الإنسان الكامل في القرآن الكريم
والحديث القدسيّ
مَن هو الوليّ، وكيف يبلغُ مقامَ
الولاية؟
---- آية الله الشّيخ عبد الله جوادي
آملي ----
تتصدّر ولايةُ الإنسان في
القرآن الكريم مكانةً خاصّةً، وفهمُ ذلك يعود إلى أنَّه سبحانه وتعالى خصَّ
الإنسانَ بِمَكرُماتٍ ومنازل معنويّةٍ دون سائر مخلوقاته. وفي آية الاستخلاف إشارة
إلى القصدِ الإلهيّ من هذا التّخصيص، كما في قوله جلَّ شأنُه: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾البقرة:30.
في هذه المقالة الّتي اخترناها من كتاب (الإنسان الكامل في القرآن
الكريم) للفيلسوف والعارف الإسلاميّ آية الله الشّيخ عبد الله جوادي آملي، قراءةٌ
معمَّقةٌ لمفهوم الولاية في الكتاب العزيز والحديث القدسيّ، وعلاقتها بالعبادة
كسبيلٍ لبلوغ الإنسان هذا المقام، والشُّروط الواجبة لِتحقيقها.
«شعائر»
إذا أراد
الإنسانُ أنْ يصيرَ وليّ الله، فالطّريق لذلك هو عبادة الله؛ إذ أنَّ الإنسان من
طريق العبادة والعبوديّة الّتي بمعناها الوسيع، تشمل امتثال جميع الأوامر الإلهيّة،
يصير محبوباً لله، والمحبوب لله سوف يتشرَّف بالوصول الى مقام الولاية الإلهيّة.
حديث قُرْب النّوافل
وهذا البيان موجودٌ في
القرآن الكريم وفي كلام أهل البيت عليهم السّلام. ومن خلال عرضِ الآيات والرِّوايات، يَتَّضِح أنَّ الطَّريق الوحيد لِنَيل
الولاية هو امتثال الأوامر الإلهيّة من جميع الجوانب.
هناك رواية نقَلَها
المحدِّثون المسلمون في جوامعهم الرّوائيّة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، واشتُهِرت فيما
بعد برواية «قُرْب النّوافل». وهذه الرّواية من الأحاديث المُعتَبَرة والمعروفة، حتّى
أنَّها قد ذُكِرت في النُّصوص الأدبيّة العربيّة، شعراً ونثراً.
أصلُ الحديثِ حديث قدسيّ نَقَلَهُ
أبانُ بن تغلب عن الإمام الباقر عليه السّلام عن
رسول الله صلّى الله عليه وآله، ونصّه: «لمّا أُسرِيَ بالنّبيّ صلّى الله عليه
وآله، قال: يا ربِّ ما حالُ
المؤمنِ عندك؟ قال: يا محمّد صلّى الله عليه
وآله، مَن أهانَ لي وليّاً
فقد بارَزَني بالمُحاربةِ، وأنا أسرعُ شيءٍ إلى نُصرةِ
أوليائي، وما يتقرّبُ إليَّ عبدٌ من عبادي بشيءٍ أحبّ إليّ ممّا افترضْتُ عليه، وإنَّه
ليتقرَّب إليّ بالنّافلة حتّى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمعَهُ الّذي يسمعُ به، وبصرَهُ الّذي يُبصر به، ولسانَه الّذي ينطقُ به، ويدَهُ
الّتي يبطشُ بها، إنْ دعاني أجبتُه وإنْ سألَني أعطيتُه».
وكما هو مقرّرٌ في محلّه، فجميع الواجبات تهيِّئ
الأرضيّة للتّقرُّب إلى الله تعالى، ولئن كان قد وَرَد بالنّسبة إلى الصّلاة بأنّ «الصَّلاة
قربان كلّ تقيّ»، فهذا كنموذجٍ وإلَّا فالصَّلاة لا خصوصيّة لها، إذ قد وَرَد
التّعبير نفسه بالنّسبة إلى للزّكاة أيضاً: «ثمّ أنَّ الزّكاة جُعِلَت مع الصَّلاة
قرباناً لأهل الإسلام».
والحاصل أنَّ كلَّ عملٍ يُشترط
التّقرُّب في صحَّتِه، كالزّكاة والحجّ والجهاد وأمثال ذلك، ويأتي به العبدُ السَّالكُ
بِقصدِ القُربة، فهذا العمل يكون «قُرْبَانه»؛ أي أنَّه يَقترِب من الله بهذا
العمل. غايته أنَّ القُربَ الحاصل من الفرائض، أكثر من القرب الحاصل للسّالك من
إتيانِ النّوافل.
ثمَّ قال: «وإنّه لَيتقرَّب
إليّ بالنّافلة»، فكما أنَّ إتيانَ الفرائض مُوجِبٌ للقُرْبِ، فكذلك إتيانُ
النّوافل يبعث على التّقرُّب.
كلُّ عملٍ قُربيّ يكون
أكثر من المقدار الواجب، يسمّى نافلة؛ النّفل: يعني المقدار الإضافيّ.
قال اللهُ سبحانه في جوابِه
لِدعاء إبراهيم سلام الله عليه، إذ كان قد طلب من الله عزَّ وجلَّ الولد: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ الأنبياء:72. أي فضلاً عن إسحاق، أعطينا إبراهيم يعقوب نافلةً وزائداً على طلبه. لقد
طلب منّا ولداً، ونحن- عدا عن ولدِه إسحاق- وهبناه حفيداً باسم يعقوب سلام الله
عليهم أجمعين.
«..حتّى أحبّه، فإذا أحببتُه..»
وقد وَرَد في هذا الحديث
الشّريف أيضاً أنَّ العبدَ السَّالك ليتقرَّب إليّ بالنّوافل «حتّى أحبّه»،
ومن الواضح أنّه ليس كلّ الّذين يقومون بالأعمال الواجبة والمستحبَّة محبوبين للحقّ،
وإنّما قليلٌ منهم يتابعون سَير النّوافل هذا إلى أن يصلوا إلى مقام المحبوبيّة
لله سبحانه، وميزة هذه المجموعة القليلة هي أنّهم:
أوّلاً: يأتون بالنّوافل حبّاً لله تعالى، لا «شوقاً إلى الجنّة»، ولا «خوفاً من
النّار» لأجل مَحْوِ السّيّئات، أو لأجل جبران نقصِ الفريضة، كما قد وَرد في جملةٍ
من الرّوايات أنّ إتيان النّافلة وكذلك سجدة الشُّكر بعد الصَّلاة يجبرُ عدم حضور
القلب في الفريضة.
ثانياً: أنّهم يتابعون السَّير في وادي المحبّة ذلك حتّى يَرتَقوا من كَوْنِهم محبّي
الله، إلى كَوْنِهم محبوبِي الله. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله..﴾ آل عمران:31.
إنّ كثيراً من السَّالكين
هم من المحبِّين لله، لكنّهم ليسوا محبوبين له. اللهُ سبحانه أَمَرَ رسولَه في
سورة «آل عمران» أنْ قُل للنّاس إنْ كنتم تحبُّون الله فاتَّبِعوا حبيبَ الله لكي
تصلوا حيث تصيرون محبوبين لله: اتّباعُ حبيبِ الله يجعل العبدَ السّالك حبيباً
لله، والوصول لهذه المرتبة مقدّمة مقام الولاية، إذ أنَّ كلّ محبٍّ تظهر آثاره بيد
المحبوب.
ولذا وردَ في تتمّة
الحديث القدسيّ: «فإذا أحببتُه كنتُ سمعَهُ الّذي يَسمعُ به، وبصرَهُ الّذي يُبصر
به، ولسانَه الّذي ينطقُ به، ويدَه الّتي يبطشُ بها، إنْ دعاني أجبتُهُ، وإنْ سألَني
أعطيتُه». أي، إذا صار محبوبي وكنتُ محبّاً له أتولَّى جميع مسالكه الإدراكيّة
والعمليّة. وعليه فإذا فهم، فهو إنّما يفهمُ بنوري العلميّ، ولذا ففي المسائل
العلميّة لا يَعجز ولا يَشتبه في الفهم، وإذا قام بعملٍ فإنّما يقوم به بقدرتي،
لذا لا طريق للعجز والمعصية في أعماله. وهنا يتشرَّف بخطاب ﴿..وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى..﴾ الأنفال:17. وطبعاً «رمى» لا خصوصيّة لها وإنّما ذُكِرَت كَمصداقٍ من المصاديق، وإلَّا
فإنَّ الأصل الكلّيّ للارتقاء إلى هذه المنزلة هو بهذا النَّحو: «وما فعلْتَ إذ
فعلْتَ ولكنَّ اللهَ فعل»، و«ما عَلمْتَ إذْ علمْتَ ولكنَّ الله علم».
ومع الالتفات إلى أنَّ
هذه الأمور إنَّما هي في حدود صفة فعل الله سبحانه لا صفة الذّات، فضلاً عن أنْ
يصلَ إلى مقام الذّات الّذي ليس موضوعاً لأيّة قضيّةٍ حتّى في العرفان النّظريّ،
لذا فإسنادُ هذه الأفعال لله سبحانه لا يَستتبع أيّ محذور.
أجل، فالعجزُ، والهمَّة
القاصرة ُللسَّالكين الَّذين أَلْقوا رحالهم في وادي الخوف من النّار أو في صحراء
الشّوق إلى الجنّة، أو أنّهم عبَروا هذَين المنزلَين لكنّهم حَسبُوا ممرّ محبّة
الله ومحبّة الحقّ منزلاً، فهؤلاء لن يصلوا إلى مراقي هذا المقام الرّفيع بأن
يصيروا محبوبين لله، وإنّما يلزمهم همّةٌ عاليةٌ، وسعيٌ مستمرٌّ، ومجاهدةٌ مضنيةٌ،
لكي ينالوا تلك العطيّة الإلهيّة الغالية، وإن كان من الممكن أنْ يصيرَ العبدُ
مجذوباً للحقِّ دونَ بذلِ دم قلبه، وأن يصيرَ السّالكُ محبوباً له دون ذهابِ
مُهجته، فمن باب أنَّ «العزّ هو ذلك الّذي يُكتَسَب دون بذل دم القلب».