الإيمان
بحثٌ كلاميّ في معانيه ومراتبه
_____المحقّق السّيّد
عليّ خان الشّيرازيّ_____
في
القرآن الكريم والحديث الشّريف المنقول عن المعصومين عليهم السّلام، وَرد الكثير حول
الإيمان ومقاصده ومعانيه، والمنازل الّتي يقطعها المؤمنون في سلوكهم وسَيرهم إلى
القرب من جناب الحقّ تعالى.
في
هذا النّصّ الّذي تقدّمه «شعائر» إلى قرّائها، تأصيلٌ لمفهوم الإيمان، في دلالته
اللّغويّة والاصطلاحيّة، وكذلك في ما ورد فيه من معانٍ في كُتُب التّفسير، وما
قاله فيه أئمّة الهدى عليهم السّلام.
نشير
إلى أنّ هذا النّصّ مقتطف من كتاب (رياض السّالكين في شرح صحيفة سيّد السّاجدين)
للمحقِّق السّيّد عليّ خان الشّيرازيّ رحمه الله.
الإيمان: إفعالٌ
من الأمن الّذي هو خلاف الخوف، ثمّ استُعمِل بمعنى التّصديق، فالهمزة فيه إمّا للصّيرورة،
كأنّ المصدِّق صار ذا أمنٍ من أن يكون مكذّباً، أو للتّعدية، كأنّه جعل المصدِّق آمناً
من التّكذيب والمخالفة.
ويعدّى بالباء
لاعتبار معنى الإقرار والاعتراف، نحو: ﴿..يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..﴾ البقرة:3.
وباللّام لاعتبار
معنى الإذعان، نحو: ﴿..وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا..﴾ يوسف:17،
هذا معناه اللّغويّ.
وأمّا في الشّرع فقيل:
هو المعرفة، فقومٌ بالله، وقومٌ به وبما جاءت به رسُلُه إجمالاً.
وقيل: هو كلمتا الشّهادة.
وقيل: هو التّصديق
معهما.
وقيل: هو أعمال
الجوارح، فقومٌ [قالوا]
هو الطّاعات بأسرها فرضاً أو نفلاً، وقومٌ [قالوا]
هو الطّاعات المفترضة دون النّوافل.
وقيل: هو مجموع الثّلاثة؛
فهو تصديقٌ بالجَنان، وإقرارٌ باللّسان، وعملٌ بالأركان.
وقيل: هو التّصديق
بالله ورسوله وبما جاء به إجمالاً والولايةُ لأهلها. وهو الحقّ، لدلالة الآيات
والأخبار عليه، نحو قوله تعالى: ﴿..أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ..﴾
المجادلة:22، ﴿..وَلَمَّا
يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..﴾ الحجرات:14،
﴿..وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ..﴾ النّحل:106،
دلَّت على أنّه أمرٌ قلبيّ.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..﴾ الحجرات:9،
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى..﴾
البقرة:178، ﴿الَّذِينَ
آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ..﴾
الأنعام:82، دلّ اقترانُ الإيمان بالمعاصي فيها
على أنّ العمل غيرُ داخلٍ فيه حقيقةً.
وقوله تعالى: ﴿..الَّذِينَ
آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..﴾ البقرة:25
دلّ على التّغاير، وأنّ العمل ليس داخلاً فيه، لأنّ الشّيء لا يُعطَف على نفسه،
ولا الجزء على كلِّه.
وقول الرّسول صلَّى
الله عليه وآله: «يا معشرَ مَن أسلم بلسانه ولم يَخلص
الإيمانُ إلى قلبه، لا تذمّوا المسلمين»، وقول الصّادق عليه
السّلام: «الإيمان وَقرٌ في القلوب،
والإسلام ما عليه المناكح». وقوله عليه السّلام: «يُبتلى المؤمن على قدرِ
إيمانه وحُسنِ أعماله»... دلَّت على محلّيّة القلب للإيمان ومغايرته للعمل،
على أنّ كون الإيمان عبارة عن التّصديق المخصوص المذكور لا يفتقر إلى نقله عن معناه
اللّغويّ الّذي هو التّصديق مطلقاً، لأنّ التّصديق المخصوص فردٌ منه، بخلاف ما إذا
كان المراد غيره من المعاني المذكورة، فإنّه يستلزم النّقل وهو خلاف الأصل، ولو
كان منقولاً لَتبيّن للأمّة نقله بالتّوقيف، كما تبيّن نقلُ الصّلاة والزّكاة
ونحوهما، ولاشتهرَ اشتهار نظائره، بل هو كان بذلك أَوْلى.
وأمّا ما ذهب إليه
المحقّق الطّوسيّ من أصحابنا، من أنّ الإيمان مركّبٌ من الإقرار والتّصديق، واستدلّ
على أنّ الأوّل وحده -وهو الإقرار باللّسان- ليس بإيمان، بقوله تعالى: ﴿قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا..﴾ الحجرات:14،
فقد أثبت الإقرار اللّسانيّ ونفى الإيمان، فعلم أنّ الإيمان ليس هو الإقرار باللّسان.
وعلى أنّ الثّاني
وحده -وهو التّصديق- ليس بإيمان، بقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ..﴾ النّمل:14،
أثبت للكفّار الاستيقان النّفسيّ وهو التّصديق، فلو كان الإيمان نفس التّصديق لزم
اجتماع الكفر والإيمان في شخصٍ واحدٍ في آنٍ واحدٍ، ولا شكّ في أنّهما متقابلان لا
يمكن اجتماعهما كذلك.
ففيه أوّلاً:
أنّ التّصديق لمّا كان مقروناً بالإنكار كان غير مُعتبَر، لأنّ التّصريح بالنّقيض
ربّما كان مانعاً من القبول والاعتبار، ولذلك اشتُرط فيه عدم الإنكار باللّسان.
وثانياً:
أنّ هذه الآية إنّما تدلّ على أنّ التّصديق وحده ليس بإيمان، ولا تدلّ على أنّ
الإقرار باللّسان جزء من الإيمان، لجواز أن يكون شرطاً له، والمشروط ينتفي بانتفاء
الشّرط كما أنّ الكلّ ينتفي بانتفاء الجزء.
ومن ثمّ حمل المتكلِّمون،
القائلون بأنّ الإيمان نفس التّصديق، الأخبار الدّالَّة على جزئيّة أعمال الجوارح
للإيمان على أنّها للكمال، بمعنى أنّ العمل ليس جزءاً للإيمان بحيث يعدم الإيمان
بعدم العمل، بل إضافة العمل إليه إضافةُ كمال، وكذا حملوا الأخبار الدالَّة على
جزئيّة الإقرار باللّسان على أنّه شرطٌ في الإيمان لا جزء منه، وعلى هذا حملوا
الأخبار المختلفة الدّالّ بعضها على أنّ الإيمان نفس التّصديق والعمل، وبعضها على
أنّه التّصديق والإقرار.
ثمّ كون الإقرار باللّسان
شرطاً في كون التّصديق القلبيّ إيماناً هو مذهب طائفة من العامّة أيضاً. قال التّفتازانيّ
في (شرح العقائد): «فرقة تقول: الإقرار شرطٌ لصحّته». وقال الدّوانيّ في شرحه (العقائد
العضديّة): «والتّلفّظ بكلمتي الشّهادة مع القدرة عليه شرط، فمَن أخلّ به فهو كافر
مخلَّد بالنّار»، انتهى.
وقال بعض أصحابنا: «إنّما
يشترط عدم الإنكار باللّسان، وأمّا كون الإقرار شرطاً في قبول الإيمان القلبيّ فلا».
الزّيادة والنّقصان في الإيمان
اختُلف في الإيمان،
هل يقبل الزّيادة والنّقصان أم لا؟ فذهب إلى كلٍّ طائفةٌ.
وقال كثيرٌ من
المتكلَّمين: هو بحثٌ لفظيّ، لأنّه فرعُ تفسير الإيمان.
فإنْ قلنا:
هو التّصديق فلا يقبلهما، لأنّ الواجب هو اليقين، وإنّه لا يقبل المتفاوت لا بحسب
ذاته ولا بحسب متعلَّقه. أمّا الأوّل، فلأنّ التّفاوت إنّما هو لاحتمال النّقيض،
وهو ولو بأبعد وجه ينافي اليقين، فلا يجامعه. وأمّا الثّاني، فلأنّه جميعُ
ما عُلم بالضّرورة مجيءُ الرّسول به، والجميعُ من حيث هو جميعٌ لا يُتصوَّر فيه
تعدّد، وإلَّا لم يكن جميعاً.
وإن قلنا:
هو العمل وحده أو مع التّصديق فيقبلهما، وهو ظاهر.
وما ورد في الكتاب
والسّنّة ممّا يدلّ على قبوله إيّاهما فباعتبار الأعمال، فيزيد بزيادتها وينقص
بنقصانها. وقال المحقّقون من الفريقَين: الحقّ أنّ التّصديق يقبل الزّيادة والنّقصان
بحسب ذاته وبحسب متعلَّقه.
أمّا الأوّل،
فلأنّ التّصديق من الكيفيّات النّفسانيّة المتفاوتة قوّةً وضعفاً، فيجوز أن يكون التّفاوت
فيه بالقوّة والضّعف بلا احتمالٍ للنّقيض، وللفرق الظّاهر بين إيمان النّبيّ وآحاد
الأمّة.
وأمّا الثّاني،
فلأنّ التّصديق التّفصيليّ في أفراد ما عُلم مجيءُ الرّسول جزءٌ من الإيمان، يُثاب
عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال، فكان قابلاً للزّيادة.
وقوله تعالى: ﴿..وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي..﴾ البقرة:260
ناظرٌ إلى الأوّل، لأنّ عين اليقين أقوى من علم اليقين، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه
السّلام: «لو كُشِف الغطاء ما ازددْتُ يقيناً».
وقوله تعالى: ﴿..وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا..﴾ الأنفال:2
ناظرٌ إلى الثّاني.
إذا عرفت ذلك فقوله
عليه السّلام: «بلَّغ بإيماني أكمل الإيمان»، يحتمل أن يكون المراد به نفس
التّصديق وهو أصل الإيمان الكامل، وأن يكون المراد به الإيمان الكامل وهو التّصديق
مع العمل، فإنّ لكلٍّ منهما درجات ومراتب متكثّرة متفاوتة بعضها فوق بعض، وأدناها
في التّصديق أصلُ المعرفة، لأنّ زواله يُوجبُ الكفر، و[أدناها]
في العمل القيامُ بالمفروضات واجتنابُ المنهيّات، وأعلاها
فيهما غاية الكمال للبرّ، وهي في التّصديق كمرتبة عين اليقين، أو أعلى منها وهي
مرتبة حقّ اليقين، وفي العمل صرفُ جميع الجوارح في جميع الأوقات في جميع ما خُلقتْ
له، وقد وردت أخبار كثيرة في أنّ الإيمان درجات.
فعن أبي عبد الله
عليه السّلام أنّ «الإيمان عشرُ درجاتٍ بمنزلة السُّلَّم، يصعد منه مرقاةً بعد
مرقاة». ".."
وعنه عليه السّلام: «".."
منه التّامّ المنتهي تمامُه، ومنه النّاقصُ البيِّنُ نقصانُه، ومنه الرّاجحُ الزّائدُ
رجحانه».
قال بعض الشّارحين:
التّامّ المنتهي تمامه كإيمان الأنبياء والأوصياء، والنّاقص البيّن نقصانه هو أدنى
المراتب الّذي دونه الكفر، والرّاجح الزّائد رجحانه على مراتب غير محصورة، باعتبار
التّفاوت في الكمّيّة والكيفيّة، والله أعلم.