يوم الأربعين*
«عسى أنْ يكونَ قد دُفِن
في قلبي»
-----الشّيخ جعفر
التّستري رحمه الله -----
عن الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه
السّلام أنّه قال: «علائمُ المؤمنين خَمس:
صلاة إحدى وخمسين، وزيارةُ الأربعين، والتّختّم باليمين، وتعفيرُ الجبين، والجهرُ
بـ (بسم الله الرّحمنِ الرّحيم)».
على الرّغم من أنّ عدد المؤمنين في النَّاس
قليل؛ لمتابعة أكثر النّاس هوى النّفس، إلَّا أنّ هذا القليل فيه منفعةٌ للآخرين:
وذلك في عيادة هؤلاء الآخرين المؤمن، أو زيارتهِ، أو إعانتِه.
ولعلّ في المؤمن منفعةٌ للكافرين أيضاً، فالكافر الّذي
يُعين مؤمناً في شيءٍ، لا يُؤثِّر فيه يوم القيامة حرُّ نارِ جهنّم.
وإذا
عادَ مؤمنٌ مؤمناً، فإنّ ألف مَلَكٍ، أو سبعين ألف ملَكٍ يأتون لعيادته في قبره
كلَّ يوم. وإذا أعان على دفنِ مؤمنٍ وتكفينِه وتشييعِه، فإنّ الخطابَ يَصلُ إلى
المؤمن المَيت في قبره: «..أَلَا إنّ أوّلَ
حِبائكَ [الحِباء هو ما يُتحف به المرء]
الجنّة، وحِباءُ مَن تَبِعَكَ المغفرةُ»، كما
في الرّواية عن الإمام الباقر عليه السلام.
تجهيزُ
سيِّد الشُّهداء عليه السَّلام
والآن،
تعالوا نجهّز ونكفِّن أحد المؤمنين، بل رئيس المؤمنين، ورأس المؤمنين! الّذي هو «أبو
عبد الله الحسين عليه السّلام».
المشهور
بين النّاس أنّ هذا العظيم ظلّ ثلاثة أيّامٍ بلا دفنٍ. ولكنّي أقول: إنّه ظلّ
أربعين يوماً بلياليها.. من دون دفنٍ! لأنَّ عمدة أعضاء البدن: الرّأس. وما لم يُدفَن
الرّأس، لا يتمُّ التّجهيز.
هنالك أخبار مختلفة حول الرّأس المقدّس، لكنّه -على
أيّ حال- قد أُلحِقَ بالبَدَنِ الطَّاهر.
تدلُّ بعض الرّوايات أنَّ الشِّيعة قد أخْفَوه،
وجاؤوا به عند رأسِ الإمام أمير المؤمنين عليه
السّلام ودَفنوه. وتدلّ أخبارٌ أُخَر أنّه دُفن
في الشّام. وفي بعضها أنّه دُفن في مصر، وله الآن فيها قبّةٌ ومزار.
ويُروى عن الموكَّلِ بحمل الرَّأسِ الأنوَر على الرُّمح
قوله: «كان الرَّأسُ على الرُّمح، إذ لاحَ لي فجأةً وجهُ رسولِ الله.. فمالَ الرَّأسُ
من أعلى الرُّمح وهبط إلى حضنِ رسولِ الله، ثمّ غاب.«
مهما
يكن.. فإنّ لـ «يوم الأربعين» خصوصيّة الزّيارة. والسِّرُّ فيه قدومُ أهل البيت في
هذا اليوم، أو مجيءُ أوَّلِ زائرٍ: «جابر بن عبد الله»، أو دفنُ الرَّأس.
وعلى أيِّ حالٍ.. علينا
نحن التّكفين والتّجهيز:
لا
يلزم وجود تابوت؛ لوجود عدّة توابيت: تابوت الطَّسْت الذّهبيّ! تابوت أعلى الرّمح!
تابوت الطَّبق!
وما من حاجةٍ إلى كفن؛ لأنَّ الرَّأسَ كان محفوفاً
بنورٍ ساطعٍ، ينبعثُ منه إلى السَّماء.. كما ذَكَرَ الرَّجلُ الشَّاميّ: «كنتُ في
الحجرةِ حين رأيتُ نوراً ساطعاً. نظرتُ.. وإذا رأس الحسين»!
وكما قال الرَّاهب: «رأيتُ نوراً وَسط قافلةِ الرَّأس،
فأعطيتُ مبلغاً كبيراً، لِيكون الرَّأسُ عندي تلك اللّيلة».
أجل..
لا يحتاج إلى كفنٍ أيضاً، ولا إلى حَنُوطٍ؛
لأنّ هذا الرّاهب نفسه قد حنّطَه بالمِسك والكافور.
الّذي بقي.. هو غُسله!
أَتُرانا
قادرين على تغسيله بالماء؟!
لا
أدري.. عن أيّ مصائِبه أحكي!
ومع
أنّ البدن المبارك قد ظلّ -بجراحاته- ثلاثةَ أيّامٍ على الأرض، لكنّي أظنّ أنّ
مصيبةَ الرّأس أمضُّ وأفجعُ!
أَأَذكُر
فصلَ الرّأسِ عن البدن؟! أم أحكي عن جراحاته؟! أم أتحدّثُ عن سَلب ردائه ونزْعِ
عمامته؟!
هذا
كلّه مصيبتُه الظّاهريّة. أمّا المصيبة الباطنيّة لهذا الرّأس، فهي:
تقديمُهُ
هديّةً لابن سعد! ومنه إلى ابن زياد! ومنه إلى الشّام!
وأمّا
المصيبة الظّاهريّة ـ الباطنيّة!
أَأَحكي
عن وَضعِه أمامَ ابن زياد؟!
أم
رفعِهِ العصا.. ثمّ وَضعها على شَفَتِه المبارَكة؟!
أم
أتَحدَّث عن ضحكتِه.. الّتي هي أمضّ المصائب؟!
بعد
هذا الدَّفن الظاهريّ.. عسى أن يكون قد دُفن في قلبي. وعسى ألَّا نُحْرَم من
فيوضاته.
والسّلام عليه وعلى آبائه الطّيّبين وأبنائه الطّاهرين،
ورحمةُ الله.
________________
*
مقتطف من كتاب (الأيّام الحسينيّة)