الأصالة والأصوليّة
ـــــ كريم عبد الرّحمن* ـــــ
يعمدُ الباحثون في مفهوم (الأصالة) إلى
تعريفِها بشتّى التّعريفات، الّتي تُراوِح ما بين الاصطلاحيّ منها وما بين الإيديولوجيّ. ويبدو من مجمل التّعريفات
أنَّ لفظة (أصالة) يمكن أن تكون صفةً تُطلَق على أيِّ عملٍ يبرزُ فيه نوعٌ من أنواع
الإبداع. ويشيرُ البعضُ إلى أنَّ هذه الأصالة يمكن أن تدلّ على معنيَين، أحدهما زمنّي،
والآخر منهجيّ، أو كلاهما معاً.
فالقائلون بالمعنى المنهجيّ يَرونَ أنَّ الأصيل حقّاً هو ما يَتجاوز مفهوم الزّمن، في قبال
القائلين بأنَّ الأصيل ينتمي إلى الماضي حُكماً، وإنْ كان القِدَمُ فيه نسبيّاً.
وقد قَرَنَ بعضُ
المتأخّرين الأصالةَ بالصِّدق، ويقابله: القولُ المتحوّل. وفي «علم ما بعد الطّبيعة»، تعني الأصالةُ
عندَه المطابقةَ التّامّةَ بين ظاهر الوجود وحقيقتِه. وفي عِلمِ الأخلاق، هي الصِّدقُ والإخلاص.
وهي عند بعض فلاسفة الغرب، الأفكار والعواطف الصّادرة حقاً عن صاحبها، فكلُّ مَن كان تفكيره صدًى للبيئة أو الرّأي العامّ، وكلامُه غير صادرٍ عن ذاته، وغير متّصلٍ بالواقع، لم يكن إنساناً أصيلاً.
ومن خاصّيّات الأصالة بمعناها العامّ
– فضلاً عن الإبداع المتقدّم ذكرُه - لكي تبقى حيّةً، أن تكون قابلةً للاستثمار، أي أن تبقى دائماً محلَّ تساؤلٍ وتكيُّفٍ. أي دائمةَ التّفتُّح على صيرورة التّاريخ. فهي من دون ذلك تذبلُ وتنعدمُ عمليّاً، وتبقى مجرّدَ عبءٍ ثقيلٍ يعرقلُ المسيرة.
والأصالةُ بعدُ،
إرثٌ مجهولُ الاسم، لأنّه مشتركٌ بين أجيال مَضَت وأُخرى تحيا، بين ما كان وما سيكون أو قد يكون. ومن خلالها تتكشّف الجذورُ التّاريخيّة للفرد في علاقاته بمحيطه الطّبيعيّ. إنّها القاعدة الّتي عليها يُشادُ التّجديد، وتنعكس الهويّة الخاصّة والعامّة في تطوُّرها.
والأصالةُ ليست كلّ التُّراث؛ بل ما تأصّل منه في ذهنيّة الشُّعوب وسلوكها، أو ما هو قابلٌ لأن يستمرّ في حياتها حاليّاً. فالشُّعوبُ الّتي لا تستأنس بتراثها عند بناءِ مستقبلٍ ترتضيه، طبقاً لنموذج المعاصَرة الّذي اختارته، هي شعوبٌ مبتورةٌ من حاسّة التّاريخ، ومن الثّقة بالنّفس.
لم يتحدّث الكاتب الموقّر عن «الأصالة
الإسلاميّة» التي تعني التزام الثّابت المجمَع عليه من العلماء والفقهاء المختصّين
في مجالات العقيدة وكليّات المفاهيم والتّشريع، بحيث يحصل اليقين بأنّ المنهجَ
الملتزم ليس مدخولاً، بل هو أصيلٌ لالتزامه الأُسسَ الّتي جاء بها النّبيّ صلّى
الله عليه وآله، ولم يُلبِسها بغيرها.
«شعائر»
***
الأصوليّة (Fundamentalism): هي اصطلاحٌ سياسيٌّ
فكريٌّ مُستحدَثٌ، يشيرُ إلى نظرةٍ متكاملةٍ للحياة بكافّة جوانبها السّياسيّة، والاجتماعيّة،
والاقتصاديّة، والثّقافيّة، نابعة عن قناعةٍ متأصِّلةٍ، تكون في الغالب تصوُّراً عقائديّاً.
وقد جاءت الكلمة من عنوان سلسلةِ نشراتٍ أو كتيِّباتٍ، سُمِّيت «الأصول» أو «الأساسيّات»،
ظهرت في الولايات المتّحدة الأميركيّة خلال الفترة 1910 ـ 1915م، واستُخدِم فيها مصطلح
«الأصول»، ليعني عناصر عقيدة الثّالوث المسيحيّة.
وفي العالم
الإسلاميّ، يُمكن القول أنَّ هناك تيّارَين أصوليَّين: أحدهما تيّار الأصوليّة العقليّة، والثّاني هو تيّار الأصوليّة الحَرَكيّة. ويُقصَد بالأصوليّة العقليّة ذلك التّيّار الّذي يرمي إلى العودةِ لأصول فهم الإسلام، كما فَهمَهُ المسلمون الأوائل: اتّباعاً لأوامر القرآن الكريم وسنَّة النّبيّ صلّى الله عليه
وآله، واتّخاذ هذا الفهم سبيلاً لتحديد الحياة الرّوحيّة للمسلمين، وإعادة تقدير قِيَم العمل والاجتهاد، والسّعي للإسهام في الحضارة العالميّة بالدَّور
المفترَض.
ويُقصَد بالأصوليّة الحَرَكيّة (السّياسيّة)، ذلك التّيّار الّذي يتبع الحركات السّياسيّة من دون أيِّ تحديدٍ حقيقيٍّ للفكرِ الدّينيّ، وينتهجُ الأساليب الحزبيّة من دون تقديم أيّ برامج مدروسةٍ أو أيِّ نُظُمٍ علميّة، ويعمل على أن يكون الدِّينُ سياسةً، والشّريعةُ حزباً؛ أيْ إقصاء
الآخَر بالمطلَق، كما في آراء أحمد ابن تيميّة حيث رَفضَ كلَّ المواقف الّتي تَنحرفُ عن المذهب الحنبليّ، كما فهمَه
هو.
*
باحث في الفلسفة