحسينُ بيدَيه إلى السَّماء؟
ولماذا لا يَبعث اللهُ رُسُلَهُ من الملائكةِ
المُقرَّبين إلى نبيِّه صلّى الله عليه وآله بِتُربةِ كربلاء؟ ولماذا لا يشمُّها رسول
الله صلّى الله عليه وآله ويقبِّلُها؟ ولماذا لا يَذكرُها طيلةَ حياتِه؟
ولماذا لا يَتَّخِذها بَلْسَماً في بيته؟
فَهَلُمَّ معي أيُّها المسلمُ الصّحيح،
أَفَلَيْسَتِ السَّجدةُ على تربةٍ هذا شأنُها لدى التَّقرُّبِ إلى الله في أوقات الصَّلاة
أَوْلَى وأَحْرَى مِن غيرِها؟
أَلَيْسَ أجدر بالتَّقرُّبِ إلى الله وأقرب
بالزُّلفى لديه وأنسب بالخضوع والخشوع والعبوديّة له تعالى أمام حضرتِه، وضعُ صفحةِ
الوجهِ والجِباهِ على تربةٍ في طَيِّها دروسُ الدِّفاع عن الله ومظاهرِ قُدْسِهِ؟
أَليسَ أَلْيَقَ بأسرارِ السُّجود على الأرض،
السُّجودُ على تربةٍ فيها سِرُّ المِنْعَةِ والعَظَمَةِ والكبرياءِ لله جلَّ جلالُه،
ورموزُ العبوديّة والتُّصاغُر بأجلى مظاهرِها وسِماتِها؟
أَليسَت أحقّ بالسُّجود تربةٌ فيها بَيِّناتُ
التَّوحيد والتَّفاني دونَه؟ أليسَ الأمثل اتِّخاذُ المسجد من تربةٍ تَفَجَّرَت عليها
عيونُ دماءٍ اصْطَبَغَت بِصبغةِ حبِّ الله، وصِيغَت على سُنَّةِ اللهِ وولائِهِ المَحْضِ
الخالِص؟ مِن تربةٍ عُجِنَت بدمِ مَن طهَّرهُ الجليلُ، وجَعَلَ حُبَّه أجرَ الرِّسالة
الخاتمة ".." وديعةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وآله لدى أمَّتِه
المسلمة كما جاء في السُّنَّة؟
فعلى هذَين الأصلَين نَتَّخِذُ نحنُ مِن
تربةِ كربلاء قِطَعاً وأقراصاً نسجدُ عليها، وليس اتِّخاذُ تربة كربلاء مسجداً لدى الشِّيعة من الفرضِ المُحتَّم ولا
من واجبِ الشَّرع والدِّين، خلافَ ما يذهبُ الجُهَّالُ بهم وبآرائهم.