لا يخلو الزّمانُ من حُجَّة
وجودُ الوصيّ لطفٌ
من الله بالعباد
ـــــ السّيّد عبد الله شُبَّر رحمه
الله ـــــ
مقتطف من كتاب (السّلوك إلى الله)
للعلّامة السّيّد عبد الله شبّر رحمه الله، في إثبات وجود الحجّة، وأنّه ترجمانٌ
للوحي النّبويّ، لُطفاً من الله تعالى بعباده حذرَ أن تتفرّق بهم سبلُ الحيرة
والشّكّ بعد انقضاء الوحي، مضافاً إلى ما يحكمُ به العقلُ والنّقلُ من وجوب عصمة
الحجّة الوصيّ، وكمالِ المجانسة بينَه وبين النّبيّ، خلا النّبوّة.
حيث إنَّ للهِ الحُجَّةَ البالغةَ، [كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ فَللّهِ الْحُجَّةُ
الْبَالِغَةُ..﴾ الأنعام:149]، فلا يخلو الزّمانُ من حُجَّةٍ، وإلَّا لساختِ الأرضُ بأهلها، و[الحُجج] هم الأنبياء والأوصياء. وكيف يُتصوَّر أنْ يتركَ اللهُ عزَّ وجلَّ الخَلقَ
سُدًى، أو يَكِلَهُم إلى عقولهم النّاقصة، وأهوائِهم الباطلة؟
فَمَن لم يترك الجوارح والحواسّ حتّى جعل لها رئيساً يصحِّح لها الصّحيح،
ويُعيِّن لها ما شكّت فيه، وهو القلب والرّوح، كيف يتركُ الخَلقَ في حَيرتهم،
وشكِّهم، وضلالتِهم، لا يُقيم لهم حُجّةً هادياً يَردّون إليه شكّهم وحَيرتهم؟
قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ..﴾ الحديد:25، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي
بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ﴾ الجمعة:2.
دليلُ الاضطرار إلى أوصياء الأنبياء
كلُّ ما دلَّ على وجوب إرسال الرُّسُل
والاضطرار إليهم، يدلُّ على وجوب نصبِ الإمام. إذ الاحتياجُ إلى الحُجّة غيرُ
مُختصٍّ بوقتٍ دون آخر، وفي حالةٍ دون أخرى، ولا يكفي بقاءُ الكُتُب والشّرائع من
دون قيِّمٍ لها، عالمٍ بها، إذ فيها المُحكَم والمتشابَه، والمُجمَل والمُؤَوَّل،
والنّاسخ والمنسوخ، والتّحريف والتّصحيف؛ قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ..﴾ آل عمران:7.
وكيف يُحيل اللهُ جميعَ الخَلقِ مع تشتُّتِ
أهوائهم، واختلافِ أفهامهم على كتابٍ فيه المُجمَل والمُتشابه، وسُنَّتُه [سُنّة النّبيّ صلّى الله عليه وآله] كذلك، بلا رئيسٍ ولا قيِّمٍ؟ وكيف لا
يجوزُ للخَلقِ تعيينُ الأنبياء ويجوزُ لهم تعيينُ الأوصياء، وهما من بابٍ واحدٍ لا
تفي العقول بمعرفتهما؟
قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ..﴾ القصص:68، وقال تعالى: ﴿..الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ
دِينًا..﴾ المائدة:3، ونصبُ الإمام من أعظم أركان الدّين، فيجب
وقوعه قبل نزول الآية كما تواترت به الأخبار.
وقال تعالى: ﴿..مَا فَرَّطْنَا
فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ..﴾ الأنعام:38، وقال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿..وَمَا
تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ
وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ الأنعام:59، فلا بدَّ من قيِّمٍ يعرفُ جميع ذلك،
ومن كون الإمامة فيه الّتي هي من أهمّ الأشياء، وقال تعالى: ﴿..أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ..﴾ النساء:59، فلا بدَّ من وجود أولي الأمر الّذين تَجِبُ
طاعتُهم.
[عن أبي هريرة]: «قال رسول الله، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، ونحن جلوسٌ ذات يومٍ: والّذي
نفسي بيدِه، لا يزول قدمٌ عن قدمٍ يوم القيامة حتّى يَسألَ الله ُالرّجُلَ عن
أربعٍ: عن عمرِه فيما أفناه، وعن جسدِه فيما أبلاه، وعن مالِه ممَّا كسبَهُ، وفيمَ
أنفقَه، وعن حبِّنا أهلَ البيت، فقال له عمر: يا نبيَّ الله، ما آيةُ حبِّكم؟
فوضع يدَه على رأسِ عليٍّ، وهو جالسٌ إلى جانبه، وقال: آيةُ حبِّي حبُّ هذا مِن
بَعدي».
وإنّهم بمنزلة الوصول؛ ولذا لم يفصل بينهما
بالفعل لِكمال المجانسة. على أنَّ وجودَ الإمامِ لطفٌ من الله بعباده، إذ به يجتمعُ
شملُهم، ويتّصل حبلُهم، وحاشا لله أن يتركَ اللّطفَ وهو لطيفٌ بعباده؛ فلا بدَّ من
وجود الحجّة؛ إمّا ظاهرٍ مشهورٍ، أو غائبٍ مستورٍ، فإنّما على الله [من باب أنّه تعالى أوجبَ على نفسه] إيجادُ الإمام للرّعيّة؛ ليجمعَ شمْلَهم،
فإذا لم يُمكّنوه [أي لم يُطيعوه] من ذلك لعدم
قابليّتهم ولسوء استعدادِهم وشقاوتِهم، فما على الله بعد ذلك من حجّة، حيث قال
تعالى: ﴿..فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ التوبة:70.
وجوبُ عصمة الحُجّة
وينبغي أن يكون الحُجّة منزّهاً عن كلّ ما
يدنّسُه ويُشينه من الصّفات والأخلاق الذّميمة. ويجبُ أن يكون معصوماً؛ لأنّ
فائدته تسديدُ النّاس، وهدايتُهم، وإرشادُهم، وإلّا لَضَلَّ كما ضلُّوا، وذلَّ كما
ذلُّوا، وافتقرَ إلى غيره. وكيف يصدرُ الذّنبُ منه وأصولُ الذّنوبِ مُختصرةٌ في
أربعة: الحرص، والحسد، والغضب، والشّهوة؟
وكيف يكون الحجّةُ
حريصاً على الدّنيا وهي تحتَ خاتمِه؟
وكيف يكون يكون حسوداً
والإنسانُ إنّما يحسد مَن فوقه؟ وليسَ فوقه أحدٌ.
وكيف يغضبُ لشيءٍ من
أمور الدّنيا وإنّما خُلِقت لأجلِه؟ وإنّما يكون غضبُه لله في الأمر بالمعروف،
والنّهي عن المنكر، وإقامة الحدود.
وكيف يتّبعُ الشّهوات،
ويُؤثِرُ الدّنيا على الآخرة وقد حبَّبَ اللهُ إليه الآخرة؟ فهو ينظرُ إليها كما
ينظرُ إلى الدّنيا. وكيف يَعدل عن النّعيم الدّائم إلى الزّائل، وعن الذّهب الباقي
إلى الخزف الفاني، مع مشاهدته كِلا الأمرَين؟
وما ورد في الكتاب
والسُّنّة من نسبةِ الذّنوب إلى الأنبياء فله محاملُ صحيحة، أقربها أنّهم، عليهم
السّلام، لمّا كانوا مستغرقين في طاعة الله، إذا اشتغلوا بالمباحات زيادةً على
الضّرورات عَدُّوا ذلك ذنباً في حقّهم؛ «فإنَّ حسناتِ الأبرار سيّئاتُ
المقرّبين». وهم أفضلُ من الملائكة. ولذا أمر اللهُ تعالى الملائكةَ بالسّجود
لآدم، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى
آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:33.
ولا أعلمُ خلافاً في أنّ عدد الأنبياء مائة
وأربعة وعشرين ألف نبيّ، ولكلّ نبيٍّ منهم وصيٌّ. وسادةُ الأنبياء خمسة: نوح، وإبراهيم،
وموسى، وعيسى، ومحمّد صلّى الله عليه وآله، وهم أولو العزم، وهم الّذين عليهم دارت
الرّحى، وهم أصحابُ الشّريعة، وكلّهم جاؤوا بالحقّ من عند الحقّ. أمرُهم أمرُ
الله، وطاعتُهم طاعةُ الله، ومعصيتُهم معصيةُ الله، لا ينطقون إلّا بوحيٍ من الله؛
قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ النّجم:3-4، ومحمّدٌ صلّى الله عليه وآله سيِّدهم، وأفضلُهم، وخاتَمُهم، لا
نبيَّ بعدَه، ولا نَسْخَ لشريعتِه؛ قال تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ
وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ الأحزاب:40، ولقد ضبطْتُ من معاجزه صلّى الله
عليه وآله ألفَ معجزة [في كتاب حقّ اليقين للمؤلِّف]. ولقد كانت أقوالُه، وأفعالُه، وأحوالُه
كلّها معجزاتٍ باهرات، وآياتٍ قاهرات. وكفى بكتاب الله معجزاً عظيماً، وبرهاناً
ناجياً باقياً مدى الدّهر بين الخَلق.
وليس لنبيٍّ معجزةٌ باقيةٌ ".." فقد تحدّى به بُلغاءَ العرب، وفصحاءَهم،
وهو ينادي: ﴿..فَأْتُوا بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ هود:13، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ
فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ البقرة:23. اعتَرفوا بالعجز. ونادى بينهم
معلناً: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ الإسراء:88، فكان – وما يزال – كذلك....